- جينالوجيا التاريخ عند نيتشه في نقد ديمقراطية المؤسسات التعليمية
- بقلم الطالب الباحث منعم بناني
إذا كان نيتشه يسند للفلسفة مهمة علاجية، فإنه يعول على الفيلسوف الطبيب في تحقيق هذه المهمة، إذ أنه يتحدث في جل كتاباته عن الفيلسوف المربي، وعن الفيلسوف الطبيب، كما يتحدث عن جدل الطبيعة بالثقافة، ينبغي إذا أن نفهم من حديثه هذا أن الفيلسوف هو فنان وطبيب ومربي، وأن كل ثقافة حقة هي بالضرورة ثقافة تربوية موجهة أساسا نحو تكوين الإنسان وإنماء قدراته. لهذا دعا نيتشه الفيلسوف بالقيام بمهمة لم يهيأ لها سابقا، باعتباره ظل لزمن طويل سجين أسوار الجامعة ، يسعى وراء البحث عن الحقيقة، وتتمثل هذه المهمة في أن يصبح ((طبيبا للحضارة)) وأن يقوم بتشخيص أعراض بعض أمراض الحضارة والشعوب والثقافة.
في نظر نيتشه هناك الكثير من الأمراض تستولي على الشعوب والحضارات، من بين هذه الأمراض التي تجعل الحضارة والثقافة لا تقوم بوظيفتها الأساسية، نجد المرض الذي يسميه في كتابه "اعتبارات في غير أوانها" بمرض ((الشيخوخة الروحية المبكرة))، بمعنى أن الشعوب والحضارات والأفراد يصابون بالشيخوخة حتى عندما تكون ثقافتهم في مرحلة الطفولة أو في طور الولادة، فهذا المرض يجعل تلك الثقافة أو الحضارة عاجزة، غير قادرة على صنع التاريخ ولا على إبتكار أي شيء جديد.
من بين أمراض الشيخوخة الروحية المبكرة ((مرض حساسية تاريخية)) وهو مرض ناتج عن إكتساح التاريخ للحديث، وإكتساح الماضي للحاضر وغلق النوافذ أمام المستقبل، فالتاريخ عندما يكتسح الحداثة لا يمد الشعوب والحضارات بالنماذج الحية، أي تلك النماذج القادرة على التجديد والإبتكار والخلق، بل نجد أن إنجازات الماضي توظف فقط من أجل الإستخفاف بإنجازات الحاضر، و من أجل تبجيل وتقديس الماضي وجعل حضارة الماضي متفوقة على باقي الحضارات الأخرى، فالشعار الذي يسود عندما تصاب الحضارة أو الثقافة بمرض حساسية تاريخية هو التالي: " دعوا الأموات يئدون الأحياء" فهذا المرض له تأثير سلبي على الحضارة والشعوب والثقافات، يجعل الفرد يفقد الإحساس بالدهشة ويستسلم لأمر الواقع، وبالتالي فهو يعيش على الإجترار، لهذا يقول نيتشه: ((إن مرض الحساسية التاريخية يُحدث ضرارا كبيرا بالقوى البلاستيكية، باعتبارها القوى المسؤولة عن التوازن بين الذاكرة والنسيان وبين الماضي والحاضر والمستقبل...))، وهي ما يمكن أن نسميها الآن بالمناعة أو الحصانة الذاتية ضد الأمراض، أي هي التي تُمكن كل فرد من التمييز بين ما يمكن تحمله وما لا يمكن تحمله، وما يجب الإبقاء عليه وما لا يجب الإبقاء عليه، وأن ما لا يمكن تحمله يجب التخلص منه والإلقاء به في طي النسيان، وما يمكن تحمله يجب الإبقاء عليه وتطويره بل و ترسيخه في الذاكرة أيضا.
بهذا يمكن الإقرار بأن القوى البلاستيكية تشكل نوعا من المقاومة ضد إكتساح الماضي للحاضر أو إكتساح الذاكرة للنسيان أو ضد مرض الحساسية التاريخية، وبالتالي هي ما يُحصن الانسان من مرض الشيخوخة الروحية المبكرة، وذلك عن طريق إعادة قراءة وتأويل التاريخ وتوظيفه تباعا لما تقتضيه حاجة الشعب أو حاجة الفرد أو حاجة الحضارة في الحاضر، وما تتيحه لإستشراف المستقبل، فالقوى البلاستكية يتم الحفاظ عليها وتقويتها، وذلك في نظر نيتشه من خلال اِستعمال التاريخ وفقا لثلاث تصورات وهي كالآتي :
التاريخ التقليدي: هو تاريخ يتعلق بحفظ الخلف لآثار السلف وحنين البشر إلى موطنهم الأصلي وجذور هويتهم، ويعني ذلك أن التاريخ ينتمي في هذا المقام، الى ما يحفظ ويبجل، إنه "تاريخ الإعتراف بالجميل" حيث يعيب عليه نيتشه أنه يعوق كل إبداع باسم "الوفاء" و"الإخلاص".
التاريخ التذكاري: هو تاريخ يتيح العودة إلى الماضي لكن في لحظات شموخه وإشراقاته، فهذه العودة لا تدفعنا إلى تقديس وقائع وأحداث الماضي، وإنما تدعونا إلى إستلهام تلك الأحداث والوقائع من أجل تقوية الهيمنة وشحذ العزائم ، وبالتالي تقوية القوى البلاستيكية للإنسان والحضارة والثقافة، لهذا فإن الفائدة الرمزية والمعنوية لهذا التاريخ هي أهم وأبلغ أثرا من صحة أحداثه ووقائعه، ذلك لأنها تسمو بالحاضر إلى درجة الماضي وتجعل الحاضر دائم التطلع لمستوى الرقي الذي تحقق في الماضي.
التاريخ النقدي: هو نوع من المحاكمة والمسائلة للماضي، حيث ان الحياة تحاكم الماضي حينما يتحول الى قوة مفرطة في الحاضر، وهنا تتمثل الرؤية النقدية التفكيكية النيتشوية في قدرتها على تفكيك الأشياء، واقتلاع المرء من جذوره التاريخية والإلقاء به في عالم "لُجّي" بدون ذاكرة أي عالم لا يعرف الاستقرار والثبات، لكن رغم هذا الإستئصال يضل التاريخ أساسيا في ظل تحقق واكتمال الميتافيزيقا (بالمعنى الذي أعطاه هيدغر لإكتمال الميتافيزيقا) على الأرض وتحويلها من تصور الى واقع ملموس بالنسبة للإنسان في عناصر يمتاز بها عن الحيوان.
بهذا يتضح أن الاهتمام بالتاريخ في نظر نيتشه ليس اهتماما بماهية وذاتية التاريخ كما هو الشأن بالنسبة للميتافيزيقا (أي البحث عن العلة الأولى)، وإنما هذا الاهتمام من منظور الجينيالوجي هو الاقتران بمفعوليته الإيجابية على حياة الإنسان في الحاضر والمستقبل، فمنطلق نيتشه هنا هو تميز الإنسان عن الحيوان، ذلك باعتبار أن الإنسان هو كائن تاريخي له ذاكرة تضرب بجدورها في زمن الماضي، في حين أن الحيوان كائن يطاله النسيان وبالتالي فهو كائن لا تاريخي، أي كائن بدون ذاكرة. لهذا فان الفلسفة في نظر نيتشه يجب أن تُفكر في التاريخ بحس نقدي كي تساعده على خلق الابتكار والانفتاح على الحياة.
هكذا على ضوء منظور نيتشه للتربية، يجب أن يكون الكائن الإنساني قائدا لذاته متحكما في وجوده. إنه يرفض من حيث المبدأ أن يكون كائنا موضوعا للترويض على غرار الحيوان، وهذه هي وظيفة "الثقافة الحية". عكس الثقافة المزيفة التي تكرس خلطا مهولاً بين التكوين العسكري وبين التربية، بين الترويض والتكوين، في حين تسعى الجينيالوجيا إلى إقامة تعارض حاسم بين "الترويض" بما هو تدجين للكائن المتوحش وتحويله إلى كائن قطيعي، وبين "التربية" أو "التكوين" كسمو بالكائن الإنساني.
لذا فالثقافة الأصيلة لا تسعى إلى اِستئصال الغرائز من الطبيعة الإنسانية، بقدر ما هي مكملة لعمل الطبيعة، إنها تحقيق الطبيعة وجعلها عملا فنيا مكتملا. وهذا يعني أن الطبيعة مفصولة عن الثقافة، تشكل قوة حقيقية للموت، تماما كما هو الشأن بالنسبة للثقافة المفصولة عن الطبيعة.
اِنطلاقا من هذا، فالتربية في نظر نيتشه هي جزء لا يتجزأ من مشروعه الفلسفي العام، وهو مشروع يسميه بـ "المثل الأعلى الزهدي" باِعتبار هذا الأخير علة أمراض الحضارة والشعوب، كما يسميه أيضا "بمرض القيود"، اِذ يقول نيتشه بهذا الصدد: ((لقد كبلنا الانسان بقيود ثقافية كثيرة لكي يتعلم أن لا يتصرف كالحيوان، وفي الحقيقة لقد صار أكثر نضجا وأكثر روحانية من كل الحيوانات، لكن منذ ذلك فهو يعاني من حرمان طويل من اِستنشاق الهواء نقي، هواء حرية الحركة (...)، ومع ذلك، وهذا ما سأكرره الى الأبد، لقد تشكلت تلك القيود من الأغلاط الثقيلة والدالة من التمثلات الأخلاقية والدينية والميتافيزيقيا، لذا لا يتحقق الهدف الأولي للثقافة المتمثل في اِنفصال الإنسان عن الحيوان إلا عندما يتم تصعيد مرض القيود...)).
هنا يلح نيتشه على ضرورة التحرر من الثقافة المنحطة باعتبارها الثقافة التي يهيمن عليها نموذج الأب، ومفهوم الأب عند نيتشه يعني به المثقفين المتحالفين مع الدولة ومع المقاولة والرأسمال، أي الذين يهدفون إلى تكوين الإنسان وجعله في خدمة مصالح الدولة ومؤسساتها (الكنيسة- المدرسة -الجامعة –الأكاديمية...)، فالمؤسسات التعلمية باعتبارها ليست سوى مؤسسة تتماهى مع أهداف الدولة، ومن ثم وبحكم ذلك تسعى إلى قتل (غريزة المعرفة) في المتعلم والقضاء على رغبة الفضول المعرفي لديه، فتنتهي إلى تحويله الى "عجوز" قبل الأوان، أي الحكم عليه "بالشيخوخة الروحية المبكرة" والتي تجعله أسير الماضي إلى الأبد، وعندما يتحدث نيتشه عن النسيان على أنه :" الملكة الساهرة على الصحة النفسية للإنسان"، فحديثه هذا يندرج ضمن دعوته لرفض هذه الثقافة التي ينعتها "بالثقافة الارتكاسية" ونسيانا لذاكرتها المصابة بمرض "سوء الهضم" هضم الذكريات المؤلمة.
لهذا فإن التعليم الحقيقي في نظره، هو ذلك التعليم الذي ينبغي نسيانه فور الانتهاء منه، وهذا النسيان فعال، لأن الثقافة الأصيلة هي ما يتبقى للفرد منا بعد أن يغزو النسيان جنبات ذاكرته، بينما "الإسقاط" الذي تكرسه الثقافة المنحطة الارتكاسية يكون على حساب ذات المتعلم ويؤدي الى إضعافها .
فهذه الثقافة التي تقوم على مثل هذه العلاقات الإسقاطية تسعى إلى إعادة انتاج ما هو متطابق، وذلك عبر إعادة إنتاج نفس المضامين والأشكال المعرفية، دون السماح للمتعلم بالتساؤل عن تلك المضامين، أو طرحها للتفكير الشخصي.
إن مثل هذه الثقافة ليست سوى ثقافة خادعة، ومن هنا يبرز ذلك التواطؤ المخيف الذي يتكلم عنه نيتشه بين الكنيسة والجامعة والدولة والمقاولة. بهذا ينتقد نيتشه التربية المؤسساتية والتي تقوم بوظيفة التدجين وليس التكوين، أي أنها تربية تجعل من الافراد قابلين للإستعباد والإستغلال من طرف المقاولة والرأسمال.
لذلك يقر نيتشه بضرورة تكوين كائن مجاوز لذاته، أي كائن قابل للعيش وفق فكرة العود الابدي( le retour éternel)، و فكرة العود الابدي هنا هي تصور نيتشه للزمن والذي يطرحه كبديل وكعلاج لمرض الحس التاريخي، حيث يقول "ان غرائز الإنسان المرتحل، والمتوحش، والحر، والتي قد تم توجيهها نحو الداخل ستنقلب ضد الإنسان ذاته بحيث تصبح نمطا من إرادة القوة الممزقة لصاحبها.
فعوض ان تجد لها منفذا لتنفذ منه، او استخداما لها في أنشطة حرة فعالة، يتم استبطانها فتصبح تمزقا ذاتيا." فالعائق الأول والأساسي في تكوين الإنسان الفاعل هو ارتداد النزعة العليا ضد الانسان وارتداد الحرية ضد الانسان، فعوض ان يسعى الإنسان لتحقيق ذاته، نجد هناك منعا وتصديا لهذه المحاولة من طرف الدولة وأجهزتها المختلفة، وبواسطة الثقافة المنحطة تنقلب عدوانية الإنسان بصفة عامة نحو ذاته ويتم تحويل ضمير هذا الإنسان من ضمير سليم الى ضمير شقي، مما ينتج عنه ظهور الإحساس بالذنب والاثم...".
بهذا الصدد يؤكد نيتشه على خاصية هامة، مفادها بان يسير الانسان الى ذاته، ومن أجل أن يصير إنسانا أصيلا، حرا وفاعلا ومستقلا وأن يتحرر من الثقافة الارتكاسية المنحطة التي حولته إلى إنسان قطيعي، عليه أن يحقق نوعا من التصالح بين ذاته ومختلف القوى وغرائزه، أي تصالحا بين القوى الارتكاسية والقوى الفاعلة، وبين ملكة الذاكرة وملكة النسيان، وبين الطبيعة والثقافة، وبين الجسد والروح، وهذا يتوقف في نظر نيتشه على "وحدة الأسلوب " بمعنى أن يصبح الإنسان روحا حرة أي روحا متحررة من نماذج الابوية، متجردة من الخضوع.
ينتقد نيتشه التربية الديموقراطية باعتبارها نمطا من أنماط التدجين الموجه ضد الاختلاف والحرية، ذلك لأنها تعتبر الانسان كائنا قطيعيا وتضع كل مواهبه واستعداداته الطبيعية على صعيد واحد، حيث تساوي بينه وبين جميع الأفراد، وتسعى إلى وضع قدراته وإستعداداته الطبيعية على قدم المساواة، بذلك يتم إلغاء الفوارق والاختلافات والتمايزات بين المواهب داخل الفرد الواحد، ويتم القضاء على فكرة المركز والمحيط، فداخل التربية الديموقراطية باعتبارها نمطا من التدجين، يتحدث نيتشه عن تربية أخرى كبديل لها وهي التربية الأرستقراطية التي تتعامل مع الفرد باعتباره منظومة كوكبية على غرار المنظومة الشمسية التي يعيش داخلها الجميع، ذلك لأن المنظومة الكوكبية تقر بوجود مركز ومحيط، ويشكلان معا ضرورة لوجود الفرد، لهذا فان التربية الأرستقراطية التي استعملها هنا كاستعارة فقط، تقوم على وضع التمييز بين المركز و المحيط، بمعنى التمييز داخل الفرد الوحيد بين المواهب والاستعدادات، أي بين الموهبة القوية التي يجب أن تكون هي الموهبة المركزية، وبين المواهب الثانوية، عكس التربية الديموقراطية التي تحول الفرد الى كائن قطيعي وتؤدي الى الغاء كل اختلاف لصالح التطبيع والتنميط بين مختلف المواهب.
لهذا فالإنسان يولد وهو حامل لمجموعة من الاستعدادات والمواهب الأولية المختلفة، وبواسطة التربية يتم تنمية هذه المواهب وصقلها والحرص على إبقائها على أصالة كل موهبة، لكي تبرز بذلك الموهبة المهيمنة على كل فرد.
المراجع:
بالعربية:
- محمد الاندلسي: نيتشه ومضلة التربية، منشورات زمان، الرباط،2013.
- محمد الاندلسي: نيتشه وسياسة الفلسفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الاولى، الدار البيضاء. 2006.
- عبد السلام بنعبد العالي: اسس الفكر الفلسفي المعاصر (مجاوزة الميتافيزيقا)، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء_المغرب، 1991.
- ميشل فوكو، جينالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، 2008.
- عبد رحمان بدوي، نقد تاريخ، وكالة المطبوعات،الطبعة الرابعة ، الكويت، 1984.
: بالفرنسية
- F.Nietzshe, considérations inactuelles, trad. Pierre Rusch. tomes 1 et 2, Gallimard, 1990
- F.Nietzshe, généalogie de la morale, trad. Isabelle Heldenbrand et Jean Gratier, Gallimard, 1971
- F.Nietzshe, Aurore, trad. Julien Hervier, Gallimard, 1980.
- M. Foucault et autres, Lectures de Nietzsche, livre de poche, L.G.F., 2000
- Dorian Astor, Frédéric Nietzsche : dossier et notes, in Folio plus philosophie, Gallimard, 2006
0 تعليقات