الإغريق الأوائل ومشكلة الرياضيات بقلم الأستاذ عصام الخدير

الإغريق الأوائل ومشكلة الرياضيات.

• عصام الخدير  - أستاذ فلسفة وفكر إسلامي.

______________________________

غالبا ما يقف الدارسون والمؤرخون عند لحظة طاليس كبادىء وفاتح لمغامرة العقل الفلسفية الأولى، وآخرون يرجعون الأمر إلى هراقليدس وطبعا هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير.. لكن ما يهمنا هنا هو أن طاليس كان صاحب فكر عقلاني وليس فلسفي بالمعنى الذي سيضع قواعده الكبرى كل من أفلاطون وخاصة أرسطو من بعده مباشرة..

إن المشكل الرياضي كان حاضرا بقوة سواء عند طاليس أو هراقليدس أو عموم فلاسفة الإغريق الأوائل قبل سقراط Presocratiques، لقد ظهرت الرياضيات كبحث عن الحقيقة المجردة الثاوية وراء الظواهر بعيدا عن الاستعمال العملي لها أو لسد حاجات آنية أو حتى مستقبلية في إطار المعمار أو الهندسة أو الري أو تنظيم المواقيت كما كان عند الحضارات السابقة كالفراعنة أو البابليين على سبيل المثال لا الحصر..

لقد ذهب متحمسوا تاريخ اليونان القدماء والمحدثين إلى اعتبار أن الإغريق مارسوا الرياضيات لحل مشاكل نظرية خالصة في بحث وتنافس محموم بين جزر يونان ومفكريها عن الحقيقة بالف لام التعريف.. إن الأشكال الرياضية والهندسية عند حكماء اليونان وفلاسفتها كانت أشكالا ذهنية مثالية واعتبروا أن الإله وأحيانا الآلهة كائنا رياضيا شريفا والأشكال الرياضية والهندسية أشكالا شريفة تحمل أسرار الكون ومعانيه والدائرة اقدس تلك الأشكال طرا.

لقد اشتغل الفلاسفة اليونان على مختلف الأشكال الهندسية والرياضية وكان فيتاغوراس هو أول من برهن على المثلث القائم الزاوية : A2+B2= C2.. أما المربع فاشتغلوا عليه بطريقة العلاقات والنسب. أما الدائرة فلقد انكبوا طويلا على علاقة القطر بالمحيط، نحن هنا أمام تأسيس العلم وليس أي علم بل علم يعتمد الفلسفة كتفكير نسبي عوض الحكمة كتفكير مطلق أو مكتمل كما اعتقدوا قبل اللحظة الفيتاغورية أي عندما اكتشفوا أن الوتر داخل المربع لامتناهي، فهو يأتي من ما لانهاية ويسير إلى ما لا نهاية.. فكيف يكون المتناهي المربع المحدد والمعين حاملا للامتناهي المستقيم المنطلق أبديا..؟!.

وهذا ما لم يقبله العقل الفلسفي والرياضي الإغريقي في البداية أو لنقل ما لم يستسيغه فلاسفة اليونان، وخاصة مع اكتشاف جذر إثنان والاسطورة التي تقول أن الفيتاغورية اغتالت صاحب الاكتشاف إغراقا في البحر..!       هذا الكشف/المشكل الرياضي أدى إلى زرع بلبلة وشك كبيرين في المجتمع الفكري اليوناني لهذا ازدهر فيما بعد الجدل Dialectique و ظهر السوفسطائيون كفكر مشاغب و شاك ومناقشاتهم المحرجة، لهذا عد فيتاغوراس نفسه فيلسوفا philosophe أي محبا للحكمة فقط وليس حكيما Sophos أو Sage.. فالحكمة بتعبيره لا تضاف إلا للالهة.. وهو الأمر الذي سيظل أفلاطون وفيا له بدوره باعتباره أن الرياضيات هي مدخل الفلسفة ومفتاحها، وهو ما جعله يكتب يافطته الشهيرة على مدخل بنايته الأكاديمية Acadimicus لا يدخلنها إلا من كان رياضيا( nul n'y peut y entrer ici s'il n'est géomètre) ،و التي ترجمت إلى اللاتينية بعبارة :

( Nemo intrare possit si est surveyor )

فالمشكلة الأساسية إذن كانت مشكلة رياضية، لقد أصبح الفلاسفة في مأزق نظرا لشك الشكاك والسوفسطائيين واللاادريين الأوائل.. لهذا ابتدع أفلاطون عالم المثل عالم الحقائق الكاملة المطلقة التي لن تجدها ابدا في العالم المحسوس الملاحظ ولن تصل إليها إلا بجدل صاعد تاملي استنباطي لتعود بجدل نازل مؤيد لما لاحظته و تأملته في عالم المثل لا عالم الواقع والحس، الذي عده أفلاطون صورة مزيفة وناقصة.. وهنا تلعب الرياضيات بأشكالها واعدادها المثالية والرمزية دورها الفعال في تكثيف الحقيقة وترميزها و جعلها عصية على افهام العوام ومدخلا للخواص المتفلسفين فقط.. غير أن أرسطو تلميذ أفلاطون المباشر وأقوى تلامذته سيعيد الحقيقة إلى عالمنا الواقعي والمحسوس وبالتالي سيعيد الثقة إلى العقل الإنساني.. فمثلا عندما دقق أرسطو الفحص في نموذج المربع على سبيل المثال، فإنه تحدث عن وجود اللامتناهي بالقوة (المستقيم الحر العابر للفضاء) داخل المتناهي الموجود بالفعل (اي المربع المحدد الشكل) وهذا حديث وتمييز بين موجودين و وجودين معا.. وجود بالقوة كامن وخفي، ووجود بالفعل واضح ومتحقق، لهذا سيرفض أرسطو لانهائية العالم، و سيؤسس العقل من جديد بواسطة المنطق الارسطي الشهير.. سينهي و يختم الجدل و الشك الإغريقي الأول و يعيد الاعتبار للرياضيات و للفلسفة إلى حين من الدهر سيدوم 14 قرنا كاملة بعده، قبل أن تبدأ أركانه بالتصدع مع مطلع العصر الحديث حيث هيمن أرسطو إلى حدود ما قبل انبلاج رونيه ديكارت..و لكن تلك قصة أخرى.

 --البيبليوغرافيا-- 

1. - يوسف كرم.  تاريخ الفلسفة اليونانية.
2. - أميرة حلمي مطر. الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها.
3.  - ديرك ج. ستروك . موجز تاريخ الرياضيات.
4. - فوزي مكاوي. تاريخ العالم الإغريقي وحضارته .
5. - حسين الشيخ. دراسات في تاريخ الحضارات القديمة. اليونان .
6. - أنتوني كوتليب. حلم العقل. تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى العصر النهضة.

عصام الخدير