مفهوم الغير
العلاقة مع الغير
تحليل نص فلسفي لأرسطو حول العلاقة مع الغير
إن وجود الإنسان هو وجود مع الآخر، إذ لا يصح له العيش بفرده، فلابد له من العيش مع الغير/الآخر. ومن هنا سنكون قد تجاوزنا إشكال ضرورة وجود الغير، فمادام الوجود الإنساني (الوضع البشري)، يضم من بين الأبعاد التي تشكله البعد العلائقي. فنحن إذن نتجاوز إشكال الضرورة إلى إشكال العلاقة، أي علاقة الأنا بالغير. وإذا كان الشخص يدل على الذات بما هي ذات واعية وحرة ومسؤولة أخلاقيا، فإن الغير هو الآخر ذات، أوكما قال سارتر، فالغير هو الأنا الذي ليس أنا. والنص الذي سنتناوله يعالج قضية الغير ويطرح بصددها جملة من الإشكالات وهي كالتالي: إذا كان لابد للأنا من الغير، فما العلاقة التي تربط الأنا مع الغير؟ هل هي علاقة صداقة وحب، أم هي علاقة صراع وتشييء وتهديد؟ بعبارة أخرى أهي علاقة إيجابية أم سلبية؟ وبأي معنى تكون العلاقة مع الغير علاقة صداقة؟ وبأي معنى تكون العلاقة مع الغير علاقة صراع أو تهديد أو تشييء؟
يتبنى النص أطروحة وهي كون الصداقة أساس العلاقة مع الغير. فقد بدأ نصه بالتأكيد على أن الصداقة في ماهيتها وجوهرها ما هي إلا ضرب من الفضيلة، وتفيد الفضيلة الأفعال الأخلاقية التي تصدر عن الفرد من شجاعة وغيرية وصداقة، إذن فالصداقة ترتبط بمبدأ الفضيلة، والفضيلة لا تدل إلا على الخير. وقد اعتبر صاحب النص الفضيلة أشد الحاجات ضرورة للحياة، وقد نفى أن يستطيع أحد العيش بدونها. ولتدعيم أطروحته قدم صاحب النص مجموعة من الأمثلة لذلك. فقد ذهب إلى كون الغنى أو الثراء لا يشكل بديلا للأنا عن العيش دون أصدقاء. فالغنى لا ينفع إذا لم يمكن أن يحصل الغني على المدح من طرف أصدقائه، وأنه لولا الأصدقاء لما استطاع الإنسان تحصيل الخيرات العظيمة، ولما استطاع حفظها. زيادة على ذلك فالأصدقاء يعتبرون الملاذ الوحيد في حالة البؤس والشدائد، فحين نكون شبانا نطلب من أصدقائنا أن يعصمونا من الزلات عن طريق النصائح، ونطلب منهم أن يساعدوننا حين نشيخ، ونعتمد عليهم لنتم أعمالنا حينما نكون في قوتنا. بعد تقديمه لكل تلك الأمثلة على ضرورة الأصدقاء وبالتالي ضرورة الصداقة. يعود صاحب النص إلى ربط مفهوم الصداقة بمفهوم آخر وهو مفهوم الطبيعة، الذي يعني الجانب الطبيعي في الإنسان، ليبين لنا كيف أن الصداقة هي شيء طبيعي في الإنسان يولد به. لأن الصداقة ترتبط بالحب وهو إحساس فطري لا يوجد فقط بين الإنسان والإنسان، وإنما يوجد حتى بين الحيوانات. بعد مقاربته لمفهوم الصداقة من الناحية الإجتماعية والطبيعة ينتقل بنا صاحب النص إلى مقاربة سياسية، حيث استحضر مفهوم العدل، وحاول من خلال استحضاره لمفهوم العدل تبيان أي من العدل والصداقة أهم للمجتمع. ليخلص إلى أن الصداقة أهم من العدل. لأن حضور الصداقة يلغي أهمية العدل، بينما حضور العدل لا يعنى إمكانية الإستغناء عن الصداقة، يقول صاحب النص: متى أحب الناس بعضهم بعضا لم تعد هناك حاجة إلى العدل. غير أنهم مهما عدلو فإنه لا غنى لهم عن الصداقة. وفي الأخير يذهب صاحب النص إلى اعتبار الصداقة جميلة وشريفة وليس فقط ضرورية. ويمكن أن نختم تحليلنا للنص بنفس القول الذي انتهى به النص: كثير من الناس يشتبه عليهم لقب الرجل الفاضل بلقب الرجل المحب"
إن لتصور صاحب النص قيمته الفكرية، حيث ساهم في إثراء وإغناء الكتابات الفلسفية، كما أنه يدافع عن قيمة إنسانية هي قيمة الصداقة، وهذا ما يجعل تصوره ذا أهمية قصوى من الناحية الأخلاقية. لكن، أليس هذا التصور للعلاقة مع الغير، تصور مثالي؟ لا يمت للواقع بصلة؟ أليست العلاقة مع الغير علاقة صراع وصدام وتوتر؟ أو بعبارة أخرى هل العلاقة مع الغير هي دائما علاقة صداقة؟ ومبرر هذا التساؤل هو ما نشهده اليوم من فردانية، ومن صراعات وحروب تطاحن. نعم، إن هناك من بين الكتابات الفلسفية، التي تحدثت قائلة: إن العلاقة مع الغير هي علاقة صراع، هذا الموقف يمثله الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل وجون بول سارتر، فهيجل الذي ذهب إلى التأكيد على أن وجود الغير ضروري لوجود الذات، لكن هذا الوجود لا يخلو من صراع وتطاحن بين الأنا والغير، ويقدم هيجل كنموذج لهذا الصراع مثال "جدلية العبد والسيد"، التي ينتزع السيد من خلالها اعتراف العبد له بالسيادة، وأيضا ينتزع من خلالها العبد اعتراف السيد له بالسيادة حين يضعف السيد ويستكين إلى الراحة. ونفس التصور يذهب له الهيجلي (نسبة إلى هيجل) ألكساندر كوجيف، الذي أكد بدوره أن العلاقة بين الأنا والغير هي علاقة صراع وتطاحن. ويذهب سارتر إلى التأكيد كذلك على الدور الكبير الذي يلعبه الغير، بحيث هو الذي يمنح معنى لوجود الذات ويمنحها القدرة على إدراك نفسها، لكن رغم ذلك فالعلاقة بينهما هي علاقة تشييء وتجميد لحرية الأنا، وذلك من خلال النظرة ينظرها الغير والتي تجعل الذات تشعر بالخجل، وحين تشعر الذات بالخجل فإنها تكف عن ما تقوم به، وهذا دليل على فقدانها الحرية. من هنا كانت عبارته المشهورة التي ختم بها مسرحيته "جلسة مغلقة "، الجحيم هم الآخرون. ويميز الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر بين نمطين من الوجود: وجود زائف أو سطحي: ويتميز بالسقوط، أي أن الذات تسقط من مكانها لترتمي في أحضان الجماعة ويمكن أن نصف الذات في هذه النقطة بأنها تهرب من نفسها ومن حقيقتها لتعيش مع الجماعة. ووجود حقيقي وأصيل: يتم بواسطة قفزتين وجوديتين، ويتميز بعودة الذات إلى نفسها وإلى حقيقتها، فهو وجود قلق، وفي هذا القلق الذي يتطلب شجاعة كبيرة تكتشف الذات حقيقة وجودها وبأن هذا الوجود هو وجود متناهي يهدده الموت. على ضوء هذا التمييز يتبين أن العلاقة مع الغير هي علاقة اتصال وانفصال، فهي علاقة اتصال ليعيش الفرد حياته اليومية وعلاقة انفصال ليعيش الإنسان حقيقته وحقيقة وجوده.
إن الغير سواء كان فردا أو جماعة او ثقافة، قريبا منا أو بعيدا عنا، هو جزء لا ينفصل على وجودنا الجماعي، وليست العلاقة التي تربط بين الأنا والغير هي علاقة واحدة ووحيدة، فإذا كان صاحب النص يؤكد على أهمية علاقة صداقة الفضيلة، فإن سارتر وهيجل وكوجيف، يؤكدون على كون العلاقة الرابطة بين الأنا والغير، هي علاقة صراع وتشييء وتطاحن، بينما ذهب هايدغر إلى أن هناك علاقة اتصال وانفصال بين الأنا والغير، الأولى ليعيش الفرد حياته اليومية، والثاني ليعي الإنسان حقيقته وحقيقة وجوده. الإختلاف الحاصل بين التصورات هو لأن صاحب النص يبحث عنا يجب أن يكون، بينما يذهب الفلاسفة الآخرون إلى ما هو كائن وواقعي. من هنا يظهر أن العلاقة مع الغير يجب أن تكون علاقة صداقة وحب وود إيخاء، ما دام الإنسان مجبرا على الإجتماع بفطرته، وفي نفس الوقت أن يكون مصارعا من أجل تحقيق ذاته والدفاع عن وطنه.
0 تعليقات