- مشكلة الحقيقة المطلقة
- بقلم الطالب حسن شافي
ان البحث
عن الحقيقة كان وما يزال موضوع اهتمام الفلسفة منذ لحظاتها الاؤلى مع اليونان الى الآن،
ولاسيما الحقيقة المطلقة التي ارقت واتعبت كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء؛ وكل يراها
حسب مكانته ومنزلته العلمية والمعرفية، فإذا كانت الفلسفة ترادف مفهوم الحكمة فليس
للحكمة مرادف اخر سوى الحقيقة، وكما يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز : "
البحث عن الحقيقة هو جوهر الفلسفة "،فالفيلسوف هو المخلوق الوحيد الضعيف
الذي لا يملك سوى وضوح البصيرة وقوة الحدس وحب الحقيقة
فمفهوم
" الحقيقة المطلقة " هو مفهوم غامض وفضفاض واسع شغل بال العديد من الفلاسفة
والمفكرين، وقد شكل اشكالا عويصا في تاريخ الفلسفة بأكملها؛ وفي الحقيقة ان هذا المفهوم،
مفهوم يشوبه اللبس والغموض ويثير الرعب، فالحقيقة المطلقة لا احد يمتلكها في هذا الوجود،
رغم كل الدعايات، حيث يدعي المسلم والمسيحي واليهودي انه يمتلكها، ويدعي الملحد واللاديني
والعلماني انه يعرفها...فبكل وضوح هي المشكلة الاكثر شقاء والاعمق آلما والارهف حساسية
بالنسبة للإنسان، هي السر في شقاء الذات البشرية منذ ظهور ما يسمى بالدين او قبل ذلك.
إن المشكلة
و المعضلة الكبرى التي تعاني منها المجتمعات البشرية منذ بدايتها الى حدود اللحظة،
هي تلك الجماعات والطوائف الدينية التي تزعم انها تمتلك الحقيقة المطلقة ؛ مما ينتج
عن ذلك جملة من الدغمائيين المتطرفين والمتعصبين المنافقين، فعبارة " ديننا يحتوي
على الحقيقة المطلقة " هي اخطر عبارة في الوجود، وهي التي تهدد وجودنا كمجتمع
انساني،وهي في حد ذاتها السبب الرئسي الذي ادى بالبشرية الى ممارسة وجودها في جو من
التعاسة و الشقاء والبؤس...فالمسلم يظن انه يمتلك الحقيقة المطلقة، وعبارة " نحن
خير امة اخرجت للناس " تدل على ذلك، كما يدعي اليهودي ذلك رافعا لشعار "
نحن شعب الله المختار "، ونفس الشيء ينطبق على المسيحي الذي يدعي ان " الرب
يسوع هو الطريق والحق والحياة "،لكن هل يعقل ان تتواجد هذه الحقائق المطلقة جنبا
الى جنب ؟ الجواب في هذه الحالة هو النفي!! لأن كل واحدة منهما تدعي انها وحدها هي
من تتحتكر الحقيقة المطلقة
وهكذا تعيش
البشرية في دوامة من التعصب والنفاق والصراع والعنف... من خلال الحروب الدينية الصليبية
والاسلامية الجهادية، جميعهم حاملين لشعار " اقتلوا هؤلاء الذين يدعون الحقيقة
المطلقة،فنحن وحدنا من نمتلكها،وديننا هو دين الحق " وكل ديانة تتدعي ان الله
يعتبرها افضل، وان الديانات الاخرى ادنى منها؛ فيولد عن ذلك صراع ابدي، ان لم ينشب
هذا الصراع بين الديانات المختلفة، ينشب بين
الفرق والطوائف داخل نفس الديانة،كما هو الشأن بالنسبة للديانة الاسلامية ( صراع طائفة
السنة مع طائفة الشيعة، صراع التيار السلفي مع جماعة الخوارج، وهكذا...)
ومن هنا يتدخل
ذلك الفيلسوف المسكين الذي كان يراقب في صمت تلك الخلافات والنزاعات التي لا طائل ورائها
ولا جدوى منها، ليلعب دور الباحث الحيادي،لكن سرعان ما يتهمونه بالكافر والزنديق وقولة
" من فكر كفر " تدل على ذلك، وما كان لهؤلاء الذين يدعون الحقيقة المطلقة
عدو في هذا الوجود سوى الفيلسوف، وتلك هي وظيفة الفلسفة؛ تحرير الانسان من وهم امتلاك
" الحقيقة المطلقة "،لأن سيادة هذا الوهم يستطيع الانسان الاناني والمجرم
المتعطش من خلاله ايجاد مبررات لكل افعاله، ومما لاشك فيه ان العنف والهمجية التي يعيش
في ظلها الانسان اتية من وهم امتلاك الحقيقة المطلقة،وهذه هي المشكلة العويصة التي
جعلت العديد من المجتمعات الدينية خارج التاريخ، لأن تفكيرهم مرتبط بالماضي،لايستطيعون
تجديد افكارهم خوفا من فقدان هويتهم
اما الذي
يرغب في السيطرة والهيمنة على الآخرين وعلى العالم بأسره بواسطة الحقيقة المطلقة المحددة
بوضوح في شكل نصوص جاهزة للتنفيذ، وبالتالي التحكم والسيطرة على كل شيء، هذا الانسان
لايبحث عن الحقيقة ولا يحبها، بل يريدها كمعطى جاهز على شكل نصوص دينية، لذلك يصطدم
بالعقل العملي و الفلسفي الذي يعمل في هذا المجال بأدوات اكثر تقدما و تطورا من تاريخ
ذلك المزعوم بالحقيقة المطلقة ذاته، وكما يقول الابستمولوجي الفرنسي غاستون بشلار
: " لاشيء يعطى كل شيء يبنى " فالحقائق النسبية هي نتاج لبناء مجهود وليست
كمعطى جاهز ، فاالانسان الذي يزعم الحقيقة المطلقة لايفكر، بل اكثر من ذلك ليس موضوعيا،اما
الباحث عنها،ربما سيتوصل الى جزء منها عكس المتعطش الذي يدعي انه يمتلكها في شكل نصوص
دينية منذ قرون.
وبالتالي
فالفيلسوف كان وما يزال هو المساند والمساعد الاول والاساسي للإنسان في ادراك معايير
الحقيقة؛ وهي المعايير النابعة والمستمدة من
العقل والمنطق لا من الاغلبية والقوة ولا من الاوهام الدينية، فالفيلسوف لابد ان يضع
اي موضوع موضع سؤال، سواء عن طريق الشك كما فعل
"ديكارت" او عن طريق النقد كما فعل" كانط "، وهكذا فالتفكير
الفلسفي يضع هذا الدين الذي يدعي الحقيقة المطلقة في حد ذاته موضع سؤال، الامر الذي
يجعل منه موضوعا فلسفيا كباقي الموضوعات الاخرى... وهذا لايعني ان الفكر الفلسفي معاد
او كاره للدين، وانما هذه هي طبيعة الفكر الفلسفي، يضع كل موضوع كيفما كان قيد الدراسة
و التحليل بهدف الكشف عن حيثياته و ازالة اللبس و الغموض عنه.
ان فكرة الحقيقة المطلقة تعطي لصاحبها الشرعية و
الاحقية في حمل السلاح واستعمال العنف دفاعا عنها، وهذا شيء هدام و سلبي لاينبغي ان
يكون، لذا يجب على الانسان ان يحرر عقله من مركب توهم امتلاك الحقيقة المطلقة المقترنة
بالمسلمات الدينية الميتافيزيقية،وعندما يتحرر الانسان من هذا الوهم، لاشك ان عقله
وفكره سيكون متزن وهذا اضعف الايمان، فالوصول الى الحقيقة المطلقة امر صعب جدا بالنسبة
لكل من الفلاسفة و المفكرين والباحثين وهناك من تاه و افنى حياته في البحث عنها لكنه
لم يجد شيئا !! فعبارة الفيلسوف العظيم سقراط " كل ما اعرفه انني لا اعرف شيئا
" لم تكن تدل الا على ذلك، فالانسان الذي يدعي الحقيقة المطلقة فهو يدعي البطل
و الهراء؛ فالانسان بطبعه سيظل يبحث عن الحقيقة المطلقة مادام موجودا في هذا الوجود،
لكن الشيء السلبي في الامر هو البحث بشكل تصادمي لا بشكل موضوعي شفاف؛ لذا يجب احترام
المنطق في البحث حول اي موضوع او اي مشكلة، وبذلك يمكن ان نصل الى تلك الحقيقة و قد
لا نصل.
0 تعليقات