فوكو وميكروفيزياء السلطة - الجزء الثاني بقلم سفيان أيت زينب |فيلوكوم philokom|

فيلوكلوب يونيو 11, 2019 يونيو 15, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A

للنشر على الموقع أو للتبليغ webphilokom@gmail.com


  • فوكو وميكروفيزياء السلطة - الجزء الثاني للإطلاع على الجزء الأول هنا

    • سفيان أيت زينب، حاصل على الإجازة في الدراسات الأساسية تخصص الفلسفة
    _______________________________________
    في إطار بلورة  تصور جديد لمفهوم السلطة، سعى المشروع الفُكَوي الى نقد ودحض المُسَلمات التقليدية المتعلقة بهذا المفهوم، التي لازمت الفكر الفلسفي وخاصة السياسي منه مند قرون خلت. وتجدر الإشارة الى أن فوكو لم يكتفِ بنقد تلك المُسلمات ودحضها، وإنما عمد في المقابل الى طرح بديلاً منها، وهذا ما سيحاول التأسيس له بحفره لمصطلح "ميكروفيزياء السلطة" فماذا يقصد فوكو بهذا المصطلح؟ وماهي المسلمات التي إنتقدها وسعى الى دحضها؟ وماهي البدائل التي جاء بها؟
    في مؤلفه المراقبة والمعاقبة، يقدم لنا فوكو رؤية جديدة لمفهوم السلطة، رؤية تُخرح مفهوم السلطة من الإنحصار و التقوقع الى الإنتشار و التعدد، من التعالي الى المحايثة؛ بحيث أصبح الحديث مع فيلسوف الأركيولوجا عن السلطة بلغة الجمع، فأصبحنا نتحدث عن سلطات جزئية مصغرة ومنتشرة، في مقابل السلطة الأحادية و الكلية، التي هيمنت على التقليد السياسي الكلاسيكي. إن قيمة ميشيل فوكو كفيلسوف تجلت في إبداعه للمفاهيم بالمعنى الدولوزي، فالرجل أبدع مفاهيم خاصة به و أصبح يعرف بها في الأوساط الفلسفية، ومن إبداعاته نذكر مفهوم ميكروفيزياء السلطة. فماذا يعني هذا المفهوم في فلسفة أستاذ القاعات السبع؟ وماهي جدوره الفلسفية؟
    يمكن أن نجد صدى لهاذا المفهوم (ميكروفيزياء السلطة) في الفضاء الإغريقي، وتحديدا في التصور الذّري عند ديمقريطس القائل: بأن الذّرة موجودة في كل مكان، وهي غاية في الدقة كالتي تتطاير في أشعة الشمس."([1]) فالسلطة عند ميشيل فوكو شأنها شأن الذّرة عند ديمقريطس موجودة في كل مكان، لا تتحدد بما هو سياسي بل تتجاوز تخومه بإستمرار. فالميكروفيزيائية تضفي على السلطة طابع التعدد و الكثرة، و تتجاوز الإختزال والوحدة.
    بالإضافة الى أن فوكو يقترب كثيراً من لودفيغ فيتجنشتين؛ لأنه بمفهومه هذا قد أنجز فلسفة تحليلية سياسية. حيث أن فوكو تمكن من تفتيت السلطة الى جزيئات وذرّات متناهية في الصغر، على الطريقة الفيتجنشتاينية في التحليل؛ الذي يعني في مفهومه العام فك كل ماهو مركب الى أجزائه وعناصره البسيطة. وكما هو معلوم أن فيتجنشتين طبق المنهج التحليلي على اللغة، عبر تفتيتها الى جزيئات وذرّات تتألف منها للوصول الى مدى مطابقة اللغة للواقع([2])". وميشيل فوكو هو اللآخر قام بتفتيت السلطة، وبحث عنها في ثنايا الجسد الإجتماعي، لينتهي الى أن السلطة متعددة ومتنوعة. إذا صحت هذه المقارنة فيمكن إعتبار فوكو إستعمل المنهج التحليلي في دراسته للممارسات السلطوية وآليات تشكلها.
    بالرجوع الى الى مفهوم ميكروفيزياء السلطة micro-physiques du pouvoir  في فلسفة ميشيل، نجده يعني أول مايعنيه، أن السلطة مجهرية تخترق العلاقات الإستراتيجية ضمن صراعات الحياة اليومية. فالميكروفيزياء إنتقالٌ من الأشكال السياسية التوتاليتارية على حد تعبير حنا أرندت، الي تقنيات وإستراتيجيات سلطوية أكثر إنتشاراً؛ حيث أصبحت السلطة دقيقة كالشعرة تؤثر في الأجساد وتنتشر من خلالها في المصانع والثكنات والمدارس والملاجئ والسجون. وستقطع ميكروفيزياء السلطة مع التصور التقليدي، الذي يختزل السلطة في نزعة القمع وتتجاوزه نحو أفق إبراز أن السلطة توجه الطاقات وتنتج المعارف.
    يمكن إعتبار أن الجديد الذي جاءت به المقاربة الفكوية هو كشفها عن البعد الخفي، وإماطة اللثام عن الوجه المنسي للسلطة؛ فأبحاثه و تحليلاته لهذا المفهوم كشفت لنا حقيقة مفادها: أن للسلطة وجه آخر يقابل الوجه الذي إعتدنا مقابلته: المنع، القمع، المراقبة، العقاب...الخ. فلو كان هذا وجهها الوحيد والثابت لما تقبلها الناس، ولما بقيت قائمة. ولكن للسلطة وجهٌ آخر إيجابي، "الوجه المنتج"، فلو كانت السلطة دوما سلطة قمعية، وإذ لم تكن تفعل شيئاً آخر سوى أن تقول لا، فهل تعتقد (الكلام موجه الى محاوره ميشال فونتانا) حقا أن الناس سيطيعانها؟ إن ما يجعل السلطة تستوي في مكانها، ويجعل الناس يتقبلونها، وأنها لا تتقل عليهم كقوة تقول لا، لأنها تخترق الأشياء وتنتجها وتستخلص اللذة وتصوغ المعرفة وتنتج الخطاب. يجب إعتبار السلطة بمثابة شبكة منتجة تمرعبر الجسم الإجتماعي كله أكثر مما هي سلبية وضيفتها هي ممارسة القمع."([3])
    لا يجب أن يُفهم من هذا القول أن ميشيل فوكو ينفي القمع من الممارسات السلطوية، لكنه في الحقيقة لا يَعتبره إلا مظهراً من مظاهر السلطة ولا يُشكل جوهرها، وبالتالي فالسلطة لا تلجأ بالضرورة الى القمع في ممارساتها، بل تتجاوزه وتسمو عليه. فلو كانت السلطة تُمارس نفسها إنطلاقاً من القمع سيكون مآلها التفتت و الزوال، لكنها تُنتج أكثر مما تقمع وهذا ما يسمح لها بالإنتشار والتوسع."([4])" فمن الخطأ القول أن فوكو يجهل كل شيئ عن القمع والأيديولوجيا، بل يعتبرهما في الحقيقة، شأنه شأن نيتشه، لا يشكلان معركة القوى، بل ذلك الغبار أو النقع الذي تثيره سنابك الخيل في المعركة."([5])
    لقد حاول فوكو من خلال هذا التحليل الميكروفيزيائي للسلطة، أن يبين عجز الفرضية القمعية والتصورالقضائي عن الإحاطة بالآليات الإنتاجية للسلطة، وإغفال خصائص تاريخية أساسية أدى تجاهلها الى حصر السلطة في صورة القانون، وما يرتبط بهذه الصورة من مفاهيم كالحق والحرية والشرعية و الإرادة والدولة...الخ، وكل الثنائيات التي تؤدي الى إقصاء مواقع الفعل و آليات و مادية ممارسة السلطة."([6]) إن دراسة ميشيل فوكو للسلطة تتجاوز الأطر الدراسية التقليدية تلك التي كانت منحصرة في فضاء الثنائيات المعهودة المرتكزة حول الأصل.
    عموما يمكن القول أن نظرية ميكروفيزياء السلطة هي نظرية تجزيئية([7])" لمشكل السلطة الى وحدات مصغرة؛ حيت تبدو مبعثرة ومتفرقة تخترق الجسد الإجتماعي. فالسلطة الميكروفيزيائية لا تخضع للضبط ولا للتحديد ذلك لكونها منتشرة بطريقة مجهرية في ثنايا المجتمع، تراقب كل أجزائه، وتُشرف على عمل وظائفه بدقة وإتقانٍ عالٍ. لذلك يجب البحث عن السلطة من حيت هي قوة تُمَارس قبل أن تتملك و تتجسد (ما دامت لا تمتلك إلا بشكل يتحدد، كما هو الشأن في الطبقة، أو بشكل يحدد، كما هو الحال في الدولة)، تبسط نفسها على الكل، غالبين أو مغلوبين ما دامت تخترق سائرالقوى الموجودة. إنه موقف نتشوي عميق."([8])
    تأسيسا على ما سبق، يمكن القول أن مفهوم ميكروفيزياء السلطة مفهوم زئبقي يند عن كل تعريف، ويفلت من كل تحديد، لا يكف عن تغيير وجهه كالثعبان، الذي لا يكف عن تغيير جلده على حد تعبير نيتشه، فالسلطة الميكروفيزيائية مبثوثة في كل مكان، أينما وليت وجهك فثمة سلطة، تتنكر بلباس العارف و الجاهل و المربي والطبيب...الخ، ليس لها وجه واحد ولا تفهم الا باعتبارها علاقات قوى، أو لعبة للقوى مجهولة من جهة الفاعل، لايمكن حصرها في مجال معين بعينه. السلطة حاضرة في كل مكان: ليس لأنها تمتاز بتجميع كل شيئ ضمن وحدتها التي لاتقهر، بل لأنها تنتج ذاتها في كل لحظة، في كل نقطة، أو بالأحرى في كل علاقة من نقطة الى أخرى. السلطة في كل مكان ليست لأنها تشمل كل شيئ بل لأنها تأتي من كل مكان."([9])"
    ثانياً: نقد المسلمات التقليدية
    إن أستاذ القاعات السبع في بلورته لهذا التصور الجديد، دعا الى تجاوز الفهم التقليدي لظاهرة السلطة، القائم على عدة مسلمات التي عمل على دحضها وإبطالها ومن هذه المسلمات نذكر:
    مسلمة المِلكية: مفادها أن السلطة في ملك الدولة، أوطبقة معينة، وملكيتها لها أساس الغلبة. يؤكد فوكو في رده أن السلطة ليست شيئاً يُحصل عليه يُنتزع أو يُقتسم، شيئاً نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا، إنها تمارس إنطلاقاً من نقط لا حصر لها، وفي خضم علاقات متحركة لا متكافئة."([10]) فالسلطة بهذا المعنى إستراتيجية أكثر منها مِلكية، لا ترجع آثارهاالى تملك ما، بل تعود الى تدابير و حيل ووسائل وتقنيات،([11])" تفعل فعلها في الجسد الإجتماعي، وتخترقه من كل الإتجهات، فالسلطة لايمكن حصرها مكانيا، ولا ضمن نمط محدد من المؤسسات؛ فهي ليست إمتيازاً تتمتع به الطبقة المسيطرة، بقدرما هي مشتتة و منتشرة يمارسها الأفراد حاكمين أو محكومين. فالسلطة لايجب أن تؤخد كمِلكية بل كاستراتيجية، وأن مفاعيلها التسلطية لا تعزى الى تملك بل الى إستعدادات و الى مناورات والى تكتيكات."([12])"
    يذهب فوكو في نقده لمسلمة المِلكية الى أبعد الحدود، حين إعتبرها عائق تحول بيننا وبين فهمنا لطبيعة السلطة في جوهرها، فأستاذ القاعات السبع إستعمل المنهج الجنيالوجي للتنقيب والبحث عن تشكل المَلكية، ليقول لنا أن هذه الأخيرة قدمت نفسها كمنقد من الضلال أثناء الحروب الإقطاعية في العصور الوسطوية، فالمَلكية قدمت نفسها كسلطة قادرة على وضع نهاية للحروب و العنف، وبالتالي جعلت نفسها مقبولة."([13])
    يَعتبِرُ فوكو أن سيطرة المَلكية على الحقل السياسي جعلت من المنظرين للسلطة السياسية أسرى لها، فالبحث عن السلطة بقي يحوم في فلكها. لكن فوكو أعلن أنه آن الآوان لتجاوزها، فكل ما نحتاجه على كل حال هو فلسفة سياسية لم تقف عند مشكلة السيادة، أو عند مشكلات القانون و الحظر،نحن بحاجة الى قطع رأس الملك، مازلنا بحاجة لذالك في التنظير السياسي."([14])"
    مسلمة إنحصار موقع السلطة وتميزه: مفادها أن السلطة هي سلطة الدولة، وأنها تتجسم في جهاز الدولة، الى حد أن السلطات التي لا تنتمي الى الدولة ، لا تتمتع إلا بانفصال مظهري عن سلطة هذه الأخيرة، لهذا فهي أجهزة خاصة في ملك الدولة. على العكس من هذا يؤكد فوكو أن الدولة ذاتها، مفعول و أثر للمجموع، ونتيجة لكثير من الدواليب والبؤر التي تجد موضعها في مستوى مختلف أتم الإختلاف عن ذلك الذي توجد فيه السلطة."([15])
    ينفي فوكو أن تكون السلطة مجموعة من الأجهزة و المؤسسات، أي نفى أن تكون السلطة معادلة للدولة، وإن كان لا ينفي ذلك كون الدولة معطى أساسياً في فهم السلطة لكنها لا تشكل جوهرها، وبالتالي فإن السلطة ليست وليدة طبقة أو عامل إقتصادي أو إجتماعي معين، بل وليدة سلطات مختلفة، سلطات جزئية. فالسلطة لا تأتي من فوق بل تأتي من تحت: أي أنه لا يوجد في أساس العلاقات السلطوية تناقض مثنوي و إجمالي بين الحاكمين و المحكومين."([16])"
    مسلمة الجوهر أو الأعراض: ومفادها أن للسلطة جوهرا كما لها أعراضاً تظهر على أولئك الذين يملكون زمامها، وذلك من خلال تمييزهم عن الذين تُمارس عليهم تلك السلطة. وخلافاً لهذا، يوكد فوكو أنه ليس للسلطة جوهر، وإنما هي "إجرائية"، كما أنها ليست عرضاً، وإنما هي "علاقة"، علاقة قوى، تمارس عبر نشاط؛ ومن خلال مجموعة علاقات غير متساوية، ومتحركة."([17])
    وعلاقة السلطة هي في الأساس مجموع علاقات القوى التي لا تخترق القوى الغالبة أكثر من إختراقها للقوى المغلوبة، فالسلطة لاتنفك تُحاصر المغلوبين وتخترقهم مرتكزة عليهم بالكيفية نفسها التي يرتكزون هم بدورهم على التأثير والسطوة اللذين تمارسهما عليهم في صراعهم ضدها. والعلاقات السلطوية، علاقات محايثة وقصدية وغير ذاتية، إن علاقات السلطة، بدلاً من أن تُمارس نفسها داخل دائرة عامة أو خاصة، تتغلغل في كل جانب، حيثما توجد فرضيات مهما كانت بسيطة ولا متناهية في الصغر."([18]) وفي ذالك تكمن سطوة وخطورة السلطة في آن واحد.
    مسلمة أنماط التأثير: مفادها أن السلطة تتصرف بعنف أو تمارس نفسها كإيديلوجية، أحياناً تقمع، وأخرى تموه أو تخدع وتوهم، تارة تتقمص زي الشرطة، وتارة ثانية تتخد شكل دعاية."([19]) وعلى العكس من ذلك، يؤكد أستاذ القعات السبع أن العنف ليس إلا مظهراً أو أثراً للسلطة، ولا يُمثل جوهرها. إن دور السلطة حسب فوكو ليس القمع فقط بل الإنتاج كذالك. لذلك يجب التوقف عن وصف مفاعيل السلطة بعبارات سلبية من مثل: إن السلطة تستبعد وتقمع وتكبت وتُراقب وتُخفي. في الواقع إن السلطة تُنتج؛ تنتج الوقع الحقيقي."([20]) إن فوكو يؤكد هنا الدور الإيجابي للسلطة، ذلك الدور المهمل من طبيعتها مند قرون خلت. فالسلطة تُنتج الواقع قبل أن تقمعهُ. وفي تعليقه على هذه المسلمة يقول جيل دولوز: نلحظ ذلك بوضوح بخصوص مؤتمر حزبي ما : فقد يحدث أن يعم العنف قاعة المؤتمر أو الشارع، ويحدث دوماً أن تطغى الإيديولوجيا على ما يقال في المنصة، لكن القضايا التنظيمية، تنظيم السلطة، يتم البث فيها جانبا، في القاعة المجاورة. فالسلطة لا تمارس نفسها كايديولوجية، حتى عندما تتسلط على النفوس، لا تلجأ بالضرورة الى العنف، لا تقمع في الوقت الذي تتسلط فيه على الأجساد."([21])
    مسلمة الشرعية: وهي من أهم المسلمات التاريخية المتعلقة بالسلطة التي إنتقدها فيلسوفنا، ومفادها أن سلطة الدولة تتجلى في القانون. يؤكد فوكو في نقده لهذه المسلمة التقليدية، أن القانون ذاته ما هو إلا تنظيم لنزوعات لاشرعية، تنظيم يبيح بعضها، ويجعله ممكن أو يقدمه إمتيازاً للطبقة المسيطرة السائدة. ويكفي الرجوع الى قانون الشركات التجارية للتأكد من أن القوانين لا تتعارض كلية و اللاشرعية، بل بعض القوانين  تُقنن وتُدبر بصورة صريحة سبل مراوغة القوانين الأخرى."([22])
    ينفي فوكو أن يكون القانون هو الأساس الذي تستمد منه السلطة مشروعيتها، ذلك لأنه مافتئ يحاول تكريس سياسة إغناء الغني وإفقار الفقير، فالقانون كان ولايزال في خدمة الطبقة المهيمنة، يحفظ لها حقوقها ويضمن لها إمتيازاتها، فالقانون نفسه غير شرعي. لذلك يجب علينا لفهم جوهر السلطة والإحاطة بآلياتها، أن نفك وثاقها من قبضة القانون. لإجراء تحليل ملموس لعلاقات السلطة كما يقول فوكو، يجب التخلي عن النمودج القانوني للسيادة. وفعلاً فإن هذا الأخير يفترض أن الفرد موضوع حقوق طبيعية أو سلطات بدائية؛ كما يجعل من إبراز التكوّن الأمثل للدولة هدفاً لنفسه، ويجعل أخيراً من القانون المظهر الأساسي للسلطة."([23])
    خلاصة:
    إجمالاً يمكن القول أن هناك مجموعة من التصورات التي تحكم منظور ميشيل فوكو للسلطة، وأهمها:
    أولاً: أن السلطة لا يمكن أن تكون في حالة إمتلاك متفرد لا من قِبل طبقة أو فئة معينة في المجتمع، فالسلطة ليست جائزة تُمنح لمن يستطيع الهيمنة والسيطرة على المجتمع، إنما هي إستراتيجية وممارسة، تتضمن وسائل وتقنيات وتدابير وأفعال، وينتج عنها أثار ومفاعيل على الواقع، فهي حالة ممارسة وليست حالة إمتلاك.
    ثانيا: إن العلاقات السلطوية داخل المجتمع لا تنشئ وتُمارس خارج إطار أنماطٍ أخرى من العلاقات، (العلاقات السياسية، العلاقات الإقتصادية، العلاقات المعرفية، العلاقات الجنسية)، وإنما تكون محايثة لها.
    ثالثاً: إن المصدر الحقيقي للسلطة بوصفها ممارسة يأتي من أسفل القاعدة الهرمية للمجتمع، وليس من قمة هذا الهرم، فالسلطة هي إنعكاس لعلاقات القوة والهيمنة المتعددة التي يحتويها الجسد الإجتماعي، والتي تُعبر عن حالة الإنقسام التي تسود المجتمع. ومجموع هذة الإنقسمات التي تسري أفقياً في المجتمع، يؤدي بالضرورة إلى تشكل حالة من الممارسات السلطوية العمودية التي تنطلق من أسفل المجتمع الى قمته، وبذلك تكتمل الشبكة السلطوية.
    رابعاً: حيث يكون هناك سلطة، يجب أن يكون هناك مقاومة، وهذه المقاومة لا تكون خارج السلطة بل هي جزء منها، ونقاط المقاومة دوما ما تكون حاضرة في جميع مفاصيل العلاقة السلطوية، ووجود هذه المقاومة ليس شرطاً زائداً بل تكون شرطاً واجباً لتشكل السلطة."([24]






    [1])  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، راجعته الدكتورة هلا رشيد أمُّون، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الصفحة 49
    [2])  تجدر الإشارة الي أن فيتجنشتاين في كتابه الرسالة دافع عن وجهة نظر بيتراند راسل الذرانية، التي تصادر على أن اللغة مرآة للواقع وأن تحليل اللغة يجب أن ينتهي الى الذرّات والوقائع المقابلة لها في الواقع. فالتحليل في فلسفة فيتجنشتين الأولى يعتمد على رد ماهو مركب الى عناصره الأولى، أو الى وحداته البسيطة التي لا تنحل الى ما هو أبسط. فالعالم عنده ينحل الى وقائع، و الوقائع تنحل الى بسائط أو أشياء، واللغة تنحل الى مجموعة من القضايا الأولية أو الذرّية، و القضية الأولية تنحل الى أسماء....وهكذا.
         _ أنظر: عزمي إسلام فيتجنشتين وفلسفة التحليل عالم الفكر- المجلد الثالث- العدد الرابع. الصفحة 1169
    [3])  ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير للنشر والتوزيع. ص: 63
    [4])  مفهوم التوسع هذا من إبداع الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت، و تعني به أن السلطة لكي تحافظ على مكانتها ينبغي لها أن تتوسع وتنمو، فالسلطة تعتبر توسعية النزعة في طبيعتها. فهي لديها ميل داخلي للنمو، وهي خلاقة لأن غريزة النمو واحدة من خصائصها. وتماما كما يحدث في ملكوت الحياة العضوية؛ حيث لا يكون أمام أي عنصر سوى واحد خيارين: فإما أن ينمو، وإما أن ينهار و يموت. كذلك يحدث في ملكوت الشؤون الإنسانية، حيث من المفترض بالسلطة أنها غير قادرة على التماسك مع نفسها إلا عبر التوسع، وإلا تفتت وزالت. و أن أي شيئ يتوقف عن النمو يبدأ بالتحلل.هذا ما كان يردده قولٌ كان مأتوراُ أيام كاترين الكبرى في روسيا : "إن الملوك يُقتلون ليس بسبب طغيانهم بل بسبب ظعفهم".
                 _  أنظر: حنا أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1992 ص 68
    [5])  جيل دولوز، المعرفة والسلطة، مرجع سابق، ص 35
    [6])  عبد العزيز العيادي: ميشيل فوكو المعرفة والسلطة، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1994، ص 57
    [7])  نقرأ لميشيل فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة أن السلطة منتشرة، قلما تصاغ بخطابات مستمرة ومنهحية؛ إنها تتألف في الغالب من قطع ومن أجزاء؛ وهي تستخدم أدوات أو وسائل متنوعة. ليست تشكل في أغلب الأحيان، رغم تماسك نتائجها، إلا تجهيزاً أدواتياُ متنوع الأشكال،وأثر من ذلك لا يمكن حصرها مكانيا ولا ضمن نمط محدد من المؤسسات، ولا ضمن جهاز حكومي. فهذان النمط والجهاز، يحتاجان إليها. فهما يستخدمان و يُقيمان ويفرضان بعضا من أساليبها. ولكنها بذاتها في أولياتها و مفاعيلها، تقع عند مستوى مختلفٍ تماماً. إن الأمر يتعلق، نوعا ما، بميكوفيزياء السلطة تستعمله الأجهزة والمؤسسات، ولكن حقل صلاحه يقع، نوعا ما، بين سير الأعمال هذه وبين الأجسام بداتها بما فيها من مادية ومن قوى.
            _ أنظر: ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ص 64
    [8])  جيل دولوز، المعرفة والسلطة، مرجع سابق، ص 78
    [9]) ميشيل فوكو، إرادة المعرفة، مرجع سابق، ص 102
    [10])  مرجع نفسه، نفس الصفحة.
    [11])  جيل دولوز، المعرفة والسلطة، مرجع سابق، ص 31
    [12])  ميشيل فوكو المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، منشورات مركز الإنماء القومي بيروت 1990 ص 64
    [13])  عن الطبيعة الإنسانية، مناضرة بين ميشيل فوكو و نعوم تشومسكي، نشرت على شكل كتاب يحمل نفس العنوان، تقديم جون راكمان، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2015 ص 187 .
    [14])  المرجع نفسه ص 188
    [15])  ميشيل فوكو، إرادة المعرفة؛ مرجع سابق، ص 102
    [16])  المرجع نفسه، ص 103
    [17])  الزواوي بغورة، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، مرجع سابق ص236
    [18])  المرجع نفسه، ص 240
    [19])   جيل دولوز، المعرفة والسلطة، مرجع سابق، ص 34
    [20])   ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، مرجع سابق، ص 204
    [21])  جيل دولوز، المعرفة والسلطة، مرجع سابق، ص 34
    [22])  جيل دولوز، المعرفة والسلطة، مرجع سابق، ص 36
    [23])  دروس ميشيل فوكو، ترجمة محمد ميلاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994 ص 47
    v      يقول ميشيل فوكو في مايتعلق بمسلمة الشرعية مايلي: إن المقصود بإختصار، هو أن نتجه نحو مفهوم للسلطة يستبدل إمتياز القانون بمنظور الموضوعية، وإمتياز المحظور بمنظور الفعالية التكتيكية، و يُستبدل إمتياز السيادة بتحليل لحقل علاقات القوى المتعددة العناصر، والمتحركة، حيث تحصل نتائج تسلطية إجمالية، إنما غير مستقرة كليا. يجب أن نحُلَّ النمودج الإستراتيجي محل نمودج الحق. وذلك ليس بدافع إختيار تأملي أو أفضلية نظرية، بل بالفعل، لأن إحدى السّمات الجوهرية للمجتمعات الغربية هي أن علاقات القوى التي طالما وجدت في الحرب، في جميع أشكال الحرب، تعبيرها الأساسي، قد تركزت شيئاً فشيئاً في نطاق السلطة السياسية.
               _ أنظر: ميشيل فوكو، إرادة المعرفة، ص 110  
    [24])  نقرأ لميشيل فوكو في ما يتعلق بمسألة المقاومة مايلي: " إنه حيثما توجد سلطة توجد مقاومة، وإنه مع ذلك – أو بالأحرى من جراء ذلك – لا تكون هذه المقاومة أبداً في موقع خارجاني بالنسبة الى السلطة. هل ينبغي أن نقول إننا بالضرورة "ضمن" السلطة، وإننا لا "نفلت" منها، إنه لا يوجد بالنسبة لها ماهو خارج مطلق لأننا خاضعون حتما للقانون؟ هل ينبغي أن نقول إن السلطة هي حيلة التاريخ، كما إن التاريخ حيلة العقل، وإنها هي التي تربح دائماً؟ إذا قلنا ذلك نكون قد تجاهلنا الطابع الترابطي تماماً الذي تتصف به العلاقات السلطوية. فلا يمكن أن تنوجد هذه العلاقات إلا تبعاً لتعدد نقاط المقاومة، التي تلعب في إطار العلاقات السلطوية، دور الخصم والهدف والركيزة والمسند. فنقاط المقاومة هذه موجودة في كل مكان في الشبكة السلطوية. لا يوجد إذاً بالنسبة الى السلطة مكان واحد للرفض الكبير- روح التمرد، مركز جميع أنواع العصيان، قانون واضح للثوي. توجد مقاومات ممكنة، ضرورية، مستبعدة، عفوية، وحشية، منعزلة، متفق عليها، زاحفة، عنيفة، متضاربة، سريعة في قبول التسوية، مهتّمة أو مستعدة للتضحية؛ وبالتعريف فإن هذه المقاومات متعذّرة الوجود، إلا في الحقل الإستراتيجي للعلاقات السلطوية.
                          _ أنظر: ميشيل فوكو، إرادة المعرفة، ص 104

    شارك المقال لتنفع به غيرك

    فيلوكلوب

    الكاتب فيلوكلوب

    قد تُعجبك هذه المشاركات

    إرسال تعليق

    0 تعليقات

    8258052138725998785
    https://www.mabahij.net/