- نموذج لنقد الميتافيزيقا و الحداثة. (الجزء الثاني)
- الأستاذ عصام الخدير / أستاذ فلسفة وفكر إسلامي
_____________________
لقد شكلت بداية القرن العشرين كما
هو معروف وبعد وفاة فريدريك نيتشه سنة 1900 م تحديدا، نقلة نوعية أساسية في أغراض الفلسفة
و أهدافها فكان نقد الميتافيزيقا ونقد الحداثة القادمة بهيمنة منذ القرن السابع عشر
الميلادي هو الأمر المسيطر بقوة..
ولقد برز إلى جانب مارتن هايدغر وعدة
أسماء فلسفية أخرى كحلقة فيينا أو مدرسة فرانكفورت أو غيرها من الأسماء الفلسفية كما
سبقت الإشارة إليها في مقال سابق شكل الجزء الأول لهاته السلسلة.. برز إسم الفيلسوف
الفرنسي المعاصر جاك دريدا Jacques Derrida ، و كما
كان الحال مع الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر فإنه لا يمكن الحديث مع دريدا عن نسق
أو نسقية أو مشروع فلسفي واضح المعالم معه.. باعتباره أحد منظري فلسفة الاختلاف بكل
مفاهيمها الجديدة و المتنوعة والتي حاولت إعادة النظر في مفاهيم كلاسيكية وعريقة كالنسق
و الشمولية.
لقد ساءل جاك دريدا الخطاب الميتافيزيقي
من خلال استراتيجية التفكيك ( Déconstruction)
هذا
الأخير عند دريدا هو نوع من التموقع على كل حال.. لكن ليس تخندقا أو أيديولوجيا ما
بأي حال من الأحوال.. ولكن من الممكن التموقع داخل المعمار الميتافيزيقي لقلبه رأسا
على عقب حسب فيلسوفنا، سيتم أساسا قلب المفاهيم التي استند عليها الخطاب الميتافيزيقي
عبر تاريخه و نقد تمركزاته خاصة المركزية الثقافية العرقية الغربية، فالعقل الغربي
اكتفى بذاته وأصبح يعتقد بأنه المرجع الوحيد في شتى المجالات.
وجه دريدا سهام النقد بدءا إلى مركزية
العقل الغربي logocentrisme.. فالعقل
هنا أصبح بمثابة إله مطلق القوة مسيطر لا يحتاج إلى غيره ويكتفي بأمر الجميع وعليهم
الامتثال لتوجيهاته، و نلمس هنا بعدا تيولوجيا لاهوتيا في هذا النسق الغربي وهو الأمر
الذي وقف عليه دريدا وحاول تفكيك منطلقاته متأثرا كثيرا بكل من نيتشه وهايدغر.
كذلك انتقد دريدا مسألة نقد مركزية
الصوت Phonocentrisme..إذ
منذ اليونان أعطيت المرتبة الأولى و العليا للكلام على حساب الكتابة، واعتبار الكلام
المباشر المعبر الوحيد عن الحقيقة وهو ما ظهر في تقنية الحوار عند سقراط ومحاورات أفلاطون
والإرث الشفهي المنقول عن قدماء اليونان الطبيعيين على شكل أقوال ل مكثفة أو حكم أو
إشارات غامضة كأنها ضرب من النحل أو الديانات السرية ويزعم دريدا أن هذه الإشكالية
ظلت مرافقة لطول تاريخ الميتافيزيقا الغربية فهاهو هايدغر نفسه ينحاز في الأخير إلى
مركزية اللغة اليونانية بل وحتى الألمانية في آخر المطاف كاسمى تعبير عن الفلسفة وهو
موقف عرقي واضح لا يحتاج المزيد من التفسير .
دون أن نغفل طبعا نقده لمركزية القضيب
الذكوري Phallocentrisme.. أي
تمركز حول الذكورية والجنس الذكوري وهيمنة النظرة الأبوية الباطرياركية للعالم وللانسان
داخل الميتافيزيقا الغربية.
في نقد آخر لتاريخ الميتافيزيقا يقول
جاك دريدا : " إذا أخذنا تاريخ الفلسفة و منه تاريخ الميتافيزيقا.. سنجد أن تاريخها
هو تاريخ للحضور".. و ليوضح دريدا فكرته يتخذ مثال الكوجيطو الديكارتي الشهير،
فالانا le Je عند رونيه
ديكارت خارجة عن إطار الشك وبالتالي تأخذ بعدا اطلاقيا، شموليا ،وكونيا.
ويتخذ كذلك مثالا آخر و هو الوعي عند
ادموند هوسرل، فالوعي هنا هو ما يوجد لدى شخص ما في لحظة حاسمة، و معنى هذا الكلام
أن الوعي كواقع يتشكل من حالات حاضرة
présentes .
لذلك فمن الضروري أن ننخرط في نقد(
ميتافيزيقا الحضور) عبر تفكيك الأزواج الثنائية المفاهيمية : ذات/ موضوع، خير/ شر،
سطح/ عمق، اختفاء/ حضور... إلخ أي تجاوز التقابل بين طرفين، وهو هنا يوظف مثال عبارة
الفارماكون Pharmakon الإغريقية
كما وظفها أفلاطون أي اجتماع الداء مع الدواء في آن واحد remède
ou poison ، فالسم داء ولكن يتحول إلى دواء في عملية مزج
وتركيب..( سم الأفاعي القاتل مثلا وعلاقته بالعلاج الكيميائي للسرطانات..)
وفي نظر جاك دريدا يجب أن يتم هذا
النقد التجاوزي عبر التمركز في الداخل بواسطة نقد مزدوج للمعاني المزدوجة. فنحن نعيش
عصر العلامات و الرموز.. بل تضخم تلك العلامات.. وهذه المعاني يمكن أن تكون متناقضة،
وبكشف هذا التناقض سنقوم بعملية التفكيك من داخل النص الميتافيزيقي( تماما كما كانت
تفعل في الأسطورة الإغريقية بينيلوب زوجة أوليس البطل الإغريقي من خلال نسج ثم تفكيك
نسيجها بين ليلة وضحاها..).
لقد أصبح الهامشي هو مرتع اشتغال الفلسفة
اليوم، وقد وضح هذا الأمر دريدا في كتابه Marges
de la Philosophie بحيث سيوجه نقده للنصوص باعتبارها
روح الميتافيزيقا، وخلال قراءته للنصوص الفلسفية الكبرى ركز على ما هو هامشي فقرأ لجورج
بطاي وجون جونيه وارتو ومال ارمي وارتور رامبو وبورو وبودلير وغيرهم..
فالهوامش بالنسبة إليه تأخذ قيمتها
نظرا لأهميتها التي تسمح بالحركية على مستوى الكتابة والقراءة، فالنص الذي ليس به هامش Marge ليس بالنص الحي، وهو أمر يتوخى منه
أنه لا فرق بين المركز و الهامش داخل النص.
هذه العملية التفكيكية هي التي دفعت
دريدا إلى رفض الكتابة ذات الطابع الميتافيزيقي، ومن خلال نقده لثنائية الكلام و الكتابة
يستخدم مفاهيم أخرى كالاثر والكتابة القصية، و خصوصا مفهوم الإختلاف وهنا سنرجع لاحقا
لنصه الشهير Différ(a)nce باستبدال
حرف e بحرف a..!
إن كل نقد الميتافيزيقا بمفاهيمها
المزدوجة لن يتم إلا داخل فكر الإختلاف، وهو يرى أن حتى هايدغر نفسه لم يتجاوز طروحات
الميتافيزيقا وظل أسيرا لها، فميتافيزيقا الحضور ظلت لصيقة بهايدجر.. يقول دريدا بهذا
الصدد : " عندما يعتبر هايدجر أن نسيان الوجود هو نسيان اختلاف الموجود والوجود،
فذلك لأن الوجود لا يظهر إلا انطلاقا من الموجود، أي أنه يشكل ماهية هذا الأخير، فالحاضر
يحضر هنا بدون أن يترك أي أثر، وسيكون الإختلاف بالتالي هو ما يؤسس حضور الحاضر".
ينطلق دريدا من كون الاختلاف الهايدجري لم يتجاوز تخوم الميتافيزيقا و ظل يحوم حولها
، لذلك فإن كلمة اختلاف تظل كلمة ميتافيزيقية في عمقها على الدوام، خصوصا عندما نحاول
تحديد الوجود و الموجود، الحاضر والحضور و الفوارق المحتملة أو المفترضة بينهما ..
إذن أي اختلاف سنتطرق إليه..؟! يقول
دريدا كذلك بخصوص هذا الأمر : " ان الإختلاف أقدم من الوجود ذاته، واختلاف مثل
هذا ليس له إسم. لأن هذه الأخيرة أي الأسماء لم توجد بعد في تلك اللحظة .. أي أن اللغة
لم تتشكل بعد، أو لأنه يجب البحث عنه في لغة أخرى خارجة عن نسقها المنتهي والمكتمل..
الإختلاف إذن ليس كلمة ولا مفهوما، فهو ليس وجودا حاضراً وليس ماهية، وهو لا يبدأ من
تلك المطلقات المعروفة المختلفة عن نظامنا العقلي، مثل البديهيات واليقينيات والمسلمات
و التعاريف.. لأنه ليست هناك بداية مطلقة و لا أصل خالص يمكن للأشياء أن تتحدد من خلاله..
فالنهاية بدورها لا تكف قط عن التناهي فلا يمكن الإمساك بنهايتها
Car la fin finalitaire ne cesse
de finir.. "
وبالتالي لا يمكن أبدا الحديث عن أصل
بدون الحديث عما يأتي وراءه أي السابق عنه واللاحق عليه، و هويتنا الذاتية لا يمكن
أن تتحدد أو يصبح لها معنى أو مدلول إذا لم ترتبط بالآخر والعكس صحيح كذلك.. وهذا الآخر
سواء كان شخوصا ذاتية أم ثقافات مختلفة أو حتى عالم الطبيعة والمادة والحيوان.
يقول دريدا : " إذا كان الأمر
كذلك فيجب علينا أن نمارس عنفا خطيا على كلمة اختلاف تلك، فنحور كلمة Différence لتصبح Différance.." فتصبح المسألة
فعل الاخلاف وليس فقط المغايرة أو التمايز
أو التغاير أو التباين و التفاصل Espacement .. تصبح
اخلافا بمعنى اخلاف الهوية لموعدها مع ذاتها وارتباطها بالآخر باستمرار، أي فعل التأجيل
والارجاع إلى ما بعد.. كنوع من التفادي في التحقق والاغراق في التأجيل Procrastination أو Temporisation.
إن دريدا في الواقع أدمج كل هاته الاعتبارات
فيما سماه بلعبة الاحالات إن كل ما يوجد هو الأثر la
trace.. الأثر الذي تتركه فيه عناصر أخرى ضمن سلسلة أو
نسق، يقوم الفيلسوف الما بعد حداثي أو الما بعد ميتافيزيقي بواسطة إستراتيجيات التفكيك
إلى فضح بديهيات ومسلمات الميتافيزيقا التي تؤثث خطاب الفلسفة تاريخيا سواء بشكل واضح
جلي أو خفي متواري بطريقة قراءة تعد جيئة وذهابا من داخل النص الميتافيزيقي الفلسفي
مبدأ لا ضرورة.
أخيرا وليس آخرا، يطرح السؤال بعمق
وبشكل جدي مرة أخرى حول فلسفة دريدا وكل الذين يعتبرون أنفسهم مابعد حداثيين و منفلتين
من رقابة الميتافيزيقا..
- هل الغموض
الشديد في كتاباتهم ومنهم دريدا نفسه يعد تمردا على الميتافيزيقا أم إغراقا فيها..؟!
- أليست العبارات
والمفاهيم و الاستراتيجيات المستعملة في نقد الميتافيزيقا، ليست سوى وجه آخر للميتافيزيقا
ذاتها بلبوس جديد مغاير ..؟!
- ألم يكن آرثر
شوبنهاور حكيما جدا عندما اعتبر أن الإنسان مهما حاول أو فعل سيظل إلى الأبد حيوانا
ميتافيزيقيا.. ؟!
- أليست عملية
التفكير و التعبير و الفهم بمجرد الدخول فيها والتأمل حولها، تعد الطريق المعبد نحو
الغوص داخل الميتافيزيقا؟!
بيبليوغرافيا :
- L'écriture et la différence. Jacques
Derrida
- De la grammatologie. Jacques
Derrida
- Marges de la philosophie.
Jacques Derrida
- خطابات
الفلسفة. مانويل ماريا كاريلو
- جاك دريدا و التفكيك. أحمد عبد الحليم عط
مع تحيات موقع فيلوكلوب
0 تعليقات