محمد غنام : في الأسين الأخلاقي و المنطقي لتعقيل الكلام

فيلوكلوب أبريل 15, 2019 أبريل 15, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A


أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي، مسلك الفلسفة والعلوم الإنسانية. حاصل على شهادة الماستر ـ تخصص الفلسفة العملية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ـ فـــــــاس.

في الأسين الأخلاقي و المنطقي لتعقيل الكلام
مدخـــل:
إن منتجات الحضارة الإنسانية  بمختلف مجالاتها، لا يمكن تبليغها و تداولها بين الناظرين في مسائلها إلا بموجب الكلام و التخاطب .
فالتخاطب،  أو التحاور، أو الكلام ... كلها بيئة واحدة لفعل واحد ألا وهو التواصل.
لا يمكن للأمم تحسين آلياتها و مناهجها في كل المجالات الإنسانية التي تقوم على التواصل، إلا إذا رفعت دعاوى الصلاحية في قبول الكلام مع المختلف . بيد أن ما يواجهه السالكون في هذا الباب، هو تعدد عقلانيات تخاطبهم، أو بلغة أخرى تنوع النماذج التي تؤسس لتحاوراتهم . إذ نشهد ما يعرضه الاختلاف في المنهج من نتائج إما سلبية أو ايجابية عند تحاجج الأطراف المتناظرة ، فإذا يؤمن عمر بالتعاون في إبراز الحقيقة ، يؤمن زيد بالتغليط لتحصيل الظن .
فالمناظرة تفرض الكلام كجنس لا أنواعه كأجناس،  بل ما يدخل في باب الحجاجيات وجب تأسيسه على قواعد منطقية وأخلاقية تسدد كلامنا من حيث النتيجة بالمنفعة، التي تقضي تحصيل العلم و إظهار الحقيقة .  فتأسيس الخطاب من جديد على أصول عقلية، هو تحديث لعلم الكلام، و هذا بالضبط ما تشير إليه عبارة العقلانية الكلامية .
إن تأسيس الاشتغال العقلي الكلامي عند النظار، لن يستقيم إلا إذا قعد على قوانين و مبادئ منطقية و أخلاقية،تعطي للممارسة الكلامية آفاق مستقبلية منتجة. غايتها النافع، مضمونها بث في الاختلافات و النزاعات، آلياتها أخلاق حميدة، و لغة سديدة، و استدلالات فاعلة متفاعلة مقنعة. 
و نقصد بالأسس عامة،  تلك المبادئ بشقيها المنطقي و الأخلاقي ، من حيث هي مجودة و مجددة للكلام،  باعتباره طريقة ايجابية لحل النزاعات الفكرية و الفقهية و السياسية . 
فإذا صان الكلام ذاته بالآليتين المنطقية والأخلاقية، صار عقلاني القاعدة فاعلي المسالك. بحيث يركز في هذا التأسيس المبدئي على المنهج لا على المضامين في تصوير  النظريات، هذه الأخيرة التي الأخد بها لا مجموعة من المضامين المعرفية مستقلة بذاتها و مميزة لأهل الكلام، بقدر ما يجب اعتبارها جملة من المناهج التي تتسم بالفعل والمفاعلة في تحصين المعرفة. وهكذا سيكون هذا المعطى بمثابة إدخال لأصول الحوار على قواعد الكلام، لإضفاء الفاعلية عليه .
وسيكون عمدتنا في الاشتغال على هذه الورقة، كتابين مهمين؛ الأول،" في أصول الحوار و تجديد علم الكلام" للفيلسوف طه عبد الرحمان، خاصة الفصل الأخير منه الذي يدخل في باب المسألة الكلامية، من حيث التجديد. و الثاني، " الكلام كجنس" للأستاذ العلمي حمدان، خاصة في مسألة التصديقات.

1/الشق الأخلاقي :

هذا الشق الأخلاقي يستند إلى معيار عام هو : 
لا يعاقل المتكلم حتى يعامل غيره بما يحب أن يعامله هذا الغير به.
 إن هذا المعيار يفترض أن نحب للآخر ما نحبه لأنفسنا كما جاء في الأخلاق الإسلامية، كما إن استخدام لفظ يعاقل يدل على شرطين كبيرين لبناء التناظر، و هما: 
         أن المتكلمين عاقلان  
         أنهما معاقلان أي أن الواحد منهما يشرك الآخر في تعقيل المسألة المطروحة للنقاش.
      فالعاقلية نزعة ذرائعية تسدد فعل الكلام بشكل ملتزم و عاملي، يجعل المشتركين بالنظر في المسائل, يوجهان السلوك بهدف معين. أي صيانة العمل الكلامي من العبث، هنا بالضبط تدخل النية الحسنة، و الارادة الحرة في توجيه السلوك الكلامي الذي وجب اتصافه بالحسن.
      إن الشق الأخلاقي يسعى لتجويد التخاطب الكلامي و رفعه إلى منزلة السداد، إذ يجعل المتكلم متعقل من حيث اختيار الوسائل و المناهج و تحديد الهدف من الكلام، طبقا للمعيار التالي : 
         ليكن مطلبك مقدورا لك، , و ليكن تحصيلك له بأقرب الطرق.
        و لما كان الكلام ضرب من التناظر،  فلا عيب من أن يتمسك أطراف المعاقلة أو المفاعلة الكلامية بأخلاقيات المناظرة عامة،  هذه الطرق في السلوك التناظري التي تبنى خاصة على ثقافة الإنصات و التعاون بين العاقلان . و نذكر بعض هذه الأخلاقيات على سبيل المثال لا الحصر: 
1-    أن يكون المتناظران متقاربين معرفة  ومكانة ، حتى لا يؤدي استعظام احدهما الأخر ، أو استحقاره له ، إلى أن يضعف عن القيام بحجته أو يتهاون فيه.
2-    أن يمهل المناظر حتى يستوفي مسألته، كي لا يفسد توالد أفكاره, و حتى يفهم مراده من كلامه كي لا يقوله ما لم يقله .
3-    أن يتجنب المناظر الإساءة إلى خصمه بالقول أو الفعل بغية إضعافه عن القيام بحجته، و من ذلك قلة الإصغاء إليه و السخرية منه، و تخجيله بفضح عيوبه، و تشنيعه بالقدح في كلامه، و التطاول عليه بالتنقيص و الشتم.
                                                       
4-    أن يقصد الناظر الاشتراك مع خصمه في إظهار الحق و الاعتراف به،  حتى لا يتباهى به إذا ظهر على يده، و لا يعاند فيه إذا ظهر على يد خصمه .
5-    أن يتجنب المناظر محاورة من ليس مذهبه إلا المضادة، لان من كان هذا مسلكه، لا ينفع معه الإقناع بالحجة .
إذن؛ من جملة هذه الآداب، يظهر مدى تمسك طه عبد الرحمان بروح التعاون و المشاركة في إظهار الصواب، عن طريق الإنصات و عدم الإساءة للخصم . فهذا بالفعل ما يمكنه أن يؤسس للعقلانية الكلامية أخلاقيا من حيث هي انعكاس على السلوك التخاطبي، و اعتراف بحقوق الغير المناظر لنا .

/الشـق المنطقـي :

        أما الشق المنطقي فيستند إلى معيار عام  وهو : 
         لا يعاقل المتكلم إلا إذا التزم طرق الاستدلال التي يطالب غيره الالتزام بها.
يجب على طرفي الخطاب الالتزام بطرق استدلالية معينة و خطابات تصديقية معينة، كما يشترط أن تكون المواضع التي بنى عليها كل واحد منهما خطابه واضحة بالنسبة للآخر .
إن الالتزام بطرق استدلالية معينة في بناء القول الكلامي، غايته خلق التكافؤ الحجاجي بين الناظرين في قضية النقاش من حيث الصدق و الألفاظ من جهة،  و من حيث المقدمات المستعملة من جهة ثانية .

Ø     في باب الصدق و الألفاظ:

 أ- الصدق:  
إن الصدق في الاستعمال العربي يطلق على وصف الأشخاص كما يطلق على وصف الأحكام و القضايا، فيقال لمن يقول الحق بوجه عام؛ صادق.  و يقال لما يرادف الصواب المقابل للكذب المرادف للخطأ، و منه مثلا : القضية حكم يحتمل الصدق و الكذب وهنا الصدق بالمعنى المنطقي أي صدق الأحكام و القضايا .
    لما كان الصدق ضرب من تشكيل الخطاب , فهو على غرار هذا الأخير ينقسم إلى شقين؛ ما هو بالذات و ما هو بالعرض .
                                                       
         الذاتي : الشيء الذي إذا ارتفع ، ارتفع ما هو ذاتي له، أو الشيء الذي يدخل في تصميم ماهيته .
عندما نقول الإنسان حيوان ناطق، فيكون الإنسان ما صدق ، و الحيوانية و النطق مفهومان يحملان عليه , فالنطق ذاتي في الإنسان إذا زال حذف الإنسان و إذا بقي وجد الإنسان، كما هو الحال بالنسبة للحيوانية . فالماهية التي يتقوم بها الشيء هي الذاتي أو الجوهري، أو ما يطلق بمعنى أقوى .
         العرضي : أو الأعراض الذاتية، و هي غير المشكلة لماهية الشيء، إذ توجد الذات رغم غياب هذه الأعراض.

 ب- الألفاظ

إن اللفظ، ما نتلفظ به و يعبر عن دلالة، و في الكلام وجب أن تكون الدلالة باللفظ واضحة لمعرفة قصد المتكلم، و في هذا الباب يطلق اللفظ بثلاث استعمالات و هي : 
         ألفاظ نستعملها بتواطئ: و هي التي تكون لها دلالة في التساوي و تقصي التفاوت .
         ألفاظ تستعمل باشتراك: و هي التي تطلق بأكثر من دلالة،  و هذه الدلالات تكون صحيحة لغويا و تركيبيا ، لكن مع وجود التفاوت .
         ألفاظ تطلق بتشكيك: و هي التي تطلق بدلالة واحدة لكن بقوة أو ضعف, بتقديم أو بتأخير ... مع وجود التفاوت كمثال: الوجود و الموجود .
ان توضيح المتكلم لنوعية الصدق في خطابه، و استعمالاته للألفاظ هو ما يجعله أخلاقيا، بحيث يود إبراز قضيته للمخاطب .
لما كان الصدق و اللفظ هو ما يؤسس الخطاب، فهذا يجعل المبدأ المنطقي للكلام يرتبط بالتصديقات , و هذه الأخيرة، قولين كبارين، و هما؛ البرهان و الحجاج . إما ما يفيد اليقين أو ما يفيد اللايقين .
و التصديقات ليست الصادقات بالعموم , و لا يمكن أن توصف بالصدق على وجه التخصيص أو الكذب كذلك. إذ تدخل في باب الترجيح الكلامي , أي إعلان القول و استقصاء إما إيجابيته أو سلبيته .
     و بشكل عام التصديقات، هي؛ انخراطاتنا في الأخذ بالإيجاب أو بالسلب تجاه قضية معينة تكون المظهر الخارجي لعملية سيكو – عقلية .    
والتصديقات في باب المبدإ المنطقي هي كالتالي : 
            إذا سوغت بالمقولات , كانت مقالة حول الوجود بكيفيات .
            إذا سوغت بالعبارة كانت تفسيرا أو تأويلا أو حكما .  
            إذا سوغت بالتحليل كانت قياسا .
            إذا سوغت بالتحليل التصنيفي كانت بثا في قوة أقيسة المناظر أو ضعفها .
            إذا سوغت بالجدل كانت ظنا .
            إذا سوغت بالخطابة كانت إقناعا . (الإقناع في الخطابة هو تحصيل الظن، تبعا لحجاجيات ارسطو  و ما شرحه الفارابي، و التفاوت بين ظن الجدل وظن الخطابة يكون في القوة المحصلة عن طريق استعمال المقبول أو المشهور من المقدمات).
            إذا سوغت بالسفسطة كانت تغليطا و تبكيتا.
            إذا سوغت بالشعر كانت تخييلا أو استعارة أو رمزا.
من كل هذه التسويغات تصدر تصديقاتنا طبقا للمبدإ المنطقي , إما عن قول برهاني أو قول حجاجي كما ذكرنا سابقا .
فالصناعة البرهانية تختلف عن الحجاجية، بالمقدمات المستعملة و الغاية المنشودة رغم ان كليهما، له الحق في استعمال الأقيسة .
            فالبرهان مقدماته ضرورية يقينية غايته تعليمية .
            أما الحجاجيات مقدماتها إما مقبولة أو مشهورة غايتها الإقناع .
و في الحجاجيات هناك تفاوت بين الأقاويل , فأقومها الجدل و الخطابة، و الجدل صناعة امتن لأنها تبنى على المشهورات غالبا، لا على المقبولات كما هو الحال في الخطابة .
و نجاح القول التصديقي من الناحية المنطقية و الاستدلالية أو فشله؛ يحتكم لأربع سمات تتصف بها المقدمات المستعملة و هي : 
الشهرة – القبول – الخصوصية – العمومية .

  و لما كانت التصديقات في الكلام هي المشكلة للمعرفة الإنسانية فهي جواب مستدل عليه،  حول مسائل أو مطالب أربع،  و هي؛  

إن العلاقات المشكلة للمطالب، تظهر من خلال الإثبات أو النفي, لكي تدخل في باب عدم التناقض و الثالث المرفوع . كما يستدل إثبات الشيء على مبدإ الهوية في منطق التفكير .
حصيلة : 
       كل هذا استقصاء متواضع مبسط لأشكال التصديقات المقعدة للمبدإ المنطقي لدى المتكلم، و التي بها تساغ  استدلالاتنا .
       و تبعا للمبدإ المنطقي الذي يرى طه عبد الرحمان انه ما يجب أن يلتزم به العاقلان المعاقلان للمسائل، نستشف أن الالتزام العاملي بالطرائق و حتى المواضع , لا يكون إلا إذا اتفق مسبقا على ذلك أخلاقيا بالتحديد من طرف المتناظران العاقلان . هذا بالطبع ما يجعل المفاعلة ممكنة،  والتشارك،   والتعاون في إبراز الحق، هدف و غاية من الكلام عامة.
    إن هذا الطرح يخلق أقاويلنا من جديد و حتى استعمالاتنا للاستدلالات في باب الصناعات التخاطبية، إذ يحث العاقلان على الاجتهاد رقيا بالحوار .
       إن الصدق , و اللفظ , و الصناعة الخطابية عامة , يجب أن تخضع للأسس الأخلاقية و المنطقية المحددة لقوانين الاشتغال لدى المتكلمين لكي لا نتكلم من أجل الكلام،   والإفحام،  و الغلبة، بل للاستنفاع من التخاطب عن طريق الوصول إلى نتيجة يتشارك و يتعاون في إبرازها الطرفان العاقلان .
     هكذا يجدد الكلام، ليصبح الطريقة الحوارية الأكمل و الأشمل لحل كل الاختلافات المؤسسة للمعرفة الإنسانية .  و ليست العقلانية الكلامية في هذا الباب؛ إلا ضرب منهجي بامتياز يحتوي إمكانية التقارب أكثر من المضادة. 


شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/