مشروعية الدولة وغاياتها حسب النظريات
التعاقدية : طوماس هوبز، جون لوك، جون جاك روسو، باروخ اسبينوزا،
تقديم:
كثيرة هي النظريات التي حاولت تفسير نشوء الدولة وتفسير
غاياتها ومبررات وجودها وفرض سلطتها وسيادتها على الأفراد، ومن بين تلك النظريات
نجد النظريات التعاقدية. هذه الأخيرة ترى بأن الأفراد كانوا يعيشون في حالة
الطبيعة، وهي حالة سابقة على الدولة والقانون والمدنية، وكان كل فرد يتصرف وفق
طبيعته. ولعدم إمكانية الإستمرار على تلك الحالة، كان لابد الإنتقال عبر تعاقد
اجتماعي إلى حالة أخرى تتميز عن السابقة بغياب الحرية المطلقة ، وهي حالة المدنية،
حالة الدولة.. فكيف تصور فلاسفة النظرية العاقدية نشأة الدولة؟ وكيف نظروا إلى
مشروعيتها؟ وفيما حددوا غاياتها؟
أولا:
طوماس هوبز غاية الدولة ضمان السلم والأمن والعدل
فيلسوف إنجليزي عاش بين سنتي 1588 و1679م، لامست
اهتماماته ميادين الفيزياء والرياضيات والتاريخ والسياسة، وقد شكلت كتاباته
السياسية نقطة تحول في الفلسفة السياسية الحديثة. من مؤلفاته: "التنين"،
"المواطن"
ينطلق الفيلسوف الإنجليزي في كتابه "التنين"
من حالة الطبيعة –وهي حالة افتراضية- باعتبارها حالة كان فيها الفرد يتصرف وفق حرية مطلقة، وكانت له
الحرية المطلقة في استخدام قوته الخاصة ليحافظ على حياته. لذلك، كانت النتيجة هي
العنف والاقتتال، وحالة حرب الكل ضد الكل، "ولأنه لا يوجد شيء يمكن استخدامه
ضد الأعداء، فإن النتيجة هي أنه كان لكل
فرد الحق في كل شيء، بل وحتى حق البعض في أجساد البعض. لذلك كان لابد للأفراد من
الإنتقال من حالة الطبيعة التي تهدد البقاء والإستمرار، إلى حالة يمكن معها
الإستمرار على قد الحياة، وهذه الحالة هي حالة الدولة، وحالة القانون والحرية
النسبية المقيدة، والتي تم الإنتقال إليها عبر عقد اجتماعي يتنازل فيه الأفراد عن
حريته وسلطتهم لصالح الحاكم.
هكذا تكون غاية الدولة هي تحقيق السلم، وتوفير إمكانية
الحفاظ على الذات، وبالتالي تكون هذه الغاية هي مبرر وجود الدولة ومبرر سيادتها على الأفراد وفرض
سلطتها عليهم وأساس مشروعيتها.
ثانيا:
جون جاك روسو: غاية الدولة الحفاظ على الحقوق الطبيعية وضمان الحقوق المدنية
جون جاك روسو فيلسوف ومفكر سياسي سويسري، ولد سنة 1717م
بجنيف وتوفي سنة 1778. من مؤلفاته: "إميل"، "العقد
الإجتماعي"، "خطاب حول اصل التفاوت بين الناس".
يتفق جون جاك روسو مع طوماس هوبز في كون الدولة جاءت كنتيجة لعقد اجتماعي، لكنه يختلف معه. فجون جاك روسو يرى أن حالة الطبيعة ليست حالة حرب وعنف واقتتال، وإنما حالة حرية ومساواة. لأن الإنسان ليس شريرا بطبعه. غير أن الذي دعى إلى ضرورة العقد الإجتماعي هو الصراع الذي نشأ بسبب ظهور الملكية الخاصة.
ولذلك فالتعاقد الإجتماعي لا يجب أن يكون بين الأفراد
فقط، بل بينهم وبين الحاكم أيضا، وأيضا فالحاكم لا يجب أن يكون كالتنين، الذي
يتميز بالسيادة المطلقة. وإنما يجب أن تتأسس سلطة الدولة على مفهوم الإرادة
العامة، أي الإرادة التي تعنى بالمصالح المشتركة للمواطنين.
نخلص إذن، إلى أن التعاقد الاجتماعي هو أساس قيام الدولة وأساس مشروعيتها
، وأن العقد الإجتماعي ما هو إلا اتفاق جماعي، لا يتم فيه التنازل للحاكم عن الحقوق
بل يقوم على الإرادة العامة للشعب. ومنه نخلص إلى أن غاية الدولة ليس السيادة
المطلقة، وإنما الحفاظ على الحقوق الطبيعية كالحق في الحياة والحق في الحرية، وضمان
الحقوق المدنية كالملكية وكالمساواة.
ثالثا : جون
لوك غاية الدولة الحفاظ على الخيرات الخارجية (الملكية الخاصة...) والداخلية
(سلامة البدن)
جون لوك فيلسوف ومفكر سياسي إنجليزي، عاش بين سنتي 1632
و1704م، من مؤلفاته: "في الحكم المدني"، رسالة في التسامح"،
"رسالة في الفهم البشري".
يؤكد الفيلسوف الإنجليزي بدوره على أن حالة الطبيعة هي حالة سابقة على حالة الدولة، حالة المدنية. وأن هذه الحالة الأخيرة كانت نتيجة لتعاقد إجتماعي تم إبرامه بين الحاكم والأفراد، ويقضي بالتنازل عن بعض الحقوق للحاكم، بمقدار ما يسمح بقيام سلطة عامة. أما باقي الحقوق فلا يجب التنازل عنها للأفراد، ومن بينها ما اصطلح عليه بالخيرات الخارجية والخيرات مدنية، الخيرات الخارجية كالأرض والنقود والمنقولات، والخيرات المدنية كالحياة والحرية وسلامة البدن. وإذا لم يحفظ الحاكم على تلك الحقوق فإنه سيكون قد أخل بالعقد وبالتالي فقد مشروعيته.
خلاصة القول، أن الدولة حسب جون لوك تستمد مشروعية ومبرر
وجودها من العقد الإجتماعي، وأن غايتها تتمثل في الحفاظ على الأمن والملكية الخاصة
والسلامة... وبالتالي فعد قيامها بمهامها يجعلها تفقد مشروعيتها.
رابعا:
باروخ اسبينوزا غاية الدولة ضمان الحرية، حماية حرية التعبير، التأمين من الخوف
باروخ اسبينوزا: فيلسوف هولندي عاش بين سنتي 1632
و1677م. من مؤلفاته: "رسالة في اللاهوت والسياسة"، "الأخلاق".
ينطلق اسبينوزا هو الآخر من اعتبار حالة الطبيعة حالة سابقة لحالة الدولة، وما كان يميز الأولى هو كونها حالة الحرية المطلقة، ، وحالة يتصرف فيها الأفراد حسب شهواتهم. وبالتالي كان الإنسان مهددا على الدوام، فكان من الضروري الإنتقال إلى الحالة التي لا يشعر فيها الافراد بالتهديد، وإنما يشعر فيها بالأمن والحرية _بمعناها السياسي القانوني_. وهذا الإنتقال قد تم عبر عقل اجتماعي يتخلى بموجبه الأفراد عن حريتهم المطلقة، ويسلكون وفقط طريق العقل والقانون لا وفق الشهوات والأهواء.
و يحدد باروخ اسبينوزا في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة
الغاية من قيام الدولة، حيث يقول: " إن الغاية من تاسيس الدولة ليست السيادة،
أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل تحرير الفرد من الخوف بحيث
يعيش كل فرد في أمان قدر الإمكان، أي أن يحتفظ بقدر المستطاع بحقه في الحياة وفي
العمل دون إلحاق الضرر بالغير.
إذن فالدولة حسب اسبينوزا تستمد مشروعيتها ومبرر وجودها من
العقل الإجتماعي، ومن حالة الطبيعة التي ما كانت لتسمح باستمرار الجنس البشري، وأن غايته ليست التخويف أو الترهيب أو السيادة
وإنما تحرر الأفراد من الخوف، وتمتيعهم بالأمن والحرية والحق في الحياة والعمل..
خاتمة:
يتبين من خلال ما سبق أن النظرية التعاقدية التي يمثلها
كل من طوماس هوبز وجون جاك روسو وجون لوك وباروخ اسبينوزا، ترى أن الأفراد كانوا
يعيشون في إطار حالة الطبيعة بما هي حالة يتصرف فيها الأفراد حسب طبيعتهم الخاصة، وأنه
تم الإنتقال من تلك الحالة إلى حالة الدولة وحالة المجتمع وحالة المدنية عبر عقد
اجتماعي.
0 تعليقات