مجزوءة السياسة
مفهوم العنف: أشكال العنف:
يعتبر العنف واقعة تاريخية لا جدال فيها، واقعة لازمت المجتمعات الإنسانية، ولذلك كان لابد لأي بحث في السياسة أن يبحث في مفهوم العنف أيضا. فالسياسة من جهة تستهدف القضاء على العنف، لكنها من جهة أخرى تستخدمه. ولذك لابد من تسليط ضوء السؤال على العنف، ومقاربته فلسفيا من خلال البحث فيما يثيره من إشكالات ومفارقات، ولعل ما يمكن أن نتساءل عنف بخصوص العنف؛ أشكاله وتمظهراته وتجلياته، وأيضا إمكانية من عدم إمكانية حصره في مظاهره المثيرة كالحروب. فما أشكال العنف و ما هي تمظهراته وما هي تجلياته؟ وهل يمكن حصر العنف في مظاهره المثيرة كالحروب، أم أنه قد يوجد على نحو خفي وكامن؟ بمعنى آخر هي يتخذ العنف شكلا ماديا فقط، أم أنه يتخذ شكلا رمزيا ومعنويا؟
إجابة على الإشكالات السالفة الذكر، يمكن القول بأن أشكال العنف تتعدد، وتتخذ شكلين؛ شكل مادي وشكل رمزي.
بخصوص العنف المادي فهو العنف المادي الذي يستهدف الجسم، وهو عنف فيزيائي يمكن معاينته. ومن الأمثلة على العنف المادي ما أورده الفيلسوف الفرنسي المتخصص في دراسة ظاهرة العنف "إيف ميشو"، حيث يقول: "لقد كان العنف، الذي ماثل، اليوم، في معظم المجتمعات بأشكال متعددة تبتدئ من أكثر الأشياء اختفاء (نقص التغذية) إلى أكثرها ضراوة (الإعدامات)، من بين السمات الممزة لمجتمعات القرن العشرين. فقد حدثت فيه حربان عالميتان انتهت إحداهما بما يشبه القيامة النووية (هيروشيما)، والعديد من الإبادات، وأشكال مختلفة من العنصرية والاضطهاد ، ومن عدم التسامح ، والحروب الاستعمارية وحروب التحرير والأنظمة العسكرية والبوليسية، ومعسكرات الاعتقال والتجميع وإعادة التربية، وأخيرا الإجرام الذي هو جزء مهمل من العنف ولكنه مستغل من طرف الإعلام: إن هذه اللائحة مملة لكنها غير وافية".
يتبين من خلال هذا القول؛ قول إيف ميشو، أن مظاهر العنف متعددة بشكل يجعل عدها وإحصاءها مملا، وهي تتنوع بين شكلها الظاهرة كالإعدامات والحروب، وشكلها الخفي كنقص التغذية.
بعد تحديد مظاهر العنف والتي لازمت القرن العشرين بالخصوص، يؤكد إيف ميشو على ارتباط العنف بالتكنولوجيا والإعلام، فالتكنولوجية ساهمت في تطوير وسائل العنف والحديث هنا عن الأسلحة بالخصوص. أما يخصوص علاقة الإعلام بالعنف، فقد أكد إيف ميشو على ارتباط العنف بوسائل الإعلام التي تنشره وتستعمله كما تشاء أو تصمت عنه.
أما بخصوص العنف الرمزي فلا يمكن إلا الوقوف عند تصور أحد أعمدة علم الإجتماع المعاصر، وهو السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو (1930-2002). يعرف بيرر بورديو العنف الرمزي في كتابه الهيمنةا الذكورية بقوله: "العنف الرمزي، هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرق والوسائل الرمزية الخالصة أي عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والإعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات" وبهذا يكون العنف ذو طابع كامن وخفي.
وفي كتابه يقول بيير بورديو: "يمكن أن يحقق العنف الرمزي نتائج أحسن قياسا إلى ما يحققه العنف السياسي والبوليسي... إن أحد أكبر مظاهر النقص في الماركسية هو أنها لم تفرد مكانا لمثل هذه الأشكال اللطيفة من العنف، التي هي فاعلة ومؤثرة حتى في المجال الإقتصادي... والعنف الرمزي هو ذلك الشكل من العنف الذي يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطؤه". والواضح من هذا القول هو انتقاد بورديو للفلسفة الماركسية التي أعطت بالغ الأهمية للعنف المادي، لكن بورديو يؤكد على قوة تأثير العنف الرمزي، لأن الأفراد الذي يمارس عليهم بموافقته وتواطؤهم.
ولتوضيح موقف بيير بورديو، وتوضيح العنف الرمزي، يمكن الوقوف عند مفهوم إعادة الإنتاج، وخاصة داخل الحقل التعليمي، فالمتمدرسين لا ينتمون إلى نفس الوسط الثقافي، وبالتالي ليس لن يكون لهم نفس المستوى الثقافي، لكنهم رغم ذلك يدرسون بنفس بالمؤسسات ويتلقون نفس التعليم، والنتيجة ستكون تفوق المنحدرين من العائلات المحظوظة، وهذا نوع من لا تكافؤ الفرص الذي سيؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الوضع،
خلاصة القول أن العنف يتخذ شكلين، فهو لا ينحصر فيما هو مادي كالحروب والصراعات والقتل والتعذيب ، بل يتجاوز ذلك إلى شكل أكثر مرونة، وهو العنف الرمزي والخفي. وكيفما كان شكل العنف فهو يبقى عنفا، وبالتالي وجب نبذه واستئصاله، رغم أن العنف اعتبر ظاهرة لازمت التاريخ البشري، وهنا يممن أن نتساءل: كيف يتولد العنف في التاريخ الإنساني؟
0 تعليقات