لم تثر الفلسفة ربما أبدا، منذ نصف قرن من الزمان، مثلما تثير من اهتمام اليوم، فنحن نرى أطباء وحقوقيين، مثلا، يلتفتون نحوها لمحاولة توضيح المسائل المتعلقة بالأدبيات، والأخلاقيات والسياسة التي طرحتها "الهندسة الوراثية"، والفيزيائيون-الفلكيون والكيميائيون-البيولوجيون، بإعادة اكتشافهم
لمشكلات تهم الأصل (أصل الكون، أصل الحياة) يدركون أصلها ومداها الفلسفيين، وحين يفتح أخصائيو "علوم الأعصاب" والذكاء الاصطناعي،
كما يقال، منظور "علم للفكر" جديد، فإنهم يعرفون بأنهم ورثة طموح قديم جدا. وهكذا تظهر صفة "فيلسوف" إلى هذا الحد جديرة بالاحترام حتى أن كثيرا من الكتاب والصحفيين يعتقدون أن عليهم بالمناسبة أن يتصفوا بها لتقديم أفكارهم عن العالم إلى وسائل الإعلام.
لمشكلات تهم الأصل (أصل الكون، أصل الحياة) يدركون أصلها ومداها الفلسفيين، وحين يفتح أخصائيو "علوم الأعصاب" والذكاء الاصطناعي،
كما يقال، منظور "علم للفكر" جديد، فإنهم يعرفون بأنهم ورثة طموح قديم جدا. وهكذا تظهر صفة "فيلسوف" إلى هذا الحد جديرة بالاحترام حتى أن كثيرا من الكتاب والصحفيين يعتقدون أن عليهم بالمناسبة أن يتصفوا بها لتقديم أفكارهم عن العالم إلى وسائل الإعلام.
وبشكل مفارق، فإن أولئك الذين تتعلق مهنتهم بتدريس الفلسفة يبدون في معظمهم، وفي ذات الوقت، عرضة لقلق عميق. فكل مشروع للإصلاح يثير من جانبهم موجة شك عارمة يمكنها لأن تتحول إلى الهلع وإلى الرفض العنيف. فقناعتهم تعبر عن نفسها في أنهم إن لم يكونوا قد حكم عليهم بالفناء سلفا، فعلى الأقل أنهم لم يعودوا يستفيدون من الاعتبار الذي يظهر لهم أنه لازم لهم. إنهم لا يرضون، ليس دون مرارة أحيانا ذهب البعض إلى جعلها موضوع كتب، عن التحقير الذي يواجه غير المحترفين علمهم.
ألا يجب أن نبحث عن الدوافع الحقيقية والواقعية لهذا القلق في المفارقة التي أشير إليها؟ إن تدريس الفلسفة قد وجد نفسه، بالفعل في فرنسا، ضحية الفصل الفض والمشئوم الذي تم فرضه تدريجيا منذ الثانوي بين الدراسات العلمية والدراسات الأدبية. والفلسفة تتعين فيه كتخصص أدبي.
متصورة إذن وممارسة على هذا النحو، ولو ببراعة، فإنها تنكشف عاجزة عن الاستجابة للطلبات التي توجه إليها، مجازفة بخداع الكثير من التلاميذ والطلبة. والحال أن هذه الطلبات إنما توجه إليها بكيفية مشروعة بمقتضى الفكرة التي تم تكوينها عنا منذ ألفي سنة: أنها نمط أصيل من التفكير بربط معا مسائل بالمعرفة (العلوم والتقنيات في المقام الأول) والمدينة (السياسة والقانون) ضمن منظور شمولي يسمح بمقاربة المشكلات الدينية ومشكلات واقع الفن من زاوية التفكير النقدي.
بل يمكن حتى أن نقول بأن هذا النمط من الحجاج الذي يتعلق بالاستكشاف على "بياض"، بصورة مجردة استكشاف أفق الممكنات في وحدة فكر واحد إنما قد شكل حقيقة الوجه الثقافي والفكري للعالم الغربي. وإذن، فمسألة مستقبل الفلسفة وتدريسها ليس فيها أي شيء أكاديمي، بل يمكنها أن تظهر حاسمة في الوقت الذي تشهد فيه هجمات التطرف الديني، والقومية والعنصرية، مع امتداد ممارسة الشعوذة الشعبية، على الأزمة العميقة التي تضرب هذا العالم.
إن مستقبل الفلسفة يتعلق ب"المعرفة": فكثير من الباحثين، من بين الأكثر أهمية وشهرة، يشعرون بضرورة إعادة التأكيد على الحرية الأساسية للبحث النظري الأساسي ضدا على التوجه الراهن الذي يود أن يخضع تطوره لغايات تكنولوجيا صرفة. إنهم يدعوننا إلى إعادة اكتشاف الحجاج الفلسفي في المكان الذي لم ينقطع فيه أبدا، في الواقع، رغم الإنكار الوضعي، عن أن يكون حاضرا وفاعلا: في مركز إنتاج المعارف الجديدة. فالطلاق المزعوم بين العلوم والفلسفة يظهر كخدعة اخترعتها العلموية للقرن التاسع عشر وتلاعبت بها النزعة التقنوية للقرن العشرين لصالح حكم التقنوقراط.
على أن مستقبل الفلسفة إنما يتعلق أيضا بالمدينة: فأثناء قرون طويلة، وجد الفكر المعياري محركات ابتكارية، يبدو أنه أضاعها، في نمط الحجاج الذي وضعه الفلاسفة،وهذا ينسحب فب المقام الأول على القانون والاخلاقيات اللذين يطرحان، بطبيعتهما، في المطلق، ما يجب الإيمان به ويقيمان هذه القيم كموضوعات لـ"الاحترام". ولنقل مثل بيير لوجندر (Pierre Legender)، بأن وظيفتها "الوثوقية" تعرضها دوما للنزعة الوثوقية. فهل مثل هذه العودة إلى الإبتكارية يمكنها أن تسمح للمواطنين بالإفلات من حيث هم أفراد، دون كسر ذاتي، من الإمتثاليات والمقوليات التي تثقل عليهم اليوم كغطاء رصاص.
......
تتمية المقال لاحقا.
0 تعليقات