للنشر على الموقع أو للتبليغ webphilokom@gmail.com
- اضاءة حول موضوع
- العدالة
في الفكر العربي
- المكاوي الحبيب/ طالب باحث
تقديم
تعتبر مسألة
العدالة بشكل
عام والعدالة الاجتماعية
بشكل خاص مطلب وهاجس
الكثير
من
الشرائح المجتمعية
من داخل
المجتمعات
الإنسانية،
غير
أّن هذا
الاهتمام بمسألة العدالة يأخذ أشكالا عدة بالنظر الى الكيفية التي يتصور بها
الافراد والمجتمعات هاته المسالة والتي يتدخل في تحديدها مجموعة من العوامل؛ المركز
الاجتماعي،
التوجهات
السياسية،
الثقافة
الاجتماعية المكتسبة،
الخلفيات
الأيديولوجية
والدينية، المستوى
التعليمي
والثقافي،
وغيرها...،
وبالتالي فإن معالجتنا لمسألة العدالة بشكل عام وتأطيرها داخل سياق الفكر السياسي
العربي بشكل خاص تقتضي منا أولا حفرا اركيولوجيا في المفهوم باعتباره لم يكن حديث
النشأة وإنما تمتد أصوله إلى فترة الفلسفة الإغريقية مع أفلاطون وأرسطو وغيرهم،
قبل أن يعرف المفهوم تطورا مرورا بفلسفة القرون الوسطى، المسيحية منها والإسلامية،
والفلسفة الحديثة وصولا الى الفكر المعاصر الذي اتخذ فيه المفهوم شكلا مغايرا لما
كان عليه فاختلفت تعريفات العدالة باختلاف المجتمعات والمذاهب، فنتج عن هذا
الاختلاف تساؤلات بدأت تطرح نفسها دون إجابات محددة من قبيل؛ هل العدالة موجودة
فعلاً ؟ "هل لها وجود
حقيقي أم أنها في العالم المثالي "ما
المفهوم الحقيقي للعدالة؟ هل
يمكن تحقيق العدالة؟ هل
العدالة قيمة مطلقة أم أنها قيمة نسبية؟ ما هي وسائل تحقيق العدالة؟
لمحة تاريخية حول مفهوم العدالة.
إن
تناولنا للعدالة كمصطلح قبل أن يصبح مفهوما مبلورا في نظريات سيساعدنا على فهم
التفسير السلبي للعدالة المألوف منذ شريعة حمو رابي، كونها منع الشر الكامن في
الظلم، فلفظ العدالة يقع في حقول دلالية متقاطعة مثل التساوي، والمعاملة بالمثل
والملائمة وغيرها من الدلالات التي يتضمنها اللفظ العربي، فلفظ "عادل"
بالعربية معناه ناظر أو شابه، وهو يعني أيضا وازن و"عدل" الشيء أي صححه
وجعله مستقيمًا، والعادِل هو أيضا من لا يميل به الهوى حين يحكم بين خصمين،
أو حين يطبق القواعد الاجتماعية المانعة للشر.[1]
اما العدالة في الفلسفة اليونانية عند
أفلاطون هي الفضيلة
والقيمة
المثلى
للفرد والمجتمع
وأن
كل
فرد
له
ما
له
من
الحقوق
وعليه
ما
عليه
من
الواجبات
فإن أدى
ما
عليه
من
الواجبات
أستحق
أخذ
ما
له
من
حقوق
وبهذا
فان
منظور
العدالة
عند
أفلاطون
يكون
قيمة
مطلقة
ثابتة
لأن
الفضائل
لا
تتأثر
بتغير
الأنظمة
الحاكمة
أو
المجتمعات. الا ان أفلاطون
لم
يكن
يؤمن
بالمفهوم
الديمقراطي
للعدالة
-المساواة
- لوجود الفوارق
الطبيعية
بين
الناس
مثل
القوة
والذكاء
فتكون المساواة
هنا
لم
تحقق
العدالة
لأنها
ساوت
الافراد بالرغم من اختلاف قدراتهم، بين
الذكي
وخلافه،
بين
القوى
والضعيف.
أما أرسطو فقد قسم العدالة بمعنى توزيع الحصص إلى شكلين، عدالة التوزيع وعدالة
التصحيح، والحصص التي يحصل عليها شخص ما لا تكون بالضرورة حصة متساوية مع حصة
غيره، فالتناسب بين الحصص يجب أن يخضع للتناسب بين الأشخاص وان لم يكونوا
متساويين، فمن العدل ألا تتساوى حصصهم، وهو ما يعبر عنه أرسطو في كتابه الأخلاق
النيقوماخية " إن أصل النزاعات هو في حصول غير متساويين على أشياء
متساوية"، كما يقر أرسطو على أن الميدان الأكثر أهمية لسيادة العدالة هو
السياسة. أما فيما يخص فلاسفة القرون الوسطى فإننا سنتطرق إلى الفلسفة الإسلامية بقيل
من التفصيل في محاور هاته الورقة، وبخلاف الفلاسفة اليونانين فإن العدالة من
وجهة
نظر
الفيلسوف
الإنجليزي
ديفيد
هيوم هي
تحقيق
الرفاهية
للفرد
لكونه
مستهلكا
حتى
يحترم
القانون
ويلتزم
به وبهذا
يكون
ديفيد
هيوم قد
أبتعد عن
المعنى
الجوهري
للعدالة. على
عكس الفيلسوف
الألماني
امانويل
كانط الذي
يعتبرها قيمة
أخلاقية
ترتبط
بثلاثة
معايير
أخلاقية
أخرى هي
الحرية
والكرامة
والواجب،
فحتى تتحقق
العدالة
في
نظر
كانط يجب
أن
يكون
الفرد
له
كامل
الحرية،
محفوظ
الكرامة،
يؤدى
ما
عليه
من
واجبات
حتى
يأخذ
ما
له
من
حقوق،
أما
الفيلسوف
نيتشه
فكان له رأي
مغاير تماما باعتباره يشك
في
أمكانية
تحقيق
العدالة
ووجودها
على
أرض
الواقع
فالعدالة
بالنسبة له من سمات
المجتمع
الضعيف
و
لا
مجال
لها
في
المجتمع
القوي،
وغيرها من التفسيرات التي قدمها الفلاسفة عبر تاريخ التطور الفلسفي.
العدالة في الفكر العربي
يعتبر
موضوع العدالة في الوقت الحاضر من المواضيع الحيوية في الفكر العربي المعاصر نظرا
لارتباطه بعدد من أسئلة التحول التاريخية الذي يعرفها المجتمع العربي في الآونة
الأخيرة وأفاقة المستقبلية، ويرى أمحمد جبرون بأنه إذا كان غياب العدالة أو ضعفها
أحد مواطن الإجماع المحفزة للتحول الذي نعيشه، فإن مفهوم العدالة وكيفية إقرارها
يعتبران أيضا احد مواطن النزاع الحاد بين قوى التحول، وخاصة بين التيارين الإسلامي
والعلماني، كون الأول لا يخفي ميله نحو المحتوى التراثي للعدالة، بينما لا يتردد
الثاني في التأسيس لمفهوم وضعي يتطلع من خلاله إلى الاتصال بالأفق الإنساني وإحداث
قطيعة مع ما هو تراثي[2]
العدالة في الفكر السياسي التراثي
إن
تناولنا لمفهوم العدالة في الفكر التراثي يعود بنا إلى شبه الجزيرة العربية حيث
ظهور الإسلام وما خلفه من اثر في المفاهيم التي كانت سائدة في تلك الفترة، ومن
بينها مفهوم العدالة والذي عرف تفسيرا مغايرا لما كان عليه بل أكثر من ذلك فإننا
نجد تعريفات مغايرة حتى من داخل الاجتماع الإسلامي بحيث انفرد كل من الفقهاء والفلاسفة
على تعريف العدالة أفقيا أي العلاقة بين الأفراد في الوقت الذي ذهب فيه المتكلمون
وعلماء العقيدة الى التركيز على المستوى العمودي (علاقة العبد مع ربه).
ميز
الفقهاء بين نوعيين من العدالة: نوع مدني يهم
علاقات الأفراد فيما بينهم
باستقلال عن الدولة ويؤطر جانبا منه فقه المعاملات ومنظومة الأخلاق
والتقاليد، ونوع سياسي ويهم تصرفات الحاكم مع الأمة، ويؤطرها فقه السياسة وأحكامها
ونصوص الحكمة الإنسانية[3]
من هنا بدأ الحديث عن العدالة في الفكر السياسي الإسلامي بشقيها المدني والسياسي
وكانت المسؤولية عنهما ترجع أولا وأخيرا إلى الحاكم (الإمام) الذي يتحمل مسؤولية
تحقيق العدالة من خلال إنصاف المظلوم والسهر على تدبير شؤون الدولة عبر تطبيق
الشريعة وهو ما يؤكده الإمام الشافعي في كتابه ''العدل إتباع حكمه المنزَل'' بعيدا
عن أي اجتهادات[4].
كما حظيت العدالة بنصيب وافر لدى الفرق الكلامية أو المتكلمين، كما سماهم أمحمد جبرون والذين
استقلوا بمنظورهم الخاص للعدالة، وقد برزت فرقة المعتزلة على غيرها في هذا الباب إلى
درجة أطلق عليها بعض المصنفين أهل العدل، فالعدالة لدى المتكلمين تتناول الجدل
والعلاقة بين المشيئة الربانية والمشيئة الإنسانية وحدود التداخل بينهما، فإذا كان الأشاعرة قد عززوا موقف الجبر والخضوع بمظاهره المختلفة
بتغليبهم للمشيئة الربانية فإن المعتزلة
ذهبوا خلاف ذلك وانتصروا للمشيئة الإنسانية وقالوا بالحرية ومسؤولية العبد عن
أفعاله واختياره لها وهو ما عزز موقف المعارضة السياسية، وانطلاقا من الصراع
الكلامي بشأن العدالة في الإسلام فقد كان التقدم للمعتزلة على غيرهم في هذا الباب
على اعتبار أن الخلفية المؤَسِسة للاعتزال
ومقولاته خلفية مادية دنيوية تنبع
من رغبتهم في تكوين مسلم ايجابي، مسؤول عن
أفعاله، حر في اختياراته[5].هكذا
يكون العدل أو الجور في نظر المعتزلة،
الوصف الذي يلحق أفعال الرب بالنظر إلى حسن أثارها ونفعها في الواقع.
بالرغم من أن للفرق الكلامية الكثير حول
مسألة العدالة إلا أن المعتزلة منهم هي التي برزت بشكل قوي على اعتبار أنها
الوحيدة التي كافحت من اجل تأسيس العدالة الاجتماعية والسياسية في الإسلام استنادا
إلى أصول الدين.
أما
فيما يخص الفلاسفة المسلمين فإنهم خاضوا في مسألة العدالة وبحثوا فيها بشكل مفصل
وابانو عن جدارتهم من خلال الانتاجات الغزيرة في هذا الصدد ونذكر منهم ابن سينا
وأبو ناصر الفارابي، وابن باجة وابن رشد وغيرهم، ويعتبرون أيضا من أبرز المؤسسين
لما يعرف اليوم بالفلسفة السياسية.
من
بين من تناولوا مسألة العدالة من الفلاسفة
المسلمين نجد ابن سينا والذي حاول إدماج
المفاهيم الفلسفية اليونانية بشأن النفس وقواها والمدينة الفاضلة في التقليد الفكري العربي، من هنا تكون العدالة
عند ابن سينا عدالة في النفس قائمة على نوع
من التوازن أو التوسط بين قوى النفي الثلاثة ، الشهوة والغضب والتدبير،
المسؤولة عن الفعل، والذي لا يُدرَك ولا يُتحَقق إلا بسنًة تقلب الدواعي الثلاثة
إلى فضائل كبرى هي العفة والشجاعة والحكمة وتتصل هذه العدالة بالسياسة باعتبارها من اختصاص
"المشرع" الذي هو الخليفة أو الإمام[6]
ومن جهة أخرى نجد فلاسفة آخرون ذهبوا في اتجاه مخالف لابن سينا وحاولوا تبيئة
المفاهيم اليونانية داخل الثقافة العربية ومن بين هؤلاء الفلاسفة ابن رشد الذي
أعاد صياغة محاورة أفلاطون " الجمهورية" في كتاب" اسماه ب "الضروري
في السياسية" من اجل تقربيه من القارئ العربي، وقد ذهب ابن رشد في تفسيره
للعدالة إلى تبني نفس الموقف الأفلاطوني وهي أن يعمل كل فرد العمل الذي اعد له ولا
ترغب نفسه في ما ليس له، وهو الموقف نفسه الذي ذهب إليه ابن باجة في كتابه " تدبير المتوحد"[7]
وهناك أيضا العديد من الفلاسفة الذي لم يسعنا الوقت للحديث عنهم.
عموما
فالزخم الكبير من الكتابات العربية في مفهوم العدالة لدى كل من الفقهاء والمتكلمين
والفلاسفة شكل إطارا نظريا - لممارسة العدالة- في المجال العربي الإسلامي، لكنها
سرعان ما وقعت في أزمة داخل المجال الإسلامي تحت تأثير الحداثة الغربية، ما جعل
الكثير من الأعلام أو كما تمت تسميتهم فيما بعد "بالإصلاحيين العرب"
يستأنفون التفكير في مسألة العدالة ومحاولة تجديدها، ومن أبرز هؤلاء نجد الإمام
"محمد عبده"
الاصلاحيون
العرب ومفهوم العدالة
أدرك
الإمام محمد عبده مأزق العدالة التراثية وتخلف مفرداتها عن العصر ومباهج الحضارة
التي تمثلت في المنجز الفكري الغربي، لذلك لجأ إلى نقد مفهوم العدالة لدى العرب
والمسلمين والاجتهاد في البحث عن مفهوم جديد يسمح لهم بمواكبة العصر، ومن خلال
مجموعة من الأعمال والمواقف تميز الإمام عبده عن غيره من أبناء جيله الذين جنحوا
إلى التقليد. وبالعودة إلى تجربة الإمام الإصلاحية وتراثه يمكن أن نميز بين
مستويين من خطابه:
مستوى خطاب التقليد: تجلت نزعات عبده
التقليدية في مقاربته لموضوع العدالة في أكثر من مناسبة، ولاسيما تلك التي تناول
بعض آيات العدل في القران شرحا وتفسيرا أو
تلك التي تناول فيها القضايا الكلامية ذات الصلة بموضوع العدالة[8]
، فيما يخص التفسير فإنه قد تطرق إلى مفهوم العدالة من خلال تفسيره لبعض الآيات
القرآنية والتي تعالج مفهوم العدل، اما فيما يرتبط بالشق الكلامي فإن عبده قد خاض
في مرات عدة وعقَب عن أقوال المتكلمين، بالرغم من انه حاول الابتعاد عن الخلافات المذهبية الموروثة خاصة بين
الاشعرية والمعتزلة، إلى انه في واقع الأمر انحاز إلى موقف الاعتزال فيما يتعلق
بالعدل وانتصر للحرية الإنسانية والاختيار، من هنا يرى أمحمد جبرون أن اختلال
العدالة التي عانته البلاد العربية في القرن 19 وقبله وبعده ليس ابتلاء من الله
كما تذهب الاشعرية بل نتيجة طبيعية ومنطقية لاختيارات الإنسان المسلم وتقصيره في الاجتهاد، كما يعتبر مسئولا
أولا عنها[9]
مستوى خطاب التجديد: لعل التحولات التي
شاهدتها الدول العربية والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي لم تكن معهودة من
قبيل تغلغل النظام الرأسمالي في المجال العربي والتقابل بين الطبقة البرجوازية
المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة الفقيرة
الممثلة لقوى الإنتاج، نتج عنه نوع من اللاتوازن تجلى أساسا في اتساع الهوة
بين الغني والفقير ونمو الفرق الاجتماعية بصورة غير مسبوقة، وكذلك الأحداث التي
شهدتها مصر ما بين دسمبر 1899 وفبراير 1900 والتي عرفت إضرابا للعمال ضد الشركات
الرأسمالية الاستغلالية، بعدما تم رفض
طلبات تحسين وضعيتهم، وهو ما جعل الإمام عبده يقدم فتوى يدعوا فيها الدولة إلى
التدخل في الشؤون الاقتصادية في حالة إذا اشتكى العامل من الضرر، أما إن كان راضيا
ولم يشتكي فلا داعي لتدخل الدولة... كما أن روح العدالة عند عبده لا تقتصر فقط في
دعوته الدولة إلى التدخل بقدر ما تتجلى في
سعيه إلى تخليق رأس مال وجعله أكثر إنسانية
وذلك بإلزام أصحاب الثروة بحقوق أخرى غير الزكاة المفروضة رأى فيها نفقات أخرى من شأنها تجسيد الروح
التضامنية والتكافل بين الأفراد [10]
إن هذه الاجتهادات في قضية المال والثروة
لدى الإمام عبده وخاصة فيما يتعلق بالحقوق العامة لأموال الأغنياء وحين التوزيع
جعلت من الدكتور محمد عمارة يصف الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية والمالية لمحمد
عبده "بالاشتراكية المعتدلة الشريفة".
العدالة في الفكر العربي الحديث
ينطلق
المفكر سعيد بنسعيد العلوي من ما عرفته الساحة العربية بما سمي بالربيع العربي ويعتبر
هذا اللفظ ( الربيع العربي) من أكثر النعوت شاعرية عن الحركة الشبابية والتي هيمنت على الصحافة
العربية والدولية، لكن بنسعيد يبدي تحفظا على
هذا المفهوم ويستبدله بمفهوم "الانتفاض العربي" على اعتبار أن
مفهوم الربيع العربي ليس جديدا بل مقترنا بالثورة أو التمرد على الأقل، ظهر لأول مرة في بلدان المعسكر الشيوعي القديم التي
أعلنت الإطاحة بالنموذج الماركسي( بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا، وبلغاريا
وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا القديمة...، وانتشر النعت أيضا في البلدان التي عاشت
التجارب القاسية (البرتغال، اسبانيا...) واستعمل الربيع مجازا بمعنى انه أتى بعد
شتاء طويل لفه الضباب... ولفته أسوار
عالية من الأوهام لإيديولوجية. لكن ما يؤكد عليه بنسعيد هو استحالة المقارنة بين
الانتفاض التي شهدته البلدان العربية والثورات التي عرفتها البلدان غير العربية
والتي أطاحت بالأنظمة الشيوعية والعسكرية، والسبب هو أخد هاته البلدان الأخيرة
بالنموذج الليبرالي والعمل بنظام اقتصاد السوق وسلوك طريق الرأسمالية مع مراعاة
الوضوح التام في ذلك، بينما في المجتمعات العربية يمكن فقط الحديث عن عفوية في
النظرية أو عن غيابها، كما يرجع أيضا سبب ضعفها إلى دور الأحزاب التي لم تستطيع تأطير
الوعي العربي كما كانت تدعي، والتي أبانت عن ضعف شديد و اندهاش لما وقع وللسرعة
التي تم بها ذلك، وهو الشيء الذي جعل الحركة تفتقد إلى القيادة والزعامة
الكاريزمية، كما أنها تركزت أساسا حول شعارين أساسين أولهما " ارحل وثانيهما
" العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية[11]
ينطلق
بنسعيد العلوي من توصيفه لحركة الانتفاض العربي بالعفوية من عاملين أساسين: أولهما
أنها كانت خالية من التوجهات الإيديولوجية، وهو ما شكل مصدر قوة وضعف معا ويتساءل
أيضا عن الإيديولوجيات التي أعلن الانتفاض موتها بمعنى التي كانت غائبة عن الميدان،
كما أن الشعارات في نظره التي رفعت لم تكن تدين جهة معينة ( الامبريالية العالمية،
البرجوازية أو أنماط الصراع الطبقي) بل كانت على اختلاف البلدان تدين الفساد
واقتصاد الريع وتطالب بالعدالة الاجتماعية كما أن الشعارات أيضا لم تكن تنادي بان
الإسلام هو الحل، لكنه يرى أن الإسلام ظل حاضرا من خلال أداء الصلاة جماعة في
الميدان وهو ما يفترضه بنسعيد بتغلغل الإسلام في المجتمعات العربية على ما يبدوا،
من هنا كان غياب الإيديولوجيات مصدر قوة لأنه استطاع أن يوحد الأصوات حول مطلب العدالة باعتباره
المطلب الذي كان الاجتماع حوله، كما أن غياب الأيديولوجية كان مصدر ضعف لان الحركة
كانت تفتقد إلى القيادة والتوجيه الصحيحين بل أكثر من ذلك كانت عرضة للإستلاء
عليها من طرف جهات أكثر تنظيما أو التي تمتلك القدرة على المناورة.
كما
أن العامل الثاني الذي وقف عنده بنسعيد الذي يؤيد حضور العفوية في حركة الانتفاض
العربي يتجلى في نظرية المؤامرة التي أبانت عن حدودها وتهافتها: إذ أن التحليلات
السياسية أظهرت قوة المفاجئة لدى القوى الأجنبية من جهة وتكذيب الفكرة الخاطئة
التي ترسخت في الذهن العربي كون العرب يشكلون حالة استثناء في التاريخ، وأن عقدا
يربطهم برفض الديمقراطية ويحملهم على قبول نقيضها[12].
أمام كل هذه العوامل يتساءل بنسعيد العلوي حول إمكانية اعتبار الانتفاض العربي
وارث شرعي للنهضة العربية؟
يرى
بنسعيد العلوي أن عصر النهضة قد مر بمرحلتين: المرحلة الأولى هي تلك التي تمثلها
الرحلة العربية صوب اروبا وهي الفترة التي تمتد بين نهايات القرن 19 ومطلع القرن
20، أما المرحلة الثانية فترجع إلى بدايات العشرية الأولى إجمالا بمعنى أن الرحلة
نحو ارويا وتدوينها استمرا بعد ذلك. ويعتبر أن الرحالة العرب المعاصرون هم الرواد
الأوائل لفكر النهضة العربية ويرجع ذلك لسببين: أولا أن الرحلة شكلت صدمة كبرى
للمفكر العربي بحيث أظهرت له الفرق الواضح بين الحضارتين الغربية المتقدمة
والعربية المتدهورة، وثانيا أن الرحلة كانت مناسبة للمفكر العربي من اجل تدوين
ملاحظات ثاقبة من اجل وضع مقارنة بين الحضارتين ومحاولة الإجابة على السؤال
الأساسي الذي طالما شغل باله، "لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟ " ويعتبر
الشيخ رفاعة الطهطاوي أول من وضع هذا السؤال وهو عضو بالبعثة الطلابية إلى بريس
مابين 1830 و1834 والذي يرجعها – أسباب تخلف المجتمعات العربية عن ركب الحضارة
الغربية- في كتابه " تخليص الإبريز
في تلخيص باريز" إلى تحقيق العدالة هناك وغيابها هنا[13]
يبقى
السؤال القائم كما أشار إلى ذلك فهمي جدعان في الورقة التي قدمها للمؤتمر السنوي
الثاني في العلوم الاجتماعية بالدوحة، تحت عنوان "العدالة في حدود دنطولوجية
عربية" إذا كان العدل هو المبدأ الأساس الذي تطلبه مجتمعاتنا ومؤسساتنا
ودولنا اليوم، وانه مثل ما يقول جون راولز في " نظريته العدالة كإنصاف بأنه
الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، فما هي طبيعة هذا المبدأ وما هي النظرية التي
تتلاءم ومجتمعاتنا العربية.
أمام
هاته الأسئلة وغيرها سنحاول أن نقف عند مقاربة مراد دياني لنظرية العدالة من اجل
بلورته لمعالم العدالة الاجتماعية في النموذج الليبرالي المستدام
معالم النموذج الليبرالي المرتجى لما بعد الربيع العربي
ينطلق
مراد دياني في بناء مقاربته للعدالة من الانتقادات التي وجهها لنظرية العدالة كإنصاف
لراولز على مستوياتها الأربع: الوضعية الأصلية، عقلانية الأفراد المتعاقدين، النهج
التعاقدي، ومستوى التوافق "القبلي" الافتراضي للجميع.
ومن
اجل وضع معالم نموذجه الاقتصادي والاجتماعي المتسق لما بعد الربيع العربي يعتبر
مراد دياني أن نظريته هاته تعتبر مكملة لنظرية راولز من حيث أنها تدخل مبدأ
العلائقية الاجتماعية والإخاء كمبدأ ثالث مكمل لمبدأي الحرية والمساواة عند راولز.
يبني
مراد دياني مقاربته على أساس ثلاثية (الحرية- المساواة- الإخاء)
كمنظور مثالي، وهو الشعار الذي نشأ في عصر الأنوار قبل أن يتبلور في الثورة
الفرنسية ، فمراد دياني يرى بأنه بالرغم
من تناول هاته العناصر الثلاثة في الماضي
إلا أنه لم يتم الوقوف عند العلاقة التي تجمع هاته المكونات الثلاث، قبل أن يقوم
بالتأسيس الواقعي لنظريته في العدالة ( حرية- مساواة – مواطنة ) على أساس أن هذا
المنظور للتآخي يظل بعيدا عن السياق العربي لدرجة انه قد يبدو طوباويا
بامتياز وهو ما دفع دياني إلى محاولة "تبيئته" ومواءمته مع الخصوصية
العربية عبر تفكيك الاندماج الاجتماعي
وتحديد مقتضياته العملية التي تسمح بتفعيل نظرية العدالة في الواقع العربي الراهن[14].
وبالتالي يضع دياني خمس مستويات والتي تُظهر
بشكل جلي معالم النموذج الليبرالي المستدام:
اتساق الحرية والمساواة: بمعنى انه كلما كان
النظام متسقا ومتساويا كان أكثر توليدا للقيمة والثروة. لذا فأن أكثر الدول
مساواتية في العالم (الدول الاسكندنافية مثلا) هي اكترها غنا ورفاها في الآن نفسه.
تكافئ الفرص المنصف: والذي يهدف إلى وضع
الجميع في المستوى نفسه وهو القائم على التربية والتعليم والذي يهدف إلى حصول
الجميع على التربية المتناسبة وعلى حق الوصول إلى أعلى المناصب الاجتماعية، وأيضا
الحد من انتقال الامتيازات من جيل إلى جيل، وأخيرا على نظام التمييز الايجابي الذي
يجعل من اللامساواة ومن التمييز آليات لتحقيق تكافئ الفرص الحقيقي لا الشكلي.
الجدارة والاستحقاق: على أن يكون مبدأ
الكفاءة والاستحقاق هو المحدد الأساس لشغل المناصب ...
تحديد الملكية: بمعنى انه يجب مناقشة حدود
الملكية عوض حدود الفعل وهذا هو بالضبط الخيط الفاصل بين الليبرالية المتوحشة التي
لا تعترف بأي حدود للملكية الخاصة (مثل الحدود المرسومة لتراكم رأس المال وتركزه)،
والليبرالية الاجتماعية التي تبنى على فكرة تحديد الملكية الخاصة بالأساس عبر
نموذج " ديمقراطية وصول الجميع
إلى تملك الملكية".
المنظور البعيد للعيش المشترك: على اعتبار
أن التسويات والتوازنات ليست مستقرة نتيجة لصراع القوى وتدافعها على مستوى الواقع
فإن العلائقية الاجتماعية القائمة من جهة عملية على المواطنة ومن جهة مثالية على
التآخي هي وحدها القادرة على أن تمنح مثل هذا المنظور[15].
عموما تبقى مسألة العدالة في العالم العربي -بالرغم
من كل ما قيل فيها-إشكالية عميقة تحاول تجاوز ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون
الأمر الذي يتطلب أولا وقبل كل شيئا تحولا في الابستيمية العربية وكذلك في
الدينامية المجالية والمؤسساتية من اجل وضع الأسس الأولى للحديث عن عدالة في
المجتمع العربي، كما أن هاته الورقة ليست سوى محاولة لفتح الطريق امام القارئ العربي
للتعمق اكثر في الكتابات الوازنة والمؤسِسَة لمفهوم العدالة تنظيرا وممارسة والتي
من شأنها ان تفتح الباب على مصراعيه لنقاشات عميقة ن جادة ومتخصصة كفيلة بالمساهمة
في التأسيس لعدالة وفقا للخصوصية المجتمعية.
[14] مراد
دياني، حرية-مساواة-اندماج اجتماعي نظرية
العدالة في النموذج الليبرالي المستدام ، المزكز العربي للأبحاث ودراسات السياسات،
2014، ص 111
[15] مراد دياني، حرية-مساواة-اندماج اجتماعي نظرية العدالة في النموذج الليبرالي المستدام ،
المزكز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2014، ص 224، 225
المكاوي الحبيب
0 تعليقات