- المرأة تحت قيود اللغة
- بقلم الطالب الباحث : يوسف القرشي ٠٠
___________________
تعد النظرية النسوية لما بعد الحداثة من أبرز النظريات التي اهتمت بتفسير
الفروق بين الجنسين على أساس اللغة، وكون هذه الأخيرة عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات
من القواعد والإشارات والرموز والمعاني والأدوار التي ينشأ عليها الأطفال اجتماعيا
وثقافيا، فالأطفال الذكور يتوافقون مع آبائهم لأنهم يشبهونهم فيزيقيا وماديا، من خلال
اللغة السائدة والأدوار التي يكتسبونها عن آبائهم مما يطور حسهم الأخلاقي، عكس الفتيات
أقل حسا أخلاقيا لأنهن لا يتماثلن مع آبائهن.
واعتبر جورج هربرت ميد الأب الذي طور نظرية التفاعلية
الرمزية أن «اللغة هي الأساس الذي يتعلم من خلاله الأطفال الأدوار الجندرية من خلال
الاتصال والتواصل مع الآخرين.»1 وذلك عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية والتفاعل
الاجتماعي مع الآخرين يتطور مفهوم الجندر الخاص بكل جنس بناء على قيم وتوقعات المجتمع، فيتعلم الأطفال
كيف يرون أنفسهم وأنفسهن من خلال المحادثات والتفاعل المستمر واستخدام الرموز المناسبة
للموقف.
وتؤكد شهادات النساء أنفسهن على أن الديانات السماوية قد أكرمت المرأة،
وأعطتها حقها غير أن الثقافة والتاريخ من خلال اللغة قد بخساها هذا الحق، «إن موقف الدين بوصفه وحيا منزلا وبوصفه دين الفطرة يعطي المرأة حقها
الطبيعي، ولكن الثقافة بوصفها صناعة بشرية (ذكورية) تبخس المرأة حقها ذاك وتحيلها إلى
كائن ثقافي مستلب.»2 خصوصا على مستوى التعابير والإشارات والرموز.
وعندما جعل النظام البطريركي الرجل على رأس هرم المجتمع والمرأة في
القاعدة، مما ترك النساء يقتصرن على استخدام اللغة الذكورية معا، وأدى ذلك إحلال الرجل
كممثل للعقل والمرأة ممثلة للجسد، لدرجة اعتبر «التذكير في اللغة هو الأصل
والتأنيث فرع من هذا الأصل تماما كالأسطورة القائلة بأن حواء فرع من آدم وهذا اعتراف
دائم باستيلاب مستمر لحقوق المرأة.»3
وعندما تدخل المرأة مجال العمل الوظيفي فإنها تدخل في سياق التذكير،
فهي عضو وهي مدير وهي رئيس الجلسة... وبما أن التذكير هو الأكثر أصبح الأصل، ولن يكون
التذكير أصلا إلا إذا صار التأنيث فرعا، ومن هنا فإن الفصاحة ترتبط بالتذكير فيقال
عن المرأة أحيانا إنها زوج فلان وليست زوجة فلان والعكس لا يقال إن كنت تتحرى الفصاحة
والأصالة، وهذه مسألة تمر في الممارسات اللغوية دون ملاحظة لأنها صارت هي الطبع وهي
حقيقة اللغة وضميرها المتغلغل في نسيجها وخلاياها.
يقول عبد الله الغذامي أن اللغة الإنجليزية ليس للمرأة من وجود إلا
داخل مصطلح الفحولة، ولننظر في هذه الكلمات:
wo-man
hu-man
man-kind
wo-man
hu-man
man-kind
وإذا ما تأملنا في الأمر سنجد أن المرأة مجرد إضافة لفظية إلى الرجل،
ولو حذفنا كلمة«man» لضاعت وسائل المرأة من الوجود في اللغة، وكذا مصطلح «إنسان» «hu-mam» ومصطلح «بشرية» «man-kin»، بالإضافة إلى ذلك عندما نترجمة كلمة «التاريخ» إلى اللغة الانجليزية
سنجدها تعني «History»، وإذا قسمنا هذه الكلمة سنجد أن بدايتها «His» تعني «هو»، و«story» تعني «قصة»، ويصبح المعنى الشامل لكلمة«History» قصته دلالة على قصة الرجل أي تاريخه كإحالة صريحة بأن التاريخ ذكوري
حتى في إسمه.
وقيل إن خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا،
وكتحليل لهذه المقولة باعتبارها قسمة غير متساوية، حيث يأخذ فيها الرجل أهم وأخطر مكونات
اللغة وهو اللفظ الذي يعد التجسيد العملي وأساس الكتابة والخطابة، ويتبقى للمرأة المعنى
الذي يوجه بدوره من اللفظ، فيفقد المعنى وجوده وقيمته خارج إطار اللفظ أو الكتابة.
وقد أدت هذه القسمة إلى احتكار الرجل للكتابة
وترك الحكي للمرأة، مما أدى إلى سيطرة الرجل على الفكر اللغوي والثقافي، وبالتالي السيطرة
على التاريخ، لأنه الكاتب وهذا ما جعله صانع التاريخ والثقافة، في حين بقيت المرأة
في جميع ثقافات العالم مجرد معنى للغة، وبالتالي تابعة للرجل وليست فاعلة لغوية قائمة
بذاتها، وبما أن لا معنى للمعنى إلا داخل اللفظ، تسبب ذلك في إعلاء صورة الرجل وأهميته
وتقوية مكانته الرمزية من داخل أحضان التاريخ وفوق أراضي الثقافة، والتقليل من المرأة
على مر العصور وفي جميع ثقافات العالم حتى في اللغة نفسها.
وإذا كانت اللغة عنصر أساسي فاعلا في صياغة وبناء
الثقافة والهوية، فإنها تحدد موقف الإنسان من نفسه ومن الآخر، فالنساء همشن من كتب
التاريخ لأن عملهن كان محصورا في البيت، وحتى وإن كتبت المرأة أجبرت على التكلم بلغة
الرجل وثقافته وتفكيره، وهذا التفكير استعمر اللغة واحتل الثقافة، حتى صارت اللغة رجلا
وصارت الثقافة ذكرا، لأن «المرأة في صورتها الذهنية الراسخة كائنة اندماجية وليست كائنة
مستقلة فهي وسط الآخرين وفيهم ومنهم وبهم، فهي بنت فلان وزوجة فلان وأم فلان.»4
وبما أننا في مجتمع الامتلاك لا تقاسم الحياة واشتراكها، نجد أن الرجل
يضع المرأة في موقع الأشياء التي يمتلكونها، فيتم اعتبارها ملكية خاصة وفق مبدأ المركزية
الذكورية، وأثناء بحث قمت به في إطار دراسة سوسيولوجية اتخذت من دوار أولاد النيفاوي مجتمعا لها،
يقول أحد المبحوثين: «لمرا ملي تتزوج تولي جوهرا ديالي»، حيث تظهر تعابير لغوية واضحة
دالة على امتلاك المرأة في ثقافتنا من حيث لا ننتبه، لأن الوعي يقوم بظاهرة الانتقاء،
عندما نقول لها جوهرة، بهذا التعبير اللغوي تخسر المرأة بضربة قاضية واحدة آدميتها وإنسانيتها وتتحول إلى عالم الشيء والممتلكات وتدخل
إلى خزانة الرجل الممتلئة بالأشياء، لأن المرأة تحضر في المجتمعات المتخلفة التي تتبنى
هذه التعابير من باب الملكية الخاصة، الشيء الذي يشرعن للرجل تبرير وضعية أعلى للذكر
على الأنثى باسم عنف رمزي تمارسه اللغة، وتكريس كل أشكال الدونية والطبقية.
ولا شك أن الفلسفة قد ولدت في مجتمع ذكوري متشدد في ذكوريته وفي تعاليه
عن الأنوثة، لدرجة أن سيد الفلسفة الإغريقية أفلاطون كان يتأسف أنه ابن امرأة وظل يزدري
أمه لأنها أنثى، وكان يرى أن «الحب الحقيقي هو ما كان بين الرجل والرجل، ويرى الجمال
المبهج في الشبان، وللمجتمع أن يكافئ الرجال المحاربين بأن يمنحهم نساء جائزة لهم على
شجاعتهم.»5 ولذا تراجع وجود المرأة إلى الهامش وغابت عن محاورات
أفلاطون واختفت من الخطاب اللغوي المكتوب.
ويتم تتويج الذكورة والتعالي على الأنوثة في المجتمع اليوناني بما تمليه
مسرحية «انطقون» لسوفوكليس، حيث يوصي كريون ابنه قائلا: يجدر بالمرء ألا تلين له قناة
أمام امرأة في أي شأن من الشؤون، فلا من الأفضل له أن يطاح به من الحكم على يد رجل،
وبذلك لن يسمع أحدا أن يدعي أننا هزمنا على أيدي النساء، ويأمر كريون أخيرا بدفن «أنطقون» حية لأنها المرأة التي خرجت على نظام الرجال.
وكون اللغة تعمل على نقل أنساق جاهزة من القيم إلى الإنسان، تؤدي بدورها
إلى الفصل الجذري بين الجنسين وإعطاء الأولوية لصفات الذكورة على الأنوثة وتغليبها،
«اللحية تسبق الظفيرة»6 هنا اللحية حسب المخيال الشعبي رمزا للرجل ذو الصفات
المرتبطة بالعقل والقوة الجسدية، والظفيرة رمزا للمرأة على أنها جسد وشكل، وهذا التفضيل
على مستوى اللغة راجع إلى واقعة دينية «راجل راه هو أول حتى في الخلق آدم على حواء.»7
هكذا إذن يمكننا أن نتساءل من خلال ما سبق، هل فعلا انحازت اللغة إلى
الرجل؟ وهل تم تذكير اللغة تذكيرا نهائيا أم أن هناك مجالا للتأنيث؟
ورغم خروج المرأة من طور الحكي والدخول في طور الكتابة، سنجدها تكتب حسب شروط الرجل، فهي إذن تتصرف مثل الرجل، أو بالأحرى كما قال الغذامي إن المرأة تسترجل في لغتها وكتاباتها، وهذا ما نادت به مي زيادة، بقولها: «نحن في حاجة إلى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال»8، ويتبين من خلال قولها أنها تطلب عبقرية الرجال لأنها لا تملك نموذجا لشيء يمكن أن نسميه بعبقرية النساء، لذلك فما السبيل لبناء وتكوين عبقرية نسائية ؟ وما هي الاستراتيجيات للخروج من هذه الرؤية اللغوية الذكورية؟ وكيف يمكن إرساء لغة خاصة بالمؤنث قادرة على زعزعة الفكر واللغة المهيمنين؟ وأخيرا كيف يمكن خلق قيم إبداعية تجعل الأنوثة مصطلحا إبداعيا بإزاء مصطلح الفحولة؟
ورغم خروج المرأة من طور الحكي والدخول في طور الكتابة، سنجدها تكتب حسب شروط الرجل، فهي إذن تتصرف مثل الرجل، أو بالأحرى كما قال الغذامي إن المرأة تسترجل في لغتها وكتاباتها، وهذا ما نادت به مي زيادة، بقولها: «نحن في حاجة إلى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال»8، ويتبين من خلال قولها أنها تطلب عبقرية الرجال لأنها لا تملك نموذجا لشيء يمكن أن نسميه بعبقرية النساء، لذلك فما السبيل لبناء وتكوين عبقرية نسائية ؟ وما هي الاستراتيجيات للخروج من هذه الرؤية اللغوية الذكورية؟ وكيف يمكن إرساء لغة خاصة بالمؤنث قادرة على زعزعة الفكر واللغة المهيمنين؟ وأخيرا كيف يمكن خلق قيم إبداعية تجعل الأنوثة مصطلحا إبداعيا بإزاء مصطلح الفحولة؟
___________________
البيبليوغرافيا:
-1عصمت محمد حوسو، الجندر : الأبعاد الاجتماعية والثقافية، عمان : دار
الشروق، 2008.
-2مي زيادة، كلمات وإشارات 34، بيروت : مؤسسة نوفل، 1975.
-3لحيدري ابراهيم، النظام
الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب، بيروت : دار الساقي، 2003.
-4الغذامي عبد الله، المرأة واللغة، بيروت : المركز الثقافي العربي،
1997.
-5أفلاطون، الجمهورية، ترجمة : حنا خباز، بيروت
: دار القلم للطباع والنشر، 2000.
-6القرشي يوسف، المثل الشعبي وإنتاج النوع الاجتماعي، المحمدية : بحث
جامعي بإشراف الأستاذة حكيمة لعلا، شعبة السوسيولوجيا، 2018.
-7المرجع نفسه.
-8مي زيادة، كلمات وإشارات 34، بيروت:
مؤسسة نوفل، 1975.
0 تعليقات