تأثير هيدغر على غادمير في الفلسفة التأويلية بقلم الطالب الباحث يوسف المرابط |فيلوكوم PHILOKOM|

فيلوكلوب يونيو 08, 2019 يونيو 08, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A
للنشر على الموقع أو للتبليغ webphilokom@gmail.com
  •  تأثير هيدغر على غادمير في الفلسفة التأويلية
  • بقلم الطالب الباحث يوسف المرابط – طالب باحث – شعبة الفلسفة - المغرب 



 _______________________________ 

ان الفلسفة الهيرمينوطيقية عند هانز جوج غادامير تقف بشكل كبير على فلسفة هيدغر، مما جعل العلاقة بين الفيلسوفين علاقة معقدة ومتشابكة،كما انها علاقه خصبة وثرية،وهي بهذه المثابة تعد هدفا مستمراوموضوعا مغريا للقراءة والتأويل،ومن اجل الدخول الى صلب العلاقة بين هذين الفيلسوفين الكبيرين،والولوج الى عالمهما الرحب،هنالك اكثر من مدخل واكثر من طريق لتحقيق هذا الهدف،وهذا ما يدفعنا لوضع الاشكالات التالية:الى أي مدى كانت العلاقة بين هيدغر وغادمير اشكالية؟والى اي حد كانت هذه العلاقة مستمرة ومتواصلة؟وهل يمكن اعتبار الفلسفة التاويلية عند غادمير تمثل استمرار لفلسفة هيدغر التاويلية؟وهل يمكن اعتبار الفلسفة التاويلية عند غادمير هي تطوير لفلسفة هيدغر الهيرمينوطيقية؟
  
     لقد عرفت الهيرمينوطيقا نوع من النضج مع كل من شليرمخار ودلتاي،ويمكن القول بأنها كانت تثبت ارجلها مع هذين الاخيرين، لكن مبحث الهيرمينوطيقا لم يطور نفسه في الفكر الفلسفي إلا خلال القرن العشرين مع "جورج غادمير"، لأن اغلب الدراسات الفكرية واغلب الكتابات الهيرمينوطيقية جاءت بعده، واغلب الفلاسفة والمفكرين الذين بحثوا في الهيرمينوطيقا اما تفسيرا او شرحا او تعليقا او نقدا استلهموا غادمير، لكن لفهم فلسفة التاويل عنده فان الامر يتطلب العودة الى استاذه هيدغر الذي يحضر بشكل او باخر في فكره الهيرمينوطيقي،ومن ثم فان العلاقة التي كانت بين الفيلسوفين هي علاقة تأثير الاستاذ على التلميذ كما سنبين ذلك لاحقا.
كان لهيدغر اثر كبير على حياة غادمير، اذ كان الشخص الذي سلك به الى التجربة الفلسفية، والتي شبهها غادمير بالسعقة الكهربائية[1]،بحيث يصف اول معرفة له بهيدغر قائلا "لقد كانت السنة الاخيرة عندما اعطاني استاذي بول ناتورب اربعين صفحة من مقدمة لتفسير هيدغر،وكان لها تأثير علي اشبه بصدمة كهربائية، فلقد شعرت كشاب في الثامنة عشر بشيء شبيه بما حل بي عندما اصبحت اول مرة وجها لوجه مع قصائد ستيفان جورج"[2]
اول مرة يلتقي غادامير بهيدغر كان ذلك في فرايبورغ، ويقول عن هذا اللقاء بان هيدغر ترك عليه تاثيرا كبيرا وأجهز على الكثير من خبراته السابقة[3]. وقد تعلم على يده في نفس المدينة التي التقاه فيها، مما مكنه من تعلم كيفية تفسير النصوص القديمة الموجهة "للأشياء ذاتها".[4]
ينضاف الى ما سبق ذكره ان هيدغر هو من منح حوافز التفكير لغادمير بحيث يقول هذا الاخير"فأنا في الحقيقة تلقيت عن هيدغر حوافز التفكير في وقت مبكر جدا، فحاولت منذ البداية ان اتبع هذه الحوافز ضمن حدود قدراتي والى الحد الذي استطيع ان اتفق معها" [5]
ينبغي الان ان نبين كيف تصور غادمير الفهم في فلسفته التأويلية لكي نبرز مدى حضور هيدغر في هذا التصور، لكن قبل الحديث عن تصور غادمير للفهم سنعرص تصور استاذه الذي ينظر الى الفهم باعتباره تصور قدرة المرء على ادراك ممكنات وجوده ضمن السياق العام الحياتي الذي وجد فيه، فالفهم ليس شيئا نمتلكه بل هو شيء نكونه، وهو شكل من اشكال الوجود في العالم، او عنصر مكون من عناصر الوجود في العالم، فهو الاساس لكل تفسير، وهو متأصل ومصاحب لوجود المرء وقائم في كل فعل من أفعال التاويل. [6]
هذه الافكار حول الفهم عند هيدغر نجدها تحضر عن غادمير في كتابه "الحقيقة والمنهج"، فمع ظهور هذا الكتاب نجد ان النظرية التأويلية دخلت مرحلة جديدة وهامة، ونجد افكار هيدغر التأويلية الثورية قد وجدت لها في كتاب غادمير تعبيرا منظما ومكتملا، وخرجت الى النور متضمناتها فيما يتعلق بالتصور التاريخي والاستطيقي. [7]
هكذا، فان الفهم عند غادامير ليس عملية ذاتية للانسان بإزاء الموضوع، بل هو اسلوب وجود الانسان نفسه، والهيرمينوطيقا ليست فرعا مساعدا للدراسات الانسانية بل هي نشاط فلسفي يحاول تفسير الفهم على انه عملية انطلوجية في الانسان"الهيرمينوطيقا الفلسفية" [8]، والفهم عنده كذلك هو دائما حدث لغوي جدلي تاريخي سواء كان ذلك في مجال العلوم او في الانسانيات او في الطهي، والهيرمينوطيقا وفينومينولوجيا الفهم ايضا، فالفهم ليس فعلا ذاتيا للإنسانية كما يفترض التصور التقليدي، بل هو الطريقة الاساسية لوجود الدازين(الانسية) في العالم، او اسلوب في الوجود، فالفهم شيئا يكونه الانسان ولا يفعله، ومفاتيحه تتمثل في المشاركة والانفتاح؛ ليست المعرفة بل الخبرة، ليست الميثودولوجيا(المنهج) بل الديالكتيك(الجدل)، وليست غاية الهيرمينوطبقا عند غادمير ان تقدم قواعد للفهم "الصائب موضوعيا" بل ان تتصور الفهم نفسه بطريقة محيطة شاملة قدر المستطاع[9]. اذن يمكن القول بان الفهم هو تطبيقه، اي ربط معنى النص بمجريات الحاضر، وهذا هو الامر الذي قام به كل من هيدغر وغادمير. [10]
هكذا يمكن القول بأن غادامير اخذ بتعريف هيدغر للفهم وطوره، فأبرز الجانب اللغوي والانطلوجي للفهم[11]، لأن إكتشاف هيدغر للأهمية الانطلوجية للفهم هي نقطة التحول الرئيسية في النظرية الهيرمينوطيقية، ويمكن فهم عمل غادمير باعتباره محاولة لإجراء تطبيقات لنقطة البدء الجديدة التي يقدمها هيدغر، فكل تفسير-حتى الفسير العلمي- يكون محكوما بموقف المفسر المتعين، فلا يوجد إستبعاد للفروض المسبقة، اي تفسيرات"لا متحيزة"، لانه بينما يمكن للمفسر ان يحرر نفسه من هذا الموقف او ذاك، فإنه لا يستطيع ان يحرر نفسه من واقعيته الخاصة، من الشرط الأنطلوجي المتعلق بالإمتلاك الدائم والمسبق لموقف زمني متناه، باعتباره الافق الذي فيه تحوز الموجودات التي يفهمها المفسر معناها الأولي بالنسبة له. [12]
على إثر هيدغر أقدم غادمير على محاولة إثبات شمولية الفهم، كي يدلل على الأهمية الاصلية للتأويل كما يفهمه  لكل أنواع التجارب الإنسانية، وقد حاول في الوقت نفسه، كما حاول هيدغر قبله، التشكيك في النموذج الموضوعي للتفكير العلمي، وفيما يرتبط به من هدف معرفي ومنهج توجيهي، وأن يجعله على أساس تأويل ما أمرا نسبيا، مدعيا في ذلك ضرورة تحاوز ما في التأويل الكلاسيكي من تطلع يميزه نحو الموضوعية، ومفهومه هذا يجسد بطريقة خاصة ومؤثرة النقيض الطبيعي للتراث الفلسفي الالماني الذي يعود بصفة خاصة إلى هيغل، وهذا المذهب النقيض هو كما سبق صيغة جديدة للمثالية الألمانية، فهو مثالية متنكرة خلف قناع تأويلي. [13]
هذه الفلسفة التأويلية التي طورها غادمير، والتي تتبع بعض موضوعات الفكر الهيدغري، تختلف بشكل تام عن التأويلية الكلاسيكية التي تفهم على أنها "منهج لتفسير النصوص" وحسب، عكس تأويلية غادمير التي تزعم أنها تقدم تصورا شاملا، ومهما للتجربة الإنسانية كلها، وأنها تتجاوز ما في النظرية المعرفية حتى الأن[14]. هكذا، فإن المعنى العالمي للهيرمينوطيقا ما بعد هيدغر هو كونها شاملة لا تنحصر في تفسير النصوص وتأويل المقاصد، ولا تختص بالموضوعية والمنهجية في العلوم، ولكن ترى كيف أن التأويل هو رؤية عامة في العالم وأنه خاصية كل إنسان مفكر في تعامله مع الوقائع او الأشخاص بتجاوز هذا المعنى الإبستمولوجي للهيرمينوطيقا نحو البعد الانطلوجي، ويخص موقع الإنسان في العالم وموقفه من الوجود،هذا الشكل من الهيرمينوطيقا تتجلى بشكل بارز عند هيدغر في مجاوزته للتصور القديم حول تأويل النصوص نحو تصور فينومينولوجي وأنطلوجي يأخذ في الحسبان وجود الكائن في العالم(الدازين). وهي الطريقة الفكرية التي إتبعها غادمير[15]، كما سبقت الإشارة إلى ذلك
يظل غادمير وفيا للمنحنى الانطلوجي الذي رسمه هيدغر والمتمثل خصوصا في مسألة اللغة والتناهي الذاتي الذي تكشف عنه التجربة التاريخية، وهيرمينوطيقا الفهم، وفهم الذات على وجه الخصوص، وهو ما أسماه هيدغر ب"المنعطف الأنطلوجي الحاسم" في تجربة الفهم الذاتي، وهذا ينم عن المشكل الذي طرحته في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين العلوم الإنسانية، كما عالجها وقدمها (من وجهة نظر تاريخية وإبستمولوجية) فيلهام ديلتاي، لكن هيدغر لأنطلوحيا الفهم جعله يرى في هذا المشكل مجرد المعضلات الابستمولوجية والمعيارية التي كانت تتخبط فيها التاريخانية بحرصها على تطبيق نماذج العلوم الدقيقة على دراسة المشكلات الإنسانية والانثروبولوجية والبحث النهوم، على قاعدة أو أساس معال ونهائي للحقيقة الإنسانية(حقيقة العلوم الإنسانية في جملتها)، عوض هذا التصور المطلق لحقيقة تشترط جميع الحقائق التاريخية والإنسانية، يركز هيدغر على فكرة التناهي وبنية الأحكام المسبقة باعتبارها قاعدة إيجابية للفهم[16].ومن ثم فعودة غادمير الى العلوم الإنسانية هي مساءلة نقدية لأسس ومبادئ هذه العلوم بالكشف عن تناهيها الخاص،  واستحالة تشكيل معرفة صحيحة تعتمد مطلقا على صرامة الميثودولوجيا. [17]
يمكن القول من خلال ما سبق بأن الفلسفة التأويلية التي طورها غادمير، والتي تتبع بعض موضوعات الفكر الهيدغري، تختلف بشكل تام عن التأويلية الكلاسيكية التي تفهم على أنها منهج لتفسير النصوص، فتأويلية غادمير تزعم أنها تقدم تصورا شاملا ومهما للتجربة الإنسانية كلها، وأنها تتجاوز ما في النظربة المعرفية حتى الأن، اما نجاح هذا التصور الشامل مع علوم محددة فيعود -جزئيا- إلى سوء فهم ما. [18]
عموما يمكن القول بأن التأويل عند غادمير هو تطوير لما عرضه هيدغر، إذ يتخذ من تحليله مرتكزا وأساسا ونقطة إنطلاق في تحليله للوعي التاريخي، فيرى من المستحيل وجود فهم بلا فروض أو أحكام مسبقة، وهذا يعني التخلي عن تفسير عصر التنوير للعقل، وأن يسترد التراث والسلطلة مكانتهما التي كانتا يحتلانها قبل عصر التنوير، لأن عصر التنوير لا يقبل بأي سلطة سوى سلطة العقل، يقول غادمير "فالتغلب على جميع الأحكام المسبقة، وهو المطلب العام لعصر التنوير، سوف يتبين أنه هو نفسه حكم مسبق، والتخلص من هذا المطلب يمهد الطريق أمام فهم مناسب للتناهي الذي لا يهيمن على إنسانيتنا فقط، بل يهيمن على وعينا التاريخي". [19]
هكذا فإن غادمير يجعل من الأحكام المسبقة شروطا للفهم، وينادي بإستعادة سلطة التراث، لأن التراث عنده ليس شيئا يقف عائقا أمامنا، وإنما هو شيء نوجد فيه، بل إن التراث له أفق يجادل أفق المرء، فالقارئ الذي يجد نفسه أمام نص أو تراث له أفقه وأسئلته ومطالبه وإشكالاته يسأل النص في أفقه وأهدافه ومقاصده. [20]
إن الهيرمينوطيقا تعتمد الجدل كما سبق الذكر، بحيث تقدم جدلا قائما على بنية الوجود كما فصلها هيدغر في كتاباته المتأخرة، وعلى البنية المسبقة كما قدمها هيدغر في كتابه "الوجود والزمان"، وهذا ما نجده عند غادمير حيث يرى بأن هدف الجدل هو هدف فينومينولوحي بشكل واضح، أي ان يجعل الشيء الذي نحن بصدده يفصح عن نفسه ويسفر عن وجهه، فإذا كان "المنهح" ينطوي على ضرب من المساءلة تفتح جانبا واحدا من الشيء، فإن التأويل الجدلي يفتح لنفسه لأسئلة الشيء ويتقبل أن يكون هو المسئول لا السائل...بذلك يمكن للشيء الذي يلاقيه ان يكشف عن نفسة وعن وجوده الخاص[21].يقول غادمير إن ما يجعل ذلك أمرا ممكنا هو "لغوية" الفهم الإنساني (الصبغة اللغوية للفهم) ، و"لغوية" الوجود نفسه في حقيقة الأمر، ومن هنا يظهر لنا بأن هذا التوجه الفكري كان موجودا عند هيدغر إلى حد كبير، أما الشيء الجديد الذي أضافه غادمير فهو التوكيد على الجانب النظري والجدلي والتفتح الكامل لمتضمنات الانطلوجيا الهيدغيرية في مجال الإستطيقا وتأويل النصوص. [22]
يصرح غادمير أنه يتخذ من تحليل هيدغر للبنية المسبقة للفهم وللتاريخية الصميمة للوجود الإنساني مرتكزا وأساسا ونقطة إنطلاق لتحيله الخاص ل"الوعي التاريخي"، ومفاد "البنية المسبقة" pre-structure للفهم عند هيدغر هو أننا حين نضطلع بفهم نص ما او مادة او موقف فنحن لا نفهمه بوعي خال لحظيا نملؤه بالموقف الجاري، بل نفهمه لأننا نضمر توجها مبدئيا يتعلق بالموقف ويهيب به، ونكن في أنفسنا طريقة معينة في الرؤية محددة سلفا وبعض التصورات المسبقة. فما يترتب عن هذا التصور بالنسبة للوعي التاريخي هو انه ليس هناك فهم خالص أو رؤية للتاريخ بدون الإشارة، أو الاحالة إلى الحاضر، بل إن فهم التاريخ ورؤيته لا يتمان أبدا إلا من خلال وعي يقف في الحاضر[23].لكن مفهوم التاريخية يؤكد في الوقت نفسه على أن الماضي يظل يؤثر على الحاضرويفعل فيه، فالماضي عند غادمير ليس كومة من الوقائع يمكن تحويلها إلى موضوع للوعي، وإنما الماضي تيار نتحرك فيه ونشارك لدى كل فعل من افعال الفهم. فالتراث إذن ليس شيئا يقف قبالتنا بل هو شيء نقف فيه ونوجد خلاله؛ وهو في معظمه وسط بلغ من الشفافية حدا يجعله غير مرئي لنا تماما مثلما ان الماء غير مرئي للسمك، وهذا التشبيه ورد في رسالة هيدغر "في النزعة الإنسانية" وإن كان ذلك بصدد "الوجود" لا "التراث". [24]
هيدغر وغادمير كليهما يتفقان على أن اللغة هي مستودع التراث ووسطه الحامل، فالتراث يختبئ في اللغة، واللغة "وسط" شأنها شأن الماء، ويتفقان كذلك على أن اللغة والتاريخ والوجود ليست عناصر مترابطة فحسب بل ملتحمة ومضمرة وملتئمة معا، بحيث إن "لغوية" الوجود هي في الوقت نفسه "أنطلوجية"، أي أنوجاده وتأتية، والوسط الذي يحمل تاريخيته. [25]
حاصل القول، إن كل من هيدغر وغادمير يدرسان التاريخ والتراث من أجل نقد العصر الراهن، وتبقى مسألة الإختلاف في النهاية في درجة التأكيد، فبينما يشير هيدغر إلى أن نرى في الموقف التاريخي الحاضر إشارات ل"بداية أخرى" ونهاية لعهد قديم باعتباره تراثا مستنفذا، يميل غادمير الى أن يأخذ هذا الموقف باعتباره لحظة يصبح فيها الماضي مرئيا في ضوء مختلف[26].ويقول غادمير إن الاسلوب الذي طوره هيدغر لإدراك سؤال الوجود، والاسلوب الذي صنعه لفهم البنية الوجودية الأصلية للدازين إستطاعا فقط أن يجعلا الأخر يظهر نفسه في وجوده الخاص كعامل محدود، إلا أن تقوية الأخر ضد نفسي هو الذي سيسمح لي في النهاية ولأول مرة بالإنفتاح على الإمكانية الحقيقية للفهم، وذلك بتجاوز الامكانيات الذاتية في العمليات الحوارية الهيرمينوطيقية[27].
عموما يمكن أن نقول بأن نقد "الوعي التاريخي" عند كل من غادمير وهيدغر موجها بالدرجة الأولى الى "المدرسة التاريخية" في ألمانيا، تلك التي كان يمثلها خلال القرن التاسع عشر درويسن وفون رانكه، والتي تمثل إمتداد للهيرمينوطيقا الرومانسية(التي يمثلها شلايرماخر ودلتاي بشكل خاص)، والتي كانت تمثل أشد المحاولات صرامة لبلوغ تاريخ "موضوعي" لا يدع فيه عالم التاريخ مشاعره الشخصية تتسرب إلى التاريخ بل يدخل بكليته في العالم التاريخي الذي يود ان يصنفه.[28]
ينضاف إلى ما سبق ذكره ذلك التأثير الذي تركه هيدغر على غادمير والذي يظهر في كتاب هذا الاخير المعنون ب"الحقيقة والمنهج". حيث يقول غادمير في مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب، أن التحليل الزماني للوجود الإنساني عند هيدغر قد برهن بوضوح على أن الفهم ليس موقفا للذات الإنسانية بين غيره من المواقف العديدة، وإنما الفهم هو طريقة وجود الدازين نفسه، وإنما بهذا المعنى قد إستخدمت مصطلح هيرمينوطيقية هنا في كتاب "الحقيقة والمنهج"[29]. والدازبن هنا يشير الى الحركة الأساسية للوجود الإنساني، والتي تتألف من تناهية وتاريخيته، وتستغرق بالتالي كل خبرته بالعالم[...]إن حركة الفهم شاملة وعالمية.[30]
لكي نفهم النتائج المترتبة عن هيرمينوطيقا غادمير بالنسبة لتصور "المنهج" يلزمنا ان نتعمق الجذور الهيدغيرية في فكر غادمير، والطابع الديالكتيكي للهيرمينوطيقا كما يتصورها غادامير. إنه في ذلك شأنه شأن هيدغر يوجه سهام نقده للإستسلام الحديث للتفكير التقني technological thinking المتجذر في مذهب الذات  subjectism، وهو المذهب الذي يتخذ من الوعي الانساني واليقين العقلي القائم عليه النقطة المركزية النهائية للمعرفة الإنسانية. [31]
هكذا، يستبعد غادمير المنهج عن الحقيقة، فالأمر يتعلق بتصوره للحقيقة حيث يرى بأنها لا تطلب منهجيا بل جدليا، وهذه الطريقة الجدلية هي في الحقيقة نقيض المنهج، وهي وسيلة للتغلب على نزوع المنهج إلى أن يشكل العقل ويصبه في قالبه ويحدد مسبقا طريقة الشخص في رؤية الأشياء، فالمنهج إن شئنا الدقة غير قادر على كشف حقيقة جديدة؛ المنهج لا بفعل أكثر من التصريح بصنف الحقيقة المضمر سلفا في داخله، ففي المنهج تمسك الذات الباحثة بالزمام وتقوم بالقيادة والتحكم والتلاعب، اما الجدل فيترك الموضوع الذي يقابلة يلقي أسئلته الخاصة التي تتعين الإجابة عنها، لم يعد الموقف التأويلي هو موقف سائل وموضوع يتوجب فيه على السائل ان يشيد مناهج تكفل له ان يوقع الموضوع في قبضة فهمه، بل اصبح السائل على العكس يجد نفسه الطرف الذي يجري إستجوابه؛ يستجوبه الموضوع ويلقي عليه الأسئلة، ويصبح نموذج الذات/موضوع مجرد تضليل، فالذات الأن قد غدت هي الموضوع الذي يقوم عليه التفكير الحديث التقني التلاعبي. [32]
ينبغي ان نبين ايضا أن تأثر غادمير بهيدغر إمتد حتى إلى قراء هوسرل الذي كان له تأثير هو أيضا على هيدغر، فغادمير قرأ هوسرل من خلال هيدغر، فمفهوم "الفهم" الذي تقوم عليه النظرية النقدية لغادمير يرتد بأصوله إلى إعادة التوجيه الأنطلوجي الخاص بهيدغر والمتأسس بدوره على هوسرل للعالم المعيش، حيث ان إدراك هيدغر لزمانية الوجود هو الذي مكنه من هجر الذاتية المتعالية، ومن ثم إعتبار الفهم هو الشكل الأصيل لإدراك الوجود هناك، الذي هو الوجود في العالم[33]. ويتبع غادمير هيدغر في رفضه لمحاولة هوسرل ايجاد فينومينولوجية منهجية على أساس أفعال أو أدوات الوعي. [34]
هكذا فإذا كان وصف الفهم الانساني عند غادمير في كتابه "الحقيقة والمنهج" يتبع التحليل الوجودي للدازين (Dasein) عند هيدغر فإننا نجد أيضا في "الحقيقة والمنهج" تأثيرا مكافئا لهيدغر على فكرة الحقيقة التي يربطها غادمير برؤيته عن الفهم، وهكذا فإن غادمير يتابع هيدغر متجاوزا الفينومينولوجيا المتعالية الى التحليل الوجودي للدازين من خلال التحول في أسلوب تفكيره نحو طبيعة حدوث الحقيقة "كحادثة"[35]. ومن ثم ففكرة الحقيقة بوصفها حادثة تعني "الإستحضار"، وهو الاسلوب الذي تأتي به الموجودات بعامة للحضور. [36]
إذا أردنا ان نبين التأثير المباشر لهيدغر على غادمير فسنجد اول شيء تعلمه هذا الأخير من هيدغر هو العودة الى اليونان، وفي هذا المعنى يذكر غادامير ان "ما تعلمناه من هيدغر كان -فوق كل شيء-هو وحدة الميتافيزيقا المتأصلة بواسطة اليونان ومصداقيتهم المستمرة تحت الشروط المتغيرة للفكر الحديث[37]. وعن أهمية الفلسفة اليونانية بالنسبة لغادمير،يذكر أنه قد أصبح على ألفة بها من خلال نيكولاي هارتمان، الذي وجد في ذلك الوقت في ارسطو نوعا من المساعدة الفينومينولوجية في قطيعة مع الكانطية الجديدة المستلهمة بواسطة ماكس شيلر، إلا ان مدخله الحقيقي لفهم ارسطو وأهميته لفهمنا للعالم-كما ورد على لسانة-يدين به للقائه مع هيدغر في صيف 1923م. [38]
هكذا فإن غادمير كان شديد الإرتباط بصرامة الفكر الأرسطي، فقد علم غادمير على حد تعبيره انه حتى عندما يعرف هوسرل شعار "الإدراك الخالص"، فإن الفكر اليوناني والأرسطي على الخصوص يعمل بطريقة لا واعية على اعاقة التحول الفينومينولوجي الهوسرلي "الى الاشياء في ذاتها"، فالميراث اليوناني يعبر عن نفسه في تحول الفلسفة الغربية من الجوهر الى الموضوع داخل اللغة نفسها[39]. بناء على ذلك تعلم غادمير من هيدغر التحرر من اسلوب التفكير الغربي التقليدي الذي ساد (الميتافيزيقا)، وفي هذا الصدد ينبغي ان نلاحظ على نحو ما يرى د.سعيد توفيق ان تجاوز الفكر الغربي لم يكن يعني بالنسبة لغادمير تجاوز الميتافيزيقا الغربية فحسب، وإنما يعني ايضا -مثلما كان يعني بالنسبة لهيدغر- تجاوز الوعي التاريخي وكذلك الوعي الجمالي الذي تشكل من خلاله التصور التقليدي لعلم الجمال الذي ساد الفكر الغربي منذ نشأة هذا العلم في العصر الحديث على يد الكسندر باومغارتن. [40]
وتحت تاثير هيدغر ايضا اسس غادمير نظريته في المعرفة الانسانية في التفكير الفينومينولوجي للنشاط الاساسي للحياة، فتحليل هيدغر لتناهي الوجود الانساني "دازين" فتح امكانية الاعتراف المباشر والواضح بالوعي الهيرمينوطيقي، وإدراك انه لا يوجد موقف متميز لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا يوجد مواقف متناقضة خالصة لا يمكن تعلم شيء من خلالها، ولا اوضاع خالصة لا تحتاج فيها لأن نكون واعين نقديا بالمحددات الممكنة. [41]
ان ما يؤشر ايضا على ان هيدغر ترك تأثيرا عميقا على تلميذه غادمير هو تلك الاقوال التي تحضر على لسان هذا الأخير، بحيث يقول بأن هيدغر طلب منه كتابة مقدمة لمقالته "أصل العمل الفني"، ويضيف بأنه كان يشعر بالإرتياح عندما ادخل هيدغر العمل الفني في تفكيره خلال الثلاثينيات،حيث يقول "اعتبرت ذلك تشجيعا وتعزيزا لجهودي الخاصة، وهكذا فإن علاقتي بهذه المقدمة الصغيرة لمقالة اصل العمل الفني [...] لم تكن علاقة تكليف لكتابتها، فأنا تعرفت في فكر هيدغر على بعض التساؤلات التي عبرت عنها في كتابي "الحقيقة والمنهج". [42]
نستنتج ايضا تأثر غادمير بأستاذه من خلال قوله الذي مفاده"في سنة 1921م، وفي واحدة من الحلقات الدراسية لموريس بتزييغر ألقى طالب كلمة جد غريبة ومؤثرة مستخدما تعبيرات لافتة، وفيما بعد سألت ييغ عما كان يتحدث عنه ذلك الطالب، اجاب عرضا: اوه ذلك الطالب انه متهيدغر،والحل الم أكن انا ايضا متهيدغر بعد ذلك بمدة وجيزة" [43]
عموما، ان علاقة غادمير بهيدغر علاقة معقدة ومتشعبة تصل في تعقيدها الى حد الإشكال، من هذه الناحية يرى نيكولاس دافي ان فكرة غادمير عن الحديث واللغة هي نفسها الموجودة في التصور التام الوضوح في "الوجود والزمان"، وانه بهذه المثابة يعد مجرد امتداد للأفكار الهيدغيرية اكثر من كونه محققا لإنقطاع اصيل معها[44]، لكن رغم ذلك يبقى غادمير ذو قيمة فكرية كبيرة، لأنه شرح وأضاف وعلق على ما أنتجه استاذه، وتجاوزه في بعض الاحيان، وطور فلسفته التأويلية، وعارضه في مجموعة من التصورات.

     ختاما،يستفاد مما سبق بأن هيدغر كان له اثر كبير على الفلسفة التأويلية لدى غادمير، بحيث يعتبر الاول هو واضع الاسس والثاني مستكملا للبناء الهيرمينوطيقي، فأفكار غادمير جاءت كتعديل وتطوير لأفكار استاذه، فمعضم القضايا التي عالجها بما فيها الوجود والفن واللغة كانت حاضرة عند هيدغر، إلا انه قام بإضافات نوعية دون ان يتخلص من الاسس والمبادئ الهيدغيرية للتفكير، وهذا ما يبرز بأن الطريقة الفلسفية لغادمير لو لم يلتقي بهيدغر لما كانت على الحال التي هي عليه، فقد كان لهذا الاخير تأثير كبير عليه، مما جعله يكتب مجموعة من الكتب بهذا الصدد من بينها التلمذة الفلسفية و طرق هيدغر  


[1] خالد طحطح، التاريخ الفكري لهانز غادامير من خلال سيرته، موقع مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الانسانية، 25 يونيو 2015 .
[2] ماهر عبد المحسن، غادامير مؤولا هايدغر، مجلة الاستغراب، العدد 5، 1  نونبر 2016، ص 341-342.
[3] نفسه، ص 342 .
[4] نفسه، ص 342.
[5] هانز جورج غادامير، طرق هايدغر، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط1، بنغازي-ليبيا، يناير 2007، ص 21.
[6] عادل مصطفى، فهم الفهم، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007، ص222.
[7]  نفسه، ص 276.
[8] نفسه، ص 277-276.
[9] نفسه، ص 248.
[10] نفسه، ص 316.
[11] نفسه، ص 249.
[12] ماهر عبد المحسن، مرجع مذكور، ص346.
[13] هانس ألبرت، هيدغر والتحول التأويلي، ترجمة السلام حيذر، مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الانسانية، 18 يونيو  2016،ص16.
[14]  نفسه، ص3 .
[15] محمد شوقي الزين، الإيالة والعيالة نحو تأويلية  في اعتبار سؤال السياسة، مؤمنون بلا حدود، ص11.
[16] هانس جورج غادامير، فلسفة التأويل ، ترجمة محمد شوقي الزين، منشور من طرف منشورات الاختلاف بالجزائر والمركز الثقافي العربي بالمغرب ولبنان والدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ص14-13 .
[17] نفسه، ص14 .
[18] هانس ألبرت، مرجع مذكور، ص17.
[19] احمد بوعود، الهيرمينوطيقا وعبور الفجوة التاريخية في فهم النص القرآني، مؤمنون بلا حدود، قسم الدراسات الدينية ،31 اكتوبر2014، ص 15 .
.15  نفسه، ص [20]
[21] عادل مصطفى، مرجع مذكور، ص281 .
[22]  نفسه، ص 282.
[23] نفسه، ص 298-297.
[24] نفسه، ص 298.
[25] نفسه، ص 299-298.
[26] ماهر عبد المحسن، مرجع مذكور، ص 243.
[27] نفسه، ص 243.
[28] عادل مصطفى، مرجع مذكور، ص299 .
[29] نفسه، ص 278-277.
[30] نفسه، ص 278.
[31]  نفسه، ص 279.
[32] نفسه، ص 280-279 .
[33] ماهر عبد المحسن، مرجع مذكور، ص 342.
[34] نفسه، ص 342.
[35] نفسه، ص 247.
[36] نفسه، ص 248-247.
[37] نفسه، ص 248.
[38] نفسه، ص 345.
[39] نفسه، ص 345.
[40] نفسه، ص 346.
[41] نفسه، ص 346.
[42] هانس جورج غادامير، فلسفة التأويل، مرجع مذكور، ص 22.
[43] هانس جورج غادامير، التلمذة الفلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتب الجديدة المتحدة، ط1، يناير 2013، ص 106.
[44] ماهر عبد المحسن، مرجع مذكور، ص 343.

يوسف المرابط

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/