لماذا التفلسف؟ (قيمة الفلسفة) برتراند راسل
يحسن بنا
أن نفحص عن قيمة الفلسفة وعن الأسباب التي تدعو إلى دراستها، ومما يجعل تدبر هذه المسألة
ضروريا هو أن الكثير من الناس تحت تأثير العلم و الشؤون العملية يجنحون إلى الشك في
الفلسفة، ويسالون أهي شيء أكثر من دراسات تافهة عقيمة على براءتها وتحديدات محيرة مربكة
ومناظرات حول أمور من المستحيل الوصول إلى معرفتها؟
ويبدو أن
هذه النظرة للفلسفة، إنما تأتي من تصور خاطئ لغايات الحياة ولأنواع الحاجات التي تسعى
الفلسفة إلى بلوغها. والعلم الطبيعي نافع لعدد لا يحصى من الناس الذين يجهلونه تمام
الجهل وذلك عن طريق المخترعات التي أنتجها، ولهذا فدراسة العلم لا يحض عليها لمجرد
تأثيرها على دارسيها فقط، بل لما تتركه من أثر في الحياة الإنسانية عامة، وذلك عن طريق
تأثيرها في أولئك الذين يدرسونها. وإذا أردنا أن نلتمس قيمة الفلسفة فإنما تلتمسها
أولا في هذا التأثير. وفوق هذا فإننا إذا أردنا أن نتجنب الفشل في تحديد ما يكون للفلسفة
من قيمة، فيجب أن نجرد عقولنا أولا من الأحكام المسبقة التي يتمسك بها أولئك الذين
يسمون خطأ رجالا عمليين، فالرجل العملي تبعا للاستعمال العام لهذا اللفظ هو الذي لا
يعترف إلا بالحاجات المادية، فيرى أن الناس لا بد أن يصيبوا غذاء لأجسامهم وينسى أن
عقولهم تحتاج إلى غذاء لها أيضاء، ولو كان جميع الناس على حال من اليسر والرخاء، وتم
القضاء على الفقر والمرض إلى أقصى ما يمكن، لبقي الكثير مما لابد من القيام به لإيجاد
مجتمع فاضل، بل إن حاجات العقل حتى في العالم الحاضر لا تقل في أهميتها على الأقل عن
حاجات البدن.
وإنما تكون
قيمة الفلسفة في صلتها بحاجات العقل فقط، ولا يؤمن بدراسة الفلسفة ويكبرها عن أن تكون
مضيعة للوقت إلا أولئك الذين يأبهون بحاجات العقل ويقدرونها. إن الفلسفة ترمي أولا
إلى المعرفة، شأنها شأن سائر الدراسات. والمعرفة التي تصبو إليها إنما هي ذلك النوع
من المعرفة الذي يكسب مجموعة العلوم وحدة ويضفي عليها نظاما، ذلك النوع الذي يأتي من
التمحيص الدقيق والنقد النافذ للأسس التي تقوم عليها آراؤنا وأحكامنا ومعتقداتنا، غير
أنه لا يمكن أن يقال إن الفلسفة قد نجحت نجاحا كبيرا في محاولتها الإجابة عن مثل هذه
المسائل إجابة دقيقة محددة.
0 تعليقات