المقال الكامل للتلميذة أميرة النموشي المحصلة على معدل 20 في ماختبار مادة الفلسفة
الموضوع الأول : قيل " بقدر ما يُنشىء الإنسان الرموز تتوسّع دائرة ما هو إنساني ."
حلل هذا القول وناقشه مبرزا منزلة الرمز في تحقق ما هو إنساني.
لما كان فضاء الرمز فضاء إنسانيًا متأكدا وباعتبار علاقته الجدلية مع الواقع الذاهبة في تأثر وتأثير، نستمد بعثنا الفلسفي، لا بحث عن تاريخية إخبارية لجدليّة الرمز والإنساني أو سؤالا عمّا يربطهما وإنما هو تفكيك لجدليّة ورابطة الإنسان بالعالم وبالرمز، رابطة وكأننا نخوضها في محاولة محاورة هذه العلاقة حتى لا نستبين مكانة الرمز من الانسان فقط وإنما أيضا نخوض في مكانة الإنسان في حد ذاته من ذاته ومن غيريّة في نحو يشرّع لنا أن نبحث عن منزلة الرمز فيها باستجلاء دلالته ومكانته. فبأي معنى تؤخذ الرموز وأي علاقة تجمع إنشاءها ودائرة الإنساني ؟ وإذا ما أعتبرناها توسيعا لها، كان لا بد أن نسأل أيضا عن كيفية تحقق هذا الإمكان؟ ثم إذا ما تحدثنا من " إمكان " لهذه العلاقة ألا يفترض ذلك وجود إمكانات أخرى؟ أتتوقف علاقة الرمز بالإنساني في توسيعه؟
نحن بمساءلتنا لفضاء الرموز إنّما تخوض في البحث في ذواتنا ، عن هويتنا التي يبدو أنّنا بعد إدراك كنهها العلائقي صرنا نبحث عن سبل التحوّل الفعلي من حركة في الموجود إلى حركة للوجود، عن سبل التحقق الفعلي لقضاء الإنساني.
لذلك فالفلسفة التي نخوض بها بحثنا إنما هي فلسفة الوظائفيّة لا فلسفة الماهية وإنسان الجوهر بل الإنسان الذي يتوجه إلى كثرة لا يقصيها وإنما ينفتح عليها في سبيل بناء إنسانيته ، في سبيل خلق مجاله الذي لا يكون لغير الإنسان ، لأنه هو الفاعل الذي " يُنشىء ". ويبدو أن الفعل بكونه منسوبا إلى ضمير مفرد قد جاء في صيغة معرفة لن يكون إحالة إلى فرد أو جماعة خاصة وإنما ينحو منحى كليا عاما ولعل ذلك ما يدعمه مصطلح "ما هو انساني".
فالـ "ما" أداة الإشارة إلى عالم الأشياء، إنها إذن إحالة إلى العالم المادي ولكنها قد نسبت إلى" هو انساني" في تعريف، يضيف إليها صفة ما يجعلنا نفترض لا فقط تحوير هذا العالم المادي، وإنما الـ "هو" هي حتما إحالة إلى الإنسان في ذاته لأنه ضمير يعمل دلالة حية. إننا نفترض إذن جدليّة ثلاثية لن تحيا فيها "ما" دون "هو" إلا عن طريق فعل "ينشىء الرموز"، ثم إنها رموز في صيغة جمع ريما هي التي افترضت مصطلح "تتوسع" اذ كلاهما إحالة إلى التكثر والتنوع.
علنا إذن لن نبني أسس افتراضنا -الذي نشر فيه لا تلازما كميا فقط لفعل إنشاء الرموز وتوسع دائرة ما هو إنساني وإنّما كيفيا أيضا اذا ما أخذنا بالاعتبار أداة ما في "بقدر ما ينشئ" تعبر عن شرط تلازمي لكلا الفعلين- دون التوقف على دلالة ينشئ. إذ هو فعل يفيد الخلق ويترجم مجهودا عقليا وقصديّا يخلق فيه الإنسان العالم اللامرئي بصورة ذهنيّة وانما في انشائه إنّما هو يتمثله بعقله فيحوله إلى مرئي في عمليّة يعتمد فيها الرموز، بما هي أدوات اذن تمكننا من رؤية العالم وتصوره حتى نخلق وجودا غير موجود مسبقا وحتى نبدع "الإنساني" كعالم ينسب إلينا ويحمل وعينا وتمثلاننا، إنه ذاك الفضاء الخاص جدا الذي قد نتفق بعض الشيء في عمليّة إبداعه مع التصور الكانطي الذي بجزم فيه سير الانسان من الما قبلي إلى ما بعدي، فهذا الإنساني الذي نخلفه إنما هو نتاج تمثلاننا وافتراضاتنا لأن العالم في حد ذاته أي على نحوه الطبيعي ليس سوى كلا مركبا، جمعا من العناصر العامة في فوضاها ولا تجانسها، تكتسب من أصل الرموز كانتظام عقلي معناها وصورتها ودلالتها حتى تصبح على حدّ عبارة لوموانيه " أبنية.. وليست كنوزا . "
ففعل انشاء الرموز هو بالتالي تجسيد ممارساتي لكائن الكوناتوس المدفوع برغبة الوعي ورغبة الجسد من طبيعي محدود بجهله ومن مخاوفه وهواجسه مما هو مخارج له ومن غيريّة أيقن أنّه في ضلالة باستبعادها، فلحظة الترميز هي لحظة تكتسب فيها الأشياء معنى وتصبح حاملة لفكر ولوجود ووظيفة وذلك بعبارة فروم أول ولوج للإنسان في باب الثقافة بما هي تجاوز للعبثي والطبيعي والانغلاقي المباشر، "والحق أنّ حضارتنا قد نشأت منذ اللحظة التي بدأ فيها الانسان مراقبة الطبيعة مراقبة فعالة" هي مراقبة خلقت النظام السياسي الذي تجتمع فيه كثرة على تنوّعها في نحو آمن فتجاوزت سلطة الغلبة الطبيعة، السلطة التي تنتهك فيها الحقوق بصورة اعتباطية وتغزو فيها حرب الأنانيّة والفوضى.
ووضع نظام إنما هو تحقيق براكسيولوجي للإنساني بامتياز قد تحمّله الرمز الديني في السلطة التقليدية - لو عدنا إلى دراسة ماكس فيبر في تطور السلطة- رمز هو "نظام للعمل" قد ترجم تأويلا إنسانيا لسبل اجتماع الأنا بالآخر وفق قاعدة أخلاقيّة كليّة تمكنت من أن تكون سلطة معيارية معنويّة توجه الفعل الإنساني والعلاقات الاجتماعيّة في غياب الدولة الحديثة وآلياتها في القوة والدع. هو ردع باعتبار أنّه يفرض حالة من التوافق والخضوع له دون لجوئه إلى آليات قوّة يؤكد علاقته الجدليّة مع الانسان ذاته، فلئن ابتدعه بتمثله فإنّه يظل يخضع إليه ويتأثر به سيم وأننا لا نميل إلى الخضوع إلى القواعد الأخلاقية بصورة طبيعيّة. أليس الخضوع من باب الضرورة لا الإرادة على حدّ عبارة روسو؟ وهو ما يحتمل أنّ الرمز الديني ليبعث فينا ذاك "الضمير الديني" الذي لا يردعنا من حيث علاقتنا بالآخر فقط وانما هو من باب الردع الذاتي الذي يوجه الذات على نحو " الفضيلة " على نحو قد يبعث فيها أمل السعادة ويثبت رغبتها في الحياة. فالطبيعة لم تخصنا بامتيازات أو قدرات تجعلنا نجابه الأزمات أو الصدمات التي قد تحملنا إلى نحو من العبثية والعدميّة المتشائمة فلا تقودنا إلاً إلى حالة من "الشلل التام". ولعل ذلك ما جعل فرويد يؤكد على أن الدين يتلازم وإنقاذ حياة الإنسان من العبثية حتي يضيف إلى طبيعته الهشة حالة من السكينة والتوازن النفسي التي تواجه الاضطرابات أو "حالات الهوس الأكتئابي" كما أشار إليه ريتشارد مايار، وبالتالي انه يضيف إلى دائرة العالم المادي والإنساني عالما روحيّا معنويّا هو سمتنا الأثروبولوجيّة التي نتفرد بها اذ "لم توجد حضارة ويبدو انه لن توجد حضارة" لم تخلق منظومتها الروحية والأخلاقية دون الرمز الديني، او ليست الأخلاق كما تحدث فيها دوركهايم منظومة اجتماعيّة تتحد برؤية المجموعة المحدثة لها للعالم وتأويلها إليه الذي يرتبط بشعائرها وعقائدها التي "يتشارك فيها مجموعة محدّدة من البشر."؟ أن هذه المنظومة المعنوية هي التي تؤكد على طابعنا العلائقي وتفتحنا على تنويع تجاربنا تنويعا لا يتم دون الانفتاح على الغير.
انفتاح يتحوّل فيه العدو إلى صديق ، والمستبعد إلى أنا كائنة فينا لأننا نبني انسانيتنا، نحقق هويتنا التي تندمج فيها " صورة الأخرين.. بنواة شخصيتي" عن طريق اللغة. فنحن بوساطة الرمز اللغوي نحقق ذواتنا ونخوض في فعل قصدي، في ذاك المعيش الهوسورلي الذي يحدّ رابطنا مع العالم ومع الآخر وينشئ فضاء آخر، هو فضاء الديناميكا والفعل لا فضاء الجمود والثبات الطبيعي المحدود. فاللغة بالاستناد إلى غوسدورف "لا تأتي من واحد بل من كثيرين" ما يعني في مستوى أول أنها تلغي وهم الأنا المنغلة وتجعل منها لا عقليّة ولا ماديّة أي من حيث الوعي والوجود المادي ثم انها بدرجة ثانية تؤكد على تفاعل كثرة فلا يمكن أن تنشئ إلا في خضمّ ممارسة اجتماعيّة. لذلك هي نشاط جماعي متحرك نخلق به ذاك "الموقع الذي نحتله من العالم" على حدّ عبارة تايلور الموقع الذي يعكس هويتها وانيتنا في ديناميتها. إننا باللغة نعطي معنى لمواطنتنا بما هي مشاركة جماعية نتبادل فيها الآراء والأفكار في سبيل ان نحقق "الاختيار". واختيارنا هو اختيار للإنسان كما أشار إليه سارتر، اختيار نرتقي فيه عن حالة طبيعيّة لا ماهيّة لها حتى نخلق لها دلالة وكيانا حسب تأولنا. أليست الإرادة العامة تجمع لإرادات فردية لا تتم بصورة مباشرة وانما باعتراف وتبادل أساسه اللغة؟ حتى نتكلم فيها "فكرا" لو استعرنا لفض بينيفست.
أن الرمز اللغوي بذلك ارتقاء بشكل السلطة من سلطة تقليديّة عمادها الرمز الديني إلى سلطة دولة تعتمد الاتفاق والتحاور اللغوي سبيلا ما يؤكد أنه بقدر ما ينوّع الانسان رموزه تتوسع دائرة ما هو انسانيّ، تصديقا لاعتبار كاسيرير في انه كلما "تزداد الشبكة الرمزية" تنوّعا كلما تزداد "الفاعلية الإنسانيّة" حتي نكون كائنا "رامزا" بامتياز، هو بإنشائه لرموزه يقلص حتما من مادية العالم المادي، بل ويفتحه على التنوع والثراء لأنه بانفتاحه عليه انما تجاوز تلك الأنا المتعالية وانتقل بها من مرحلة الترفع على الأشياء إلى مرحلة الإقامة فيها". إقامة لا يتعامل فيها مع العالم كموضوع وشيء ، فنحن حسب فروم لا نملك حقيقة الواقع ولا نخوض تجربة الامتلاك وانما تجربة وجود تراعي العالم في تركيبته السيستيميّة فتعقد معها علاقة معرفة بالمشروع لا معرفة بالموضوع لا تخوضها إلا عبر أنساق صورية نفترض فيها نظريات علمية "وفق نماذج". فلا يتعلق الأمر إذن بموجود وبمادة حيّة كائنة وانما بتمثل ذهني يكون، يجعل من الطبيعة على حد قول غالياي "كتابا مفتوحا" انه مفتوح على الإمكان الذي يخوضه الانسان بصورنة الواقع وتحويل العيني إلى ذهني مجرد حتى نتمكن لا من فهمه فقط وائماً من توسيع دائرته باعتبار أننا لا ننمذج فقط لكي نعرف معرفة معزولة عن الفعل، ألم يذكرنا بياجيس إلى أنّنا "لا نعرف موضوعا إلى بالفعل فيه وتحويله"؟ لذلك فضمن هذا المسار التيولوجي تنخرط بوساطة نماذجنا في مسار كوني "يعرف لكي يتوقع" ويتوقع لكي يوظف فهمه وتأويله للعالم في عمليات استعماليّة وتحكميّة قد زادت قدرة الإنسان في انشاء الرموز وتنويعها حتى يوسع معها فضاءه الخاص. وربما ذلك ما تستبطنه مقولة الموضوع التي جعلت من فعل الانشاء فعلا مضارعا إحالة إلى استمراريته وتواصله و "القدر" انما هو حامل لدلالة التزايد العددي سيم وانّ مصطلح "تتوسع" لكأئه يقدح في أذهاننا زيادة في الفعل واتساعا على ما هو عليه. زيادة قد وظفت توسع ما هو انساني على مستوى معرفي وعملي عن طريق النماذج العلميّة |والرمز اللغوي حتى تخرج من دائرة هذه "الرموز التقليدية "، حتى تضفي على الرمز المصوّر تأثيرات تجعله "بألف كلمة" فيتجاوز حدود اللغة والمسافات ويحدث ثورة رمزيّة عالمية انما وسعت من النطاق الثقافي بفتحه على التبادل، أوليست الصور باحتوائها لتجلي "الروح" في المحسوس تحمل خصوصيات الشعوب وحضاراتها، لذلك فتحها عن طريق توظيفها التكنولوجي في مجال السينيماتوغرافيا والصور المشهديّة الرقميّة، هو فتح لفضاء إرساء كوني ثقافي انساني نحقق فيه نداء باسكال في كون الإنسانيّة انسانا واحدا يتعلّم ويتذكر باستمرار.
اننا بتنويع الرموز ننفتح على فضاء الاختلاف الذي لا يؤخذ على معنى الخلاف وانما الاعتراف المتبادل في هوية انسانية مرنة قابلة للاستزادة من تجارب الأخر والاحتكاك بكثرة على وحدة التفاعل والصيرورة وعلى وحدة خط "المسار الخلاق" لا وحدة المنتوجات كما شدّد عليه كاسيرير. أننا بإنشائنا المتكثر للرموز لننخرط بالتالي في تاريخائيّة تطورية خلقت دياليكتيها، لا على النحو الهيقلي الذي ينتهي فيه الروح إلى الاكتمال وائما على نحو يتجه إلى التوسع لأنه قد انخرط في النسبي منذ تجاوز توجهنا العلمي لباطولوجيا الفكر الاختزالي الاطلاقي السائد في زمن البراديغم الميكانيكي وانخراطه في مبدأ "التذاوت". تذاوت لا يحمل في تذاوت بشري فقط وانما منطق التداخل الذي يحكم الانسان والانسان والانسان والعالم والانسان والرموز والرموز في بعضها وذاك هو سبيل تنوّعها تعزيزا لما اصطلح عليه بايكون "بالقوّة الإنسانيّة" فبتشابك الرمز اللغوي والرمز المصوّر على قاعدة التكميم العقلي، يُنشئ الانسان برمجيات جديدة قد تخدم نجاعة عمليّة تزيد في فضاء العمل من فاعلية منتجات قد تغيّر وجه التاريخ على نحو إبداعي يقربنا من الحلم الديكارتي في أن يكون الإنسان سيد العالم.
أليس انخراط الصورة في المجال الاقتصادي قد دعم من جهة مردوديّة العمل بفتحه على التبادل العالمي ، وخلق كونيا سياسيا ثريا نشهد فيه اليوم نشأة اتحادات سياسية واقتصاديّة، لا على قاعدة المصلحة الاقتصاديّة فقط بل في ظل منطق التنافسية الذي فتحه مجال الصور الدعائية اليوم. اننا استنادا على ذلك نجزم فضل التكثر الرمزي لأنه قد تجاوز فصل تجليّات ابعاد الانسان عن بعضها فتشابك في خضمه السياسي والاقتصادي والعلمي والانطولوجي خلفا لإيتيقا إنسانية جديدة تخطت أخلاق العقل وأخلاق الواجب حتى توسع من دائرة الفعل الأخلاقي على نحو يستجيب لنداء نيتشه في أن نكون بالعقل الأكبر في أن نتصالح مع أجسادنا ورغباتنا وننفتح على الحياة. فتزايد الفاعلية الرمزية والعلمية قد فتحنا على امكان السعادة التي تجمع أكبر قدر من اللذات عن طريق توفير الوسائل المادية اللازمة لضمان "حالة من الرفاهية العامة" لا من حيث الكم فقط وانما أيضا من حيث الاستمرارية ونطاق الانتشار الذي لا يتوسع ولا يحقق انتشاره إلا عن طريق الرمز. وهو ما يؤكد العلاقة التي أقامها الموضوع بين قدر انشاء الرموز وتوسع ما هو انساني. لذلك ما نثمنه فيه هو تفطنه إلى هذا التلازم الفاعلي الذي يربط الرموز بإنسانيتنا ومنزلتها في تحققها ودورها في منح العالم بدوره صفة إنسانية تخرج به عن نسق الجمود والطبيعيّة. دورها كوسيط يربط الانسان به حتى يُجلي تركيبته أي يكون كيانا مركبا ويجسد هذا التركيب في "دائرة ما هو انساني"، على أن افتراض كهذا بالحفر في ما يخفيه يتضح أنه يثق في قدرة الإنسان على ابتداع رموز تمكنه بصورة كلية من ملامسة الحقيقة وبلوغ انسانيته بشكل مطلق. ألا يفترض ذلك ثقة مطلقة في العقل البشري بما هو الأساس المنظم للرموز ان يبلغ نتائج مطلقة؟ ترانا بذلك نغرق في ميتافيزيقا أخرى تقر بمقدور العقل ؟ ولكن أننسى نقد مور ان الفينومونولوجي الذي أكد فيه أنه قد حكم علينا بالفكر المليء بالثقوب"؟ ألا يقدح فينا مصطلح توسع دائرة الإنساني أن الإنساني الذي نبلغه بالرمز يبقى محدود سيم وأنه يتوسع ولا ينفتح ما يعني انه يبقى محاصرا دائما بالعجز، يمناطق نائية عنه، لا يبلغها الرمز؟
ربما ذلك ما نعيبه على مقولة الموضوع باعتبار انها تغافلت عن هذا الحد ورسمت صورة قادرة مطلقة لفعل الانشاء الإنساني. فاللغة تظل ظاهرة اجتماعيّة "يتلقاها الطفل جاهزة من المجتمع" ما يعني انها غير ذاتية فهي تعكس سلطة المجتمع علينا ولعلها لذلك هي "لا تقول ما نريد قوله" ولا تنفذ إلى دقائق أحاسيسنا بل تجعل منه"حالات جامدة " فعالم اللغة عالم من الأنساق الثابتة وعالم الذات صيرورة متحركة، هي بالتالي تفرض عليها سجنا يحدّها، بل انها قد تحول "تجربة الأنا" إلى حالة ميتة في حين انها تجربة حيّة تعيش فيها الذات. وذلك ما أكده فروم باعتماده تجربة الأرق كحالة نفسية لا يعبر عنها المريض إلا بعبارات من قبيل "أعاني من الأرق" أو "لدي نقص في النوم" وكأن اللغة بذاك تفصل بين الذات وتجربتها وتحدّها في ضرب من التشييئ، تشييئ قد يؤكد عليه الرمز المصوّر. فلئن كان "ذاكرة الشعوب" فانه قد انحرف عن فعل التذكر كما نظر إليه فرويد، كتجربة اعادة احياء الماضي وخلقه. فالصورة لا تخلق سوى "ذكرى مغترية" اذ تجعل من التذكر فعلا ميكانيكيا انعكاسيًا ( reflexe ) يقدح بشكل لا يتدخل فيه الوعي، وبذلك تفصل الذات عن تجربتها الماضية وتحد من نطاق حيويّة وجودها. ولكننا اذا ما اعتبرنا أنّ الرمز أداة في يد الانسان فان ذلك يعني أن انشاءه يتم وفق استراتيجيا غائيّة أي انه مرتبط بهدف غرضي تكون فيه المسؤولية بصورة أدق مسؤولية انسانية سيم وان الرمز جملة الانساق الغير حاملة لوظيفة في ذاتها وانما تتوجه بحسب تنظيم عقل انساني، عقل قد يجعل من "التوسع" طموحه ولا يكون بذلك الإنساني غايته. توسع قد يأخذ معنى الاخضاع الامبريالي المشبع لرغبات انانيّة تسلطيّة، تعمل على نشرها الدولة التكنوقراطيّة على حد "عبارة موران" عن طريق اللغة، تلك التي توجه السلوك الاجتماعي وتكيف المواقف عبر "سلطة الخطاب" عبر ما تحتويه من مغالطة واستدلال فاسد وحجاج زائف لا يسعى الى خلق مجتمع تشاركي وانّما يخفي وراء شعارات الأغلبيّة وخطابات الوحدة "هيمنة الفكر الواحد" على الفكر الكوني فيفرض ضربا من دكتاتوريّة تتلبس بشعارات الديمقراطية في ضرب من "الاستبداد الناعم" بعبارة ديتوكفيل الذي يسعى إلى خلق ذوات في خدمة الجسم الاجتماعي. خدمة تكبدتها الصورة كآليّة لضمانها تروج لنمط واحد من الانتاج وهو النمط الاستهلاكي ونمط واحد من البضاعة ألا وهو الانسان. فكيف لكائن الكوناتوس أن يكون وجسده، ذاك "الجسد الشاشة" لم يعد يحمل معاني الانسانية وانما ايحاءات الترويج الموظفة في صور اشهارية أكد فيها ستراوس جمعها "للعنف والجنس" جمعا لا معقولا لأنه يكرس لتبعيّة صماء، أو لذلك "الغباء المبرمج" الذي يبرمج العامل بدوره في منظومة اقتصادية تحركها قوانين الريح والقيمة الزائدة فلا يصير سوى بضاعة يُصادرها أصحاب الأموال لأنها حاملة لقيمة استعمالية ألا وهو الجهد البشري وقيمة مضافة تحقق الريح، المخفي في خطابات النجاعة الحداثويّة التي يروجها العلماء في منظومة معاصرة أصبحت تأكسم وتصؤرن لفائدة مزيد من الصلاحية المنطقية والتطبيقية دون الالتفات إلى مشروعية نتائج النظريات العلمية من جهة، التي قتلت كل انساني لأنها تلبي رغبات هي الأخرى أنانيّة، ولكنها من الجهة الأخرى ارست لتقابل ثقافي قد عبّر عنه ريكور بالمغامرة الرهيبة، لأن منهج العلم المعاصر قد تحتم أن تكون النماذج من الناحية التطبيقية باهضة الثمن وهو ما جعل "البلدان المشعة" تحتكر بالعلم فتوظفه لتزيد من نفوذها ولتكرس نموذجها الهوياتي حتى نجد انفسنا ايزاء "رغبة راغبة" تسعى الى ابتلاع وجود الآخر على نحو أشمل لكي تنفرد بصفة "السيد"، لكي تفرض قاعدتها الأخلاقيّة المعمّمة لليوم. نها قاعدة السعادة المكممة المحددة بقدر أكبر من امتلاك اللذات، قد كسرت تصوّر ماركس لها في انها منظومة متحركة تتعرض للنفي الطبقي باستمرار لأننا اليوم قد بلغنا مرحله نهائيّة من حيث تطور البنى الاقتصادية، اننا ببلوغنا مجتمع "ما بعد الحداثة" وما بعد الرمز الواحد دخلنا أعتاب "نهاية التاريخ" كما اصطلح عليه فرانسيس فوكميا النهاية المادية بامتياز التي قتلت بتعدّد الرموز الرموز ذاتها، فهي في تعدّدها تظل تخضع لوحدة المنطق العلمي والتكنولوجي النفعي ولذلك حكمت على دائرة الرمزيّة بمزيد من الانغلاق. فذاك الرمز، الرمز الفني الاغريقي الذي اعتمده هيغل حتى يشدد على تاريخيّة الرمز الفني اصبح اليوم دليلا على كوننا قد تحولنا نحو كائن لا تاريخي سيم وان باقي الرموز الروحية والخيالية كالدين والأسطورة تلاشت وتلاشت معها حضاراتها الشرقية القديمة التي اكد على فنائها سبنغلر باعتبار تحولها إلى "شجرة عملاقة.. نخرها الزمن"، تجسد انتماء تاريخيا ولكنها غير فاعلة.
يبدو أن واقع التعدد الرمزي في "حضارة القلق" قد ضيّق دائرة الإنساني وعزز جهل الانسان بذاته وبالعالم اذ حصر الرمز الفني في حملات التسويق وانحرف به عن كل ذوقية جماليّة وفرض باللغة نموذجا هوياتيا يحبسنا في منطق الكل ويحكم علينا بالنمطيّة حتى يتحول بمشروعنا السارتري إلى مشروع كوني زائف يتخذ من سيميولوجيا "السلام الكوني" والوحدة شعارات انتشار تلقى رواجا بسبب الأزمة الشاملة وموجة البؤس واليأس التي مست الانسان المعاصر فجعلته يلهث وراء بصيص أمل يبقى على هدفيته في الحياة. لكأن الخضوع إلى واقع الرمز انما هو ضرورة اقتضاها الفرار من اغتراب كلي اشد عمقا.
ترانا بذلك نحمّل المسؤولية إلى الفلسفة النقدية باعتبار هي التي فتحتنا على واقع التعدد والتكثر وفتحت المجال بدورها للعلم كي يشاركها في اهتمامها بالإنسان حتى استبد بهذه المهمة؟ ترانا بذلك نشرع لانغلاقنا على ذواتنا مجدّدا والانغلاق على رموزنا الخاصة حفظا لها من التلاشي؟ ولكن ماذا عن مقولة فيشي في حاجة "الانسان إلى أن يكون اكثر مما هو عليه"؟ اننا في حاجة مؤكدة اذن إلى نقد يفتح للإنسان أبواب الإنساني الحق، نقد ينحو منحى جيولوجيّا" ما ان يسمع بالتفاضليات.. او الخير حتى يستحضر استراتيجيات الهيمنة"، إلى مطرقة نيتشوية ما إن تسمع بالثبات حتى تحدث فيه "رجة" وحركة والى نقد ينحو منحى أركيولوجيّا يغوص في تاريخ الحاضر والسلطة حتى يواصل سؤال كانط : "ما الذي في الحاضر يشكل معنى للتساؤل الفلسفي"؟ مساءلة حول هوية هذا الحاضر وفك شفرته واستبانة واقع اغتراب الرمز فيه. وبحثنا باعتبار انه ينحى منحى نقديّا تحتم عليه مواجهة اشكال التوجهات الفردية والأحاديّة وتجاوز "مرض الحلول الجاهزة" على حد قول موران حتى نشرع لفضاء إيتيقي، تأليفي كوني لا على منطق أحادي ومنطق هيمنة رمزية وإنما على منطق الاعتراف بحق الاختلاف، كوني تواصلي نبنيه وفق قاعدة انطولوجيّة بنيويّة على أساسها قد وضح موران انا كائن الثلاثية الإنسانيّة كائن الوجود الفيزيولوجي والحضاري والاجتماعي ما يعني اننا كان الاختلاف والتنوع وهو ما يؤكد أن الانحرافات التي قد تخلق العنف وتشرع للحد من قدرة الرمز انّما هي نتيجة رغبة "أنا" في أن تكون أنا كليّة أحاديّة، حتى نؤسس انطلاقا من ذلك لمحاولة ربط بين هذا الكل الانساني "الذي يبدو غير قابل للربط فتجعل منه اقل عنفا وبؤسا". ربطا يتغذى من أخلاقية تواصلية هابرماسية ، لا تكون الا عبر الرمز فلا نجرمه ولا نلغيه وانما نجرّم فكر يحاول أن يخلق نمط وجود بصورة مطلقة "جهلا بما يكون عليه الفضاء الثقافي" . وهو ما يتنافى مع مقولة الوجود في حد ذاتها فنحن نوجد "ولسنا" موجودين " كما ادعى ديكارت، أي انا نخوض برموزنا تجربة التذاوت مع الآخر، التأثر والتأثير، الخلق والتقليد لا التقليد التماثلي وانما الذي يفتح سبيلا للنقد والمراجعة حتى تستمر تاريخيّتنا الرمزية في صيرورة مستمرة نكون فيها كائن التشابه لا كائن التمائل. نتشابه في ابتداعنا اللغة ونختلف بالألسن، في ابتداعنا الدين واختلافنا في الشعار. لذلك تظل تجربتنا الوجودية تجربة الاختلاف المتكثر والنسبي من جهة هذا الاختلاف والمطلق من جهة الاشتراك فيه. تجربة نراهن فيها على الرمز الفني كتجربة تمرد تخوضها الذات. تتمرد على واقع موت الإنساني بما تتيحه من خيال وجمال يبقي على رغبتنا في الحرية ويستحث فينا وعيا يفتحنا على الحياة في أعمق مدلولاتها كما تغنى بها نيتشه حياة الفعل والإرادة والتصالح فالرمز الفني يفتحنا على الحياة "باهتمام ومتعة". ننا نراهن على تجربة تحررية لا تأخذ الحرية كمعطي طبيعي او كمعطي سياسي تبلغه الروح في الدولة وانما تحررا ممارستيا نضمن فيه تفعيل كوني سهاسي انطلاقا من منزلة إنسانية يفعل ديمقراطية مركبة تراعي مبدأ العدالة في خضم النجاعة والمواطنة في صلب السيادة، يتعامل مع العلم كتجربة إنسانية إبداعية تماما كما ابتدأها ارخميدس ودافنشي وباشلار وصولا الي موران.
والذي يمكن أن ننتهي اليه أن الرموز الإنسانيّة تأكيد على تاريخيّة الانسان التواصلية ولذلك تتأكد مهمتنا تجاه مراقبتها وتفعيلها على نحو يضمن تحقق هذا الإنساني ممارستيا.
- التلميذة : أميرة النموشي
- معهد شارع علي البليوان نابل
- العدد : إصلاح جماعي - عشرون من عشرين
- عدد أسندته لجنة شعبة الأداب .
المقال الكامل للتلميذة أميرة النموشي المحصلة على معدل 20 في ماختبار مادة الفلسفة
0 تعليقات