مجزوءة المعرفة
النظرية والتجربة
إن الحديث عن العقلانية العلمية، يقودنا مباشرة إلى
التساؤل عن دور العقل في العلم، ويقودنا إلى التساؤل عن علاقة العقل بالتجربة
وبالواقع. إذن ما هي خصائص العقلانية العلمية؟ وما هي حدودها؟ وهل العقل قادر على
بناء معرفة علمية؟ وهل القول بأهمية العقل في بناء معرفة علمية نفي لأهمية التجربة
والواقع؟
الموقف
التجريبي: هانز رايشنباخ نموذجا:
هانز رايشنباخ: فيلسوف وفيزيائي وعالم
منطق ألماني، من رواد مدرسة الوضعية المنطقية.
ترفض الوضعية استعمال مفهوم "العقلانية العلمية" في مجال العلوم التجريبية، فالعقلانية مذهب فلسفي مثالي مجرد، يعتبر العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، في حين أن التجربة هي مصدر كل معرفة علمية. لكن لا يعد إبعاد مصطلح العقلانية العلمية إبعادا للعقل عن العلم، لأن المعرفة التجريبية تقتضي "استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة". أي استخدام العقل من خلال القيام بالممارسة التجريبية لا منفصلا عنها، وهذا ما يسميه رايشنباخ بـ"المعقولية العلمية". وبالتالي فإن الإعتماد على العقل فقط بعيدا عن التجربة والملاحظة لا يؤسس معرفة علمية، بقدر ما ينتج أبنية عقلية مثالية، تشبه النزعة الصوفية الحدسية التي ترى الحل في الانفصال عن الواقع. يقول رايشنباخ: "
عندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة".
موقف
العقلانية التطبيقية: ألبرت إنشتاين نموذجا:
ألبرت إنشتاين عالم فيزيائي أمريكي من أصل
ألماني ، مؤسس نظرية النسبية من مؤلفاته "النسبية"
لقد دفع القول بأهمية التجربة على العقل في بناء النظرية العلمية، ألبرت إينشتاين إلى مساءلة الاتجاه التجريبي بقوله: "إذا كانت التجربة هي منطلق ونهاية معارفنا حول الواقع، فأي دور يبقى للعقل في العلم؟" يجيب إينشتاين في نفس السياق قائلا: "إن العقل يمنح النسق الفيزيائي بنيته، أما التجربة وعلاقتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية". من هنا يتبين لنا كيف أن إنشتاين بين دور كل من التجربة والعقل، وقام بإعطاء الأولوية للعقل على التجربة وربط التجربة بالعقل، عكس التجريبيين الذين قالوا بارتباط العقل بالتجربة وليس العكس. وقد وضح أينشتاين بأن التجربة يمكنها أن ترشدنا في اختيار بعض المفاهيم الرياضية التي سنستعملها إلا أنها لا يمكن أن تكون المنبع الذي تصدر عنه. ويضيف إينشتاين قائلا: "أنا متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تربط بينها، والتي تمكننا من مفتاح فهم ظواهر الطبيعة". في الأخير يمكن أن نختم بقول إينشتاين
"إن المبدأ الخلاق في العلم هو الرياضيات".
الموقف
التوفيقي: غاستون باشلار نموذجا:
غاستون باشلار عالم وإبستمولوجي معاصر من
مؤلفاته: الفكر العلمي الجديد.
يمثل موقف العالم الإبستمولوجي الفرنسي صاحب مؤلف "الفكر العلمي الجديد" غاستون باشلار موقفا توفيقيا بين دور كل من العقل والتجربة في بناء معرفة علمية، فباشلار يؤكد على ضرورة الحوار بين كل من التجربة والعقل في بناء المعرفة العلمية، لكنه يشترط أن يكون العقل هو صاحب المبادرة وليس التجربة.
من هنا نتبين كيف أن غاستون باشلار ينتقد الفلسفة
الوضعية كنزعة تجريبية وينتقد الفلسفات العقلانية في تنوعها واختلاف توجهاتها
الفلسفية والعلمية على السواء.
ولتدعيم موقف باشلار نستدعي القولة التالية:
"لكي يكون المجرب جديرا بهذه الصفة، عليه أن يكون منظرا وممارسا في الوقت نفسه... فاليد الماهرة التي لا يوجهها عقل هي أداة عمياء، والعقل بدون اليد يظل عاجزا".
مع تحياتفيلوكلوب
0 تعليقات