اللغة : من الدلالات إلى الإشكالية | فيلوكلوب

فيلوكلوب يونيو 14, 2019 سبتمبر 14, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A
للنشر على الموقع أو للتبليغ webphilokom@gmail.com

اللغة من الدلالات إلى الإشكالية

  •  1 -  من الدلالات إلى الإشكالية :
  • 2- اللغة الإنسانية واللغة الحيوانية:  
  • 3 - العلامة والرمز اللسانيان:
  •  4 - اللغة الفكر ، التواصل:

 1  -  من الدلالات إلى الإشكالية :

ترتبط اللغة في دلالتها المتداولة بالكلام . فعندما يراد التعبير مثلا عن ممارسة أحد من الناس اللغة ما يقال إنه يتكلم تلك اللغة. فالفعل الذي يستخدم للتعبير عن ممارسة اللغة لا يشتق من اللغة  ، بل من « الكلام » ، وكأن اللغة اسم لشيء لا يتحقق إلا من خلال فعل الكلام . فاللغة في تمثلها المشترك هي من جهة فعل الكلام وهي من جهة أخرى مجموع الكلمات أو الألفاظ التي ينطقها ويكتبها أفراد مجتمع معين، انطلاقا من مجموعة أصوات أو حروف وقواعد استعمال معينة (النحو). | وإذا كان فعل الكلام حدثا زمانيا سريع الزوال والتلاشي، قابلا للتجدد باستمرار، فإن الكلمات (وأصواتها أو حروفها، وقواعد استعمالها)، التي تعتبر، في مستوى التمثل المشترك، مكونة للغة تتبدى ثابتة وقارة نسبيا. يذهب الكلام أو النطق والتلفظ والحديث، وتبقى الكلمات وحروفها وقواعد استعمالها، بحيث تشبه اللغة، حسب هذا التمثل >>حقيبة كلمات »، توفر لأفراد المجتمع، وسائل للمعرفة والتعبير والتواصل، تتخذ شكل مفردات منفصلة متراكمة، كحبات الرمل، تحمل دلالات ومعاني جاهزة، تستخدم لمعرفة واقع، يتصور هو أيضا ثابتا في جوهره، منظما قبل الكلمات، وكأن لكل شيء كلمة أو اسما يطابقه ويعبر عن حقيقته، مثلما أن لكل فكرة أو حالة نفسية وجدانية كلمة مناسبة للتعبير عنها وتبليغها أو إيصالها إلى الآخرين.
 هذا الارتباط بين اللغة والكلام، متضمن في الدلالة المعجمية لكلمة « لغة » نفسها. فهي مشتقة، في اللغة العربية ، من اللغا أو اللغو، ويعني أصلا الكلام غير المفيد وغير النافع، ثم الكلام المميز لمجتمع معين، بحيث تتحدد اللغة في لسان العرب لابن منظور بأنها : « أصوات يعبر بها قوم عن أغراضهم » . وإذا أخذنا أي معجم فرنسي ( روبير ، مثلا) فإننا نجد أن كلمة langage الفرنسية مشتقة من كلمة lingua اللاتينية التي تعني الكلام واللسان. وتدل كلمة logos الإغريقية على الكلام والفكر والعقل.
 بيد أن التجربة تبين أن الناس يعبرون ويتواصلون بوسائل أخرى غير الكلام والكلمات. إذ يتم التعبير والتواصل بين الناس بالحركات والإشارات أو الإيماءات الجسدية، التي تصاحب الكلام، مثل حركات اليدين أثناء الحديث، أو تستبدل به ، اختيارا في حالة عدم الرغبة في الكلام وتفضيل الصمت مثلا، أو اضطرارا في حالة تعذر الكلام كما هو الشأن بالنسبة للصم البكم مثلا. ويعبر الناس ويتواصلون أيضا بالعلامات والرموز، أي بأشياء طبيعية أو صناعية، تعطاها دلالات ومعان معينة، يستجيب لها أفراد المجتمع بكيفية مناسبة (علامات وأضواء المرور في المدن مثلا) .
 يبدو التفاهم والتواصل بلغة الكلام خصوصيا إذا ما قورن بالتفاهم والتواصل عن طريق الحركات والإيماءات الجسدية، والعلامات والرموز، ذلك لان هذه الأخيرة تكاد تكون لغة كونية يتفاهم بها جميع الناس تقريبا، بينما تظهر لغة الكلام مختلفة ومتنوعه من مجتمع إلى آخر. إذ لكل مجتمع لغة أو لسان خاص يميزه ويتحدد به الانتماء الثقافي والحضاري لافراده ( لغة عربية، لغة فرنسية ، لغة صينية . . . الخ)
وجود مظاهر مختلفة للغة ( كلام ، إيماء ، رمز ) ، واختلاف لغات الكلام ( أصواتا ، وحروفا ، وقواعد)، لا يعود معه تمثل اللغة « حقيبة الكلمات »، بديهيا، مثلما الا يعود بديهيا تمثل الكلمات مطابقة للأشياء والأفكار والمشاعر، بشكل قبلي جاهز، ما دام هناك أسماء مختلفة لشيء واحد في لغات أو ألسن مختلفة. ( شجرة ، tree , arbre  مثلا)، كما لا يبدو ما إذا كان الفكر الذي تعبر عنه مختلف الألسن واحدا أم متعددا ومختلفا، ولا ما إذا كان الكلام » و « اللسان » و اللغة » شيئا واحدا أم أشياء مختلفة .
 ولذلك كله تبرز ضرورة تحديد مفهوم اللغة بدقة وشمولية، وذلك ما تحققه الدلالة الفلسفية والعلمية المفهوم اللغة .
يحدد لالاند في معجمه الفلسفي معنيين للغة : معنى خاصا ، ومعنى عاما . اللغة بمعناها الخاص هي  : «وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر داخليا وخارجيا »، واللغة بمعناها العام هي : « كل نسق من العلامات يمكن أن يتخذ وسيلة للتواصل » ،
 ويوضح لا لاند أن اللغة بمعناها الخاص تتقابل مع الكلام la parole ء باعتبار الكلام نوعا من اللغة ، وليس كل اللغة ، إنه « نعل فردي » تتحقق عبره الوظيفة اللغوية . وتتقابل اللغة هنا أيضا مع اللسان la langue   (وإن تكن ترادفه أحيانا ) باعتبار أن اللغة وظيفة مشتركة بين البشر، واللسان « نسق من العلامات الصوتية » خاص بمجتمع معين ، يوجد خارج إرادة الأفراد ويفرض نفسه عليهم ويحدد معجم اللسانيات ( لاروس ، 1973 ) اللغة على النحو التالي : « اللغة هي القدرة الخاصة بالنوع البشري ، على التواصل بواسطة نسق من العلامات الصوتية ( اللسان )، وهي قدرة تستخدم تقنية جسدية معقدة ، وتفترض وظيفة رمزية ، ومراكز عصبية متخصصة وراثيا .»
يتيح هذان التحديدان للغة استخلاص النتائج التالية :
1 . أن اللغة من حيث هي وظيفة التعبير الكلامي عن الفك ، وقدرة على التواصل ، خاصة بالإنسان كنوع، ومن ثم فهي مشتركة بين جميع أفراد البشر، بهذا المعنى يكون كل فرد بشري قادرا بطبيعت، مبدئيا ، على الكلام والتواصل
 2 . ولكن اللغة من حيث هي لسان ، لا تتحقق إلا في شكل مؤسسة اجتماعية تتخذ شكل نسق من العلامات والرموز الصوتية، يعد شرطا للكلام الفردي . وهنا يبدو أنه لا يمكن للفرد البشري أن يتكلم خارج المجتمع، وبدونه.
 3 ، تتوقف اللغة على نشاط فسيولوجي عصبي وراثي منطقة في الدماغ خاصة باللغة ) وعلى جهاز صوتي ( الحنجرة ، اللسان ، الفم . .. الخ ) ، وعلى نشاط فكري رمزي، ولكن اللغة لا تتوقف على الصوت ما دام يمكن أن تكون هناك لغة إشارية إيمائية ورمزية غير كلامية.
 يتجلى من هذه النتائج بوضوح أن اللغة ليست هي الكلام ، وإنما هي وظيفة رمزية تمارس من خلال الكلام ومن خلال أي نسق رمزي أخر غير كلامي. ومن ثم فإن ارتباطها بالكلام والصوت أمر عرضي. ولكنه صار أساسيا وجوهريا بسبب التأسيس الاجتماعي للغة في صورة نسق من العلامات (الكلمات) الصوتية، وبالنظر إلى الإمكانيات التي يوفرها الكلام ، بالمقارنة مع أشكال التعبير والتواصل الأخرى غير الكلامية .
 غير أن هذه النتائج تتضمن مفارقات وتقابلات تضفي على اللغة طابعا إشكاليا: فهي تبدو فطرية طبيعية ومكتسبة ثقافية في آن واحد، مادية ولا مادية، وهي فعل فردي إرادي حر (كلام) وكيان موضوعي اجتماعي قسري (لسان)، هي نتاج للفكر (الوظيفة الرمزية)، ووسيلة للتعبير عنه وتبليغه (التواصل).
 من مجموع هذه المفارقات والتقابلات يتكون الأساس النظري الذي تقوم عليه الإشكالية الفلسفية المتعلقة باللغة. وهي إشكالية يمكن صياغتها في أسئلة كهذه: هل اللغة خاصة بالإنسان، وما الذي يجعلها كذلك؟ كيف تنشأ الدلالة والمعنى في اللغة، بشكل تلقائي وطبيعي أم بالمواضعة والاتفاق؟ وما هي طبيعة العلامة والرمز اللسانيان وما هي علاقتهما بالأشياء، وبالفكر؟ هل اللغة تعبير عن الواقع أم عن الفكر؟ وهل للفكر وجود مستقل عن اللغة، أم أن اللغة هي نسيج الفكر وقوامه؟ كيف تؤدي اللغة وظيفة التواصل؟ وهل تنحصر وظيفتها في التواصل؟ وهل تؤدي خلال التواصل إلى وظيفة الكشف فقط، أم وظيفة الإخفاء أيضا؟

2- اللغة الإنسانية واللغة الحيوانية:  

ينبع التساؤل الفلسفي عما إذا كان للحيوان لغة أم لا، من ملاحظة مظاهر تواصلية لدى بعض الحيوانات، ومعاينة قدرة الأليفة منها، بصورة خاصة، على فهم الكلام البشري والاستجابة له وتقليده في حدود معينة، كما يتجلى ذلك لدى الببغاوات والكلاب مثلا . وقد اختلفت المواقف الفلسفية من هذه المسألة. غير أن الموقف الفلسفي الرئيسي هنا يظل هو موقف ديكارت. وهو يتلخص في أن اللغة من حيث هي كلام، هي خاصية مميزة للإنسان وحده، ولا وجود للغة، بهذا المعنى، لدى الحيوان، فالحيوانات لا تنطق ولا تتكلم مثل الإنسان مع أن بعضها يمتلك جهازا صوتيا مماثلا للجهاز الصوتي البشري، والحيوانات القادرة على تقليد الكلام البشري، عاجزة عن تأليف وإعادة تأليف كلمات جديدة، للتعبير عن معان ودلالات جديدة، ويرجع السبب الرئيسي، في نظر ديكارت، في ذلك إلى افتقار الحيوانات للعقل والفكر والوعي. فالحيوان كالآلة لا يبدع كلاما، وإنما يستجيب استجابات انفعالية لمؤثرات تسبب له ألما أو لذة. فاللغة الإنسانية نتاج للفكر والعقل، ولذلك تتسم بالخلق والإبداع والتنوع، وتتلاءم مع جميع الظروف والملابسات (الكلام خاصية إنسانية - ديكارت ).
يتعزز موقف ديكارت هذا بنتائج الدراسات اللسانية المعاصرة لخصائص اللغة الإنسانية بالمقارنة مع التواصل الحيواني، فقد كشف بنفينست ، استنادا على نتائج دراسة كارل فون فريش للتواصل لدى النحل، عن خصائص رئيسية ثلاث تتميز بها اللغة الإنسانية وهي: ارتكازها على الصوت، وتحرر العلامة أو الرمز فيها من الموضوع الخارجي الذي يشير إليه، وقابلية الكلام البشري للتحليل إلى وحدات لغوية دلالية وصوتية قابلة للتأليف وإعادة التأليف إلى ما لا نهاية، يضيف أندريه مارتينيه إلى هذه الخصائص الثلاث، خاصية التمفصل أو النطق المزدوج، لهذه الوحدات اللغوية البسيطة التي تتكون منها اللغة البشرية، ذلك أن هذه الوحدات هي على صنفين:
 وحدات دالة، وهي التي تسمى المونيمات أو المورفيمات، ووحدات خالية من الدلالة والمعنى وتسمى الفونيمات. المونيمات هي وحدات دالة لا تقبل التجزئة من حيث الدلالة. فكلمة « طاولة»، مثلا هي وحدة دالة بسيطة لا تتجزأ دلالتها ومعناها ولا ينقسمان على جزئيها (طا) و (ولة). ويتمثل تمفصل هذه الوحدات في قابليتها للتأليف في شكل منطوقات أو جمل تترابط في شكل سلسلة كلامية تحتل فيها كل مونيمة (كلمة) موقعا معينا. ولكنها قابلة لتغيير مواقعها، ولأن تستبدل بها أخرى بحيث تنتج معاني ودلالات جديدة بمجرد هذا التغيير والاستبدال.
 فمثلا (سينام الولد) ، هو منطوق مؤلف من خمس مونيمات هي : س + ي + نام + ال + ولد. وهي كلها قابلة لتغيير مواقعها واستبدال أخرى بها، مثل (سيستيقظ الولد). غير أن هذه الوحدات قابلة من الناحية الصوتية للتحليل إلى وحدات بسيطة غير دالة (فونيمات) تتمفصل تمفصلا ثانيا أي تقبل التأليف والتغيير والاستبدال، مثل (كلم محمد عليا) حيث يمكن تغيير مواقع فونيمات المونيم (كلم) للحصول على مونيمات أخرى ذات دلالة جديدة مثل (لكم)، و (ملك)، ومن ثم يكتسب المنطوق دلالات جديدة أيضا مثل ( لكم محمد عليا ).
على هذا النحو يمكن للإنسان أن ينتج مالا يتناهي من المنطوقات والدلالات من عدد متناه ومحدود من الوحدات اللغوية البسيطة، وأن يعبر عن تجربته ويحللها دون حاجة إلى خلق عناصر لغوية مقابلة لكل الأشياء والحوادث. ( التمفصل المزدوج - مارتينيه).
 على أن هذه الخصائص المميزة للغة الإنسانية بقدر ما تكشف عن الإمكانيات المدهشة لهذه اللغة، بقدر ما تفتح المجال للتساؤل عن أصل اللغة الإنسانية ومصدرها. وقد كان هذا التساؤل هو أول تساؤل طرحته الفلسفة، فعلا، حول اللغة، بداية من أفلاطون الذي طرح للإجابة عليه فرضيتان: فرضية المحاكاة، وفرضية المواضعة والاتفاق، ناقشهما في محاورة خصصها لهذا الموضوع، هي محاورة «كراتيل». غير أن نشأة اللسانيات الحديثة جعلت مسألة أصل اللغة تفقد أهميتها من الناحية الفلسفية النظرية، أولا لأن اللسانيات الحديثة حولت الاهتمام إلى دراسة اللغة من الداخل كنسق ونظام تاركة البحث في أصل اللغة لعلوم أخرى مثل الحفريات، والانثروبولوجيا وغيرهما. ثانيا لأن تميز الإنسان باللغة دون الحيوان، صار موضوعا للبحث البيولوجي العصبي الذي لا يزال جاريا من أجل الجواب على السؤال لماذا يتكلم الإنسان ولم تتكلم الحيوانات الأخرى؟ تبعا لذلك أصبح اهتمام الفلسفة منصبا بدوره على قضايا الدلالة والمعنى، والرمزية، والتواصل، فكيف تنتج اللغة الدلالة والمعنى؟ كيف تنشأ العلامة والرمز اللسانيان؟ وما علاقتهما بالموضوعات والأشياء؟

3 - العلامة والرمز اللسانيان:

عندما ننظر إلى موضوع بذاته في وجوده الخاص ، دون توجيه الفكر إلى ما يمكن أن يمثله هذا الموضوع، فإن الفكرة التي تتكون لدينا عنه هي فكرة الشيء، مثل فكرة الأرض، وفكرة الشمس. أما عندما لا ننظر إلى موضوع ما إلا بوصفه ممثلا لموضوع آخر، فإن الفكرة التي تتكون لدينا عنه هي فكرة العلامة، signe . . . وهكذا تتضمن العلامة فكرتين: إحداهما هي فكرة الشيء الممثِّل le representant ، والأخرى هي فكرة الشيء الممثَّل le represente، وتقوم طبيعة العلامة في إثارة الفكرة الثانية [في الذهن]، بواسطة الفكرة الأولى. ( المنطق أو فن التفكير، أرنو ونيكول) هكذا تكون العلامة بمعناها اللغوي العام ، نتاجا لنشاط فكري تمثلي representation  يقوم، من خلاله الفكر، باتخاذ شيء بديلا لشيء آخر، وممثلا له، أو علامة له. فالعلامة هي علاقة غير مباشرة، متوسطة، بين الفكر والواقع.
 ينطبق هذا المفهوم العام للعلامة على معنى الرمز le symbole. فكلاهما، يقوم على تمثل فكري لموضوع أو معنى ، بواسطة موضوع أو معنى آخر يتخذ واسطة، لاستحضاره في الذهن وتوقعه، بهذا المعنى يكون الدخان مثلا علامة على النار، والميران رمزا للعدالة. ومن هذين المثاليين يتضح أن العلامات والرموز، يمكن أن تتشكل من أشياء طبيعية أو صناعية ثقافية. وكما يمكن أن تتخذ العلامات والرموز شكل أشياء مادية ملموسة، ورسوم، صور، فإن من الممكن أيضا أن تتخذ شكل علامات ورموز صوتية، وهي التي تسمى العلامات والرموز اللسانية.
 وإذا كانت العلامات والرموز، عامة، هي وسائط تمثيلة، تحرر الفكر من سلطة الأشياء المادية وتنوعها الشديد وتغيرها الدائم، فإن الرموز والعلامات اللسانية تمنح للفكر حرية واستقلالية أكبر. إذ يتمكن بواسطتها من بناء عوالم رمزية يتخذها واسطة الإدراك الواقع والتحكم فيه. فبدلا من أن يولي الفكر وجهه مباشرة شطر الواقع، يؤسس نسقا من العلامات، ويتعلم كيف يستخدمها بوصفها بدائل، تقوم مقام الموضوعات.» ( مقال في الإنسان ، كاسيرر )، فالإنسان إذن حيوان رامز، لا يدرك الواقع، ولا يتواصل مع الآخرين، إلا من خلال أنساق رمزية يحيا فيها وبواسطتها . (الانسان والرمز- كاسيرر)

غير أن بين العلامة والرمز فرقا جوهريا يتمثل في كون الرمز يرتبط - على الأقل في اللغة الطبيعية واللغة الإبداعية والفنية - بعلاقة طبيعية مع ما يرمز إليه، تقوم على التشابه بين محتوى الرمز وخصائصه، وبين المعنى المجرد الذي يرمز إليه. ( الرمز والعلامة - هيجل). ثم إن الرمز يحمل في اللغة الإبداعية كثافة دلالية وشحنة وجدانية تمنحه قدرة إيحائية، وتحيطه بأسرارية غامضة، مما يجعله متعدد الدلالات قابلا للتأويل.
 ولعل ذلك راجع ، حسب وجهة نظر التحليل النفسي، إلى أن الرمز يضرب بجذوره في أعماق اللاشعور، ويختزن ذكريات منسية أو مكبوتة، تعود إلى ماضي الفرد ، أو إلى ماضي البشرية وبدايتها الأولى، كما بين فرويد مثلا في كتابه « تفسير الأحلام ».
 على عكس ذلك تكون علاقة العلامة اللسانية بما تمثله اعتباطية، أي لا تربط بينهما أي صلة طبيعية، أو تبرير عقلي أو تعليل مقصود، وإنما يرتبطان على أساس المواضعة والاتفاق. يدل على ذلك تعدد العلامات اللسانية لشيء واحد واختلافها باختلاف الألسن وتعددها. (عملية الدلالة- دي سوسير) وما يؤكد ذلك أيضا هو أن العلامة اللسانية لا تحيل مباشرة على موضوع خارجي، وإنما تحيل على تصور أو مفهوم أو فكرة. الأفكار هي التي تشكل علامات طبيعية للأشياء، أما العلامات اللسانية فهي علامات للأفكار، متواضع عليها داخل كل مجتمع. ذلك لأن فكرة الشجرة واحدة لدى جميع الناس، ولكن أسماء الشجرة مختلفة من مجتمع إلى أخر. ففكرة الشيء هي التي تنتج علامته اللسانية (اسمه) وليس العكس، فاللغة هي إذن تعبير عن الفكر، أو على الأصح هي تعبير عن الواقع كما يدركه الفكر. فالدلالة أو المعنى الذي تعبر عنه لا يستمد من الأشياء، بل من تنظيم الفكر للغة، أي من نظم الكلام وترتيبه ( اللغة والمعنى، الجرجاني). ولكن هذه الفكرة عن اللغة كأداة للفكر يطرح مسألة فلسفية تتمثل في التساؤل عن إمكان وجود الفكر في استقلال عن اللغة.

 4 - اللغة الفكر ، التواصل:

 تقوم فكرة انفصال الفكر عن اللغة واستقلاله عنها على تصور الفكر جوهرا روحيا خاصيته الوحيدة هي التفكير كما يقول ديكارت، غير أن هذا التصور يطرح استحالة قيام علاقة مباشرة بين اللغة والفكر ما داما من طبيعتين متناقضتين: هو روحي وهي مادية، إذ كيف يمكن للغة في مظهرها المادي (الكلام ، الصوت ، الكتابة ) أن تترجم الفكر، إن كان شيئا روحيا خالصا؟ أمام هذه الإستحالة نحى الفكر الفلسفة الحديث والمعاصر - مدعوما بنتائج اللسانيات-  منحى مغايرا للتصور الثنائي التقليدي للغة والفكر. إن الفكر لا يمكنه إدراك الا كنشاط أو فعالية، وليس كجوهر أو كيان، والفكر، بوصفه نشاطا، لا يتم بمعزل عن الكلام، داخليا كان أو خارجيا.
فحتى التفكير في صمت هو كلام خافت، لذلك فإن كل محاولة لتصور الفكر خارج اللغة والكلام وبمعزل عنهما، لابد أن تنتهي إلى الفشل، لأن الفكر سيظهر حينئذ ككثلة سديمية أو عمياء لا شكل له ولا صورة محددة. (اللغة والفكر - دي سوسير).
 وإذا كان الفكر لا يستطيع أن يدرك ذاته على نحو محدد إلا عبر اللغة ومن خلالها، فإن من الممكن الذهاب أبعد من ذلك، إلى القول إن اللغة هي الفكر ذاته، هي جسم الفكر وحضوره في العالم وفي التواصل بين الذوات المتكلمة، فالفكر لا وجود له خارج العالم والكلمات (الفكر والكلام - ميرلوبونتي). فلا يمكن إذن تصور فكر قبل اللغة. إنهما متعاصران، « إن الفكر تصنعه اللغة إذ يصنع اللغة ، كما يقول هـ. لاكروا. ويتضح هذا الترابط الحميمي بين الفكر واللغة في التصور البنيوي للغة. إذ أن اعتبار اللغة بنية أو نسقا من العلامات الرمزية المترابطة بشبكة من العلاقات والقوانين الداخلية، يجعل فكرة كون اللغة أداة لفكر قائم بذاته، لا معنى لها. غير أن هذا التوحيد بين اللغة والفكر، إن يكن يتجنب الاستحالات التي تقود إليها أطروحة انفصال الفكر عن اللغة، فإنه يصطدم بحالات يبدو فيها الفكر أغنى وأوسع وأعمق من اللغة، بحيث تبدو اللغة عاجزة عن الإحاطة بكل إمكانياته وطاقاته وعمقه. ولعل ذلك ما يشهد علية التطوير الدائم للغة وتنمية إمكانياتها لمواكبة عمق الفكر ودقائقه، كما يتجلى، مثلا، في المجالات العلمية الصورية خاصة (المنطق، الرياضيات مثلا)، حيث ينكشف عجز اللغة الطبيعية عن استيعاب مضامين الإبداعات العلمية، ويتم خلق لغات خاصة صورية رمزية خالصة، لا يعود هدفها هو تحقيق التواصل العامي اليومي المشترك، بل تجسيد العمليات الفكرية العقلية وإتاحة تسلسلها المنطقي الآلي تقريبا دون أي إحالة مرجعية خارجية ملموسة، بحيث يستحيل تداول هذه اللغة العلمية الصورية التجريدية، في الحياة العملية وثمة حالة أخرى ينكشف فيها عجز اللغة وعدم تطابقها مع الفكر، وهي حالة التجربة الوجدانية الصوفية، التي تبدو اللغة عاجزة عن ترجمتها ونقلها. ويرى برجسون أن ذلك راجع إلى أن اللغة العادية، وكذلك اللغة العلمية التقنية الدقيقة، هي لغة العقل بوصفه ذكاء يقوم في تعامله مع الأشياء على القسمة والتجزيء والقياس الكمي، ويسعى إلى تحقيق المنفعة والمردودية. إن اللغة من هذه الناحية فعالة، تمكن الفكر من التحرر من الواقع، والتحكم فيه، وذلك بسبب خاصية جوهرية تميزها، وهي قابلية الكلمات فيها للانتقال من شيء إلى آخر وعدم التحامها بالأشياء. غير أن الكلمات إن تكن تحرر العقل من سلطة الأشياء، فإن العقل يشيء الكلمات، ويجعلها على مقاس الأشياء المادية المكانية، وينسجها على منوال الأغراض والمنافع العملية (الكلمات والاشياء – برجسون )
 تطرح هذه المشكلة (مشكلة علاقة اللغة بالفكر) بصيغة أخرى تتعلق بالوظيفة التواصلية للغة. فإذا كانت اللغة أداة تواصلية في جوهرها بحكم ارتباطها بالمجتمع (من حيث هي لسان)، فكيف تحقق اللغة التواصل؟ فإذا افترضنا أن الأفكار تختبئ في عقول الأفراد أو الذوات المتكلمة، فهل تفصح عنها اللغة إفصاحا تاما أم أن تلك الأفكار ستظل مجهولة للآخرين مهما يكن التعبير اللغوي عنها شفافا وكاشفا؟ ثم إن توقع تبعات الكشف الكامل عن النوايا والمقاصد، يقتضي بالأحرى أن تكون اللغة وسيلة للاخفاء والتمويه، وبعبارة أخرى هل توحد اللغة البشر أم تفرقهم؟
 في المنظور التواصلي الخالص ، يفترض أن تكون اللغة شفافة ، ناقلة للمعرفة والأفكار والمشاعر بشكل قابل للادراك والفهم، بشرط أن يتوفر بين الذوات المتكلمة ما يلي : وجود مرسل (متكلم) يرسل رسالة (كلاما، خطابا) إلى مرسل إليه أو متلق (مخاطب)، ثم توفر الطرفين على سنن code (لسان) مشترك، أي منظومة رمزية (أصوات، وقواعد استعمالها) يركب الأول منها رسالة مرموزة ، ويفك الثاني رموزها ويؤولها وفقا لقواعد السنن المشترك بينهما.
 وتبعا لتركيز الاهتمام حول أحد العوامل المكونة للعلاقة التواصلية اللغوية، تؤدي اللغة خلال التواصل إحدى الوظائف الست التي حددها ياكوبسون (اللغة والتواصل اكونتون).
غير أن التجربة تبين أن اللغة ليست شفافة أو لا تكون كذلك دائما وبالضرورة ، بل هي غالبا معتمة ووسيلة للإخفاء والكتمان. وهي لا تكون كذلك بشكل إرادي مقصود دائما، فقد تكون كذلك تحت تأثير المقاومات اللاشعورية الكابتة. ولكنها تكون كذلك أيضا تحت تأثير العلاقات الاجتماعية وأنظمتها الطقوسية والتحريمية. وفي هذه الحالة الأخيرة تحمل اللغة، كما يبين دوكرو ، آليات للاخفاء، أهمها آلية الإضمار. ففضلا عن التحريمات والقيود التي يتضمنها كل لسان، أو تفرضها كل جماعة لسانية على الأفراد المتكلمين، فإن كل متكلم يتخذ الحيطة والحذر في كلامه، فيضمر كل ما يمكن أن يحاسب عليه، أو يناقش ويعترض عليه من طرف الآخرين، بحيث تبدو اللغة بمثابة « قواعد لعب يومي » كما يقول دوكرو، ليس بالمعنى المبتذل للعب بل بمعناه كاستراتيجية تعتمد على الحساب والتقدير المسبق للنتائج . اللغة بين الكشف والإخفاء - دوكرو ).
غير أن ذلك لا يعني أن للفرد سلطة مطلقة على اللغة بحيث يتحكم فيها ويتصرف فيها بحرية وإرادة دون إكراه أو إرغام. إذ أن كون اللغة لسانا، يفترض أن تحمل اللغة سلطة اجتماعية محايثة لها. وهذه السلطة قائمة بالفعل في اللغة، وهي تتخذ مظهرا بريئا يتمثل في منظومة قواعد الكلام والكتابة التي تمتصها الذات المتكلمة أثناء تعلم اللغة الأم، بحيث تتمازج إدراكاتها وحدوسها وتصوراتها مع ألفاظ اللسان الذي تنتمي إليه، ومع صيغه الفعلية النحوية والتركيبية والدلالية. ( اللغة والسلطة - رولان بارث). يتأكد ذلك من خلال تجربة تعلم لغة أجنبية بعد الإنتهاء من اكتساب اللغة الأم. إذ يبدو الأمر هنا وكأنه انتقال من عالم إلى عالم آخر جديد، أو من بنية عقلية إلى أخرى مختلفة تماما.
 هكذا يتبين أن اللغة خاصية مميزة للإنسان، تكشف عنه ككائن مفكر عاقل، وتمكنه من التحرر من سلطة الواقع المادي ، ومن التحكم فيه، وتشكل شرطا لوجوده المجتمعي، بل هي نمط حياته المجتمعية، يكتسبها من المجتمع ككفاءة لغوية»، ويمارسها كإنجاز» لغوي، أي إبداع جمل وخطابات لا متناهية تتسع لاستيعاب التجربة الإنسانية بكل غناها وتعقدها. . ومع أن اللغة تحمل تناقضا صميميا يتمثل في قدرتها على الكشف والإخفاء في آن، فإنها تظل علامة مميزة للإنسان، بها يكون الإنسان إنسانا، إذ هي شرط للفكر، والفكر هو الإنسان.
المقال مأخوذ من الكتاب المدرسي : الفكر الإسلامي والفلسفة 2006

مع تحيات موقع فيلوكلوب

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/