مقدمة:
يعد مفهوم
العلمانية من أكثر المفاهيم الإشكالية تعقيدا وصعوبة وصخبا ويأخذ مكانه بين
المفاهيم الحمراء التي تقتضي الحذر أثناء استخدامه وتوظيفه. وقد أثار هذا المفهوم
جدلا واسعا في عصري التنوير والحداثة في أوروبا وشكل أحد محاور الصراع بين
الاتجاهات السياسية التنويرية من جهة والثقافة البابوية الكنسية من جهة أخرى. وعلى
الرغم من حدة الصراعات التي جرت في الوسط الفكري والسياسي استطاعت أغلب الدول
الغربية أن تنهج نهجا علميا يضمن الفصل ما بين السياسة والدين في مجال الحياة
العامة.
وفي ثقافتنا
العربية الإسلامية اتخذ هذا المفهوم صورة بالغة السلبية، وحمل دلالات تنأى عن
مقاصده الفكرية، وقد بالغ كثير من المفكرين في تقديم
مفهوم العلمانية هذا على أنه مشبع بدلالة إلحادية حتى أصبح مجانسا لمفاهيم الكفر
والإلحاد والزندقة والمفارقة الإيمانية، إذ غالبا ما
يستخدم كأداة للاتهام والتكفير في بعض مناحي ثقافتنا العربية السائدة. ومن
الطبيعي أن يأخذ هذا المفهوم منحاه هذا كنتيجة طبيعة لفهم خاطئ وغير موضوعي
للمفهوم وتحميله بطابع أيديولوجي مبالغ في دلالاته السياسية والفكرية.
وإذا كان مفهوم
العلمانية قد اتخذ له صورة سياسية واضح الدلالة في مسار الحياة الفكرية السياسية،
أو في الممارسة السياسية، فإن هذا المفهوم مازال شديد الغموض عندما يتعلق الأمر
بالمسألة التربوية.
وإذا كان الحقل السياسي هو الحقل المركزي لمفهوم العلمانية فإن الحقل التربوي يشكل أكثر ميادين التطبيقات العلمية لهذا المفهوم بدلالاته المفارقة.
ومما لا شك فيه
أن المجتمعات الغربية استطاعت أن تستحضر هذا المفهوم في الميدان التربوي وأن ترسخ
له تقاليد تربوية واضحة الدلالة والمعاني، وأصبح أمر
علمانية الدولة والمدرسة من منسيات المجتمعات الغربية حيث تتسم الأنظمة التربوية
والسياسية بصيغتها العلمانية الواضحة والراسخة.
ومما لا شك فيه
أن التجربة الفرنسية تشكل مقدمة للفهم العميق والشامل لمسألة العلمانية التربوية
في العالم المعاصر. وفي هذا السياق يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تقديم هذه
التجربة التربوية لا يعني أبدا الترويج لها أو الدعوة إلى تبنيها. فمسألة علمنة
المدرسة مسألة ولدت في أتون التطور الغربي في منصف القرن الثامن عشر وكانت هذه
العلمنة تعبيرا عن ضرورات حيوية للتطور الفكري والسياسي في أوروبا. وبالتالي فإن
فهم هذه التجربة والتبصر في مقتضياتها ضرورة حيوية لفهم الأنظمة التربوية في
أوروبا.
مفهوم العلمانية:
من الاستحالة
بمكان تحديد البداية التي ظهر فيها مفهوم العلمانية للمرة الأولى. ومع ذلك يمكن
الإشارة إلى ولادة هذا المفهوم تحت تأثير متزامن لصيرورة من الاتجاهات الفكرية
المتواترة عبر الزمان والمتقاطعة مع تطور الأوضاع السياسية والاجتماعية للمجتمعات
الغربية الحديثة في القرن التاسع عشر تحديدا. ومما لا شك فيه أن ولادة هذا المفهوم
وتبلور دلالاته جاء كحصاد لفعاليات فكرية واجتماعية وتاريخية عبر الزمن في دورة
التحولات الاجتماعية للمجتمعات الغربية في اتجاه التأصيل المستمر للحياة
الديمقراطية على أسس علمية. فالعلمانية كما يقول كلود نيكوليه Claude
Nicolet ليست كشفا نبويا وهي لا تعبر عن أية
عقيدة دينية ولا تنضوي في أي كتاب مقدس، إنها حالة من حالات التفكير والتأمل
والمناقشة والممارسة. وهذا التصور يضعنا في صورة الصعوبة التي يتضمن عليها مفهوم
العلمانية. وهذه الصعوبة ناجمة بحسب موريس باربيير Maurice BARBIER
عن ثلاثة عوامل أساسية: أولها أن العلمانية لا تقع في منظومة المفاهيم الجوهرية،
وثانيها أن هذا المفهوم يرمز إلى القطيعة بين الدين والدولة، وأخيرا يتميز هذا
المفهوم بديناميته التاريخية.
هذا وتشكل
الثورة الفرنسية في عام 1789 المجال الحيوي لنشأة مفهوم العلمانية، حيث انطلقت هذه
الثورة لتأكيد الطابع الدنيوي للحياة السياسية والفكرية في أوروبا ضد سلطة الكنيسة
والنظام الملكي الإقطاعي في فرنسا. ويعتقد بعض المفكرين أن مفهوم العلمانية
Laïcité
قد شهد ولادته الأولى في العهد الإغريقي القديم. ومع ذلك فإن مفهوم العلمانية كما
نعرفه اليوم وكما يفرض نفسه يشكل فكرة جديدة مختلفة تماما عما كان هو الحال في
الحضارة الإغريقية القديمة أو في غيرها.
يعود أصل كلمة العلمانية
(Laïcité) إلى اللفظة
الإغريقية Laikos حيث سجلت لاحقا حضورها اللاتيني في
الكلمة Laicus، وترمز إلى
السكان الذين لا يملكون المعرفة، وهذه الكلمة كانت تقابل كلمة كليروكس
Klericos وتعني الطبقة العارفة التي تمتلك
الأسرار المقدسة للحياة. وهذا يعني أن أصل كلمة العلمانية laikos
في العصر الوسيط ترمز في الأصل إلى عامة الشعب أو دهماء الأمة بينما
ترمز الكلمة النقيضة لها klericos إلى الطبقة العليا أي الطبقة الكهنوتية
في المجتمع وهي طبقة تحظى بامتيازات المعرفة والسلطة والمال.
وفي العصر
الوسيط، عصر الهيمنة المسيحية في أوروبا، كانت كلمة العلمانية أي Le laïc
ترمز ببساطة إلى هؤلاء الذين تمّ تعميدهم وقبولهم في الطائفة المسيحية بوصفهم
أعضاء مخلصين لجماعاتهم. أما كلمة "كليرك
" Clerc فإنه تدل على الأشخاص الذين يمتلكون
على امتيازات كنسية مقدسة ويشكلون طبقة دينية اجتماعية ذات امتيازات كهنوتية في
المجتمع.
وفي المرحلة
التي بدأ فيها الدين يخسر مواقع الهيمنة والسيطرة بدأت كلمة علماني ( لاييك laïc
) تطلق
على الأشخاص الذي لا يعلنون عن انتماءاتهم الدينية. في عام 1862 ترجم
روير Clémence Royer كتاب دارون في أصل
الأنواع "L’origine des espèces"
حيث تعترف الكنيسة أدبيا بأصل النشأة ولكنها ترفض صيغتها التطورية. ولم
تكن الفلسفة منفردة في الهجوم على الدين ونقده حيث وجدت الفلسفة تعزيزا لهجومها
النقدي في تقدم العلوم والمعارف الإنسانية. ففي عام 1860 ظهرت
الوضعية Le Positivisme على يد أوغست كونت Auguste
Conte حيث قدمت ترجمتها العقلانية للكون
والحياة وأبطلت مفعول الورائيات والغيبيات الميتافيزيائية. وعلى هذا النحو أخذت
المعرفة الإنسانية لا تعترف إلا بما قد تمّ اختباره وبرهنته في بوتقة التجربة
العلمية. وفي هذا السياق يعلن فيري في عام 1875 بأن تاريخ المسيحية يستحق التقدير
ولكنه في الوقت نفسه يؤكد رفضه لكل الأوهام الوسطوية وأن هذه الأوهام لن تنال
حضورها أبدا في المرحلة اللاحقة.
ولكن مفهوم العلمانية
laïcité بدلالاته المعاصرة ولد في العصور
الحديثة، وقد وظف هذا المفهوم ضد سلطة الدين ورجال الكهنوت والإقطاعيين بصورة
واضحة. وكما يقول كلود موس Claude
MOSSE: " ترتبط فكرة العلمانية
بالتصورات الديمقراطية والجمهورية، وهذه الفكرة تتسم بطابع الحداثة وقد وظفت
تاريخيا في مواجهة الإكليروس ورجال الدين في العصور الحديثة". وفي هذا المرحلة،
عملت الثورة الفرنسية على إسقاط سلطة الكنيسة وأعلنت نهاية الإمبراطورية الكنسية
في أوربا برمتها.
ولكن الحضور المميز لهذه العلمانية بدأ يسجل
حضوره إبان القرن الثامن عشر عصر التنوير الأوروبي، حيث دكت المعاقل الأخيرة
للكنيسة وهيمنتها على الحياة الفكرية في أوروبا. وفي هذا الصدد يقول لويس
كابران Louis Caperan: إن الفكرة
العلمانية أخذت صورتها المميزة في الموسوعة الفرنسية للتنوير في القرن الثامن
عشر(موسوعة الفيلسوف الفرنسي ديدرو Diderot )، وبدأت الفكرة العلمانية تتواتر في القاموس
الفلسفي لفولتير Dictionnaire philosophique de Voltaire
وفي العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو le
Contrat social de Rousseau وفي كثير من الأعمال الفكرية التاريخية
في عصر التنوير. وكانت الرسالة العلمانية التي أعلنت في ذلك العصر تنم عن إعلان
تنويري يعلي من شأن التسامح والحرية ويرفض كل أشكال القهر والعبودية الدوغماتية
والإكليروسية، وفي هذه الرسالة التاريخية نجد تأكيدا لوجود الإنسان الحر بعيدا عن
كل أشكال الدوغماتية الدينية والعقائدية السائدة في العصر.
المفهوم السوسيولوجي للعلمانية:
من أجل تقديم
صورة واضحة لمفهوم العلمانية من منظور سوسيولوجي يتوجب علينا تقصي مختلف المعاني
التي تضمنها مفهوم العلمانية منذ ولادته في سياق الأحداث السياسية والاجتماعية وأن
نعمل على تحديد الاتجاهات الأساسية للمفهوم في صيغته الحديثة.
يرى جاك
بور Jacques BUR أن مفهوم العلمانية
Le laïcisme يدل على حياد الدولة الإيجابي إزاء
القوى العقائدية والدينية السائدة، وتتسم هذه الحيادية بأنها تتناسب مع مبدأ
علماني يتسم بطابع إنساني إيجابي فيما يتعلق بالتصورات الوضعية غير الدينية. ولكن
هذا المفهوم المحدود، الذي يقدمه بور للعلمانية بوصفه مفهوما رافضا لكل أشكال
الإكراه الديني المهيمن حتى نهاية القرن التاسع عشر، يفقد كثيرا من دلالته في
بداية القرن العشرين، ولاسيما في المرحلة التي شهدت ولادة القوانين العلمانية وهي
المرحلة التي عرفت بعدائيتها ضد الكنيسة. ولكن وبصورة تدريجية بدأ هذا المناخ
العدائي بين الكنيسة والدولة بدأ يتراجع ليترك مكانه لنوع آخر من العلمانية
بدلالات جديدة.
لقد استند قانون
1905 على فلسفة مهادنة مع الكنيسة حيث تمّ وضع نهاية للصراع القائم بين العلمانية
والكاثوليكية. وعلى هذا الخط الموازي نفسه بدأت الكنيسة تشعر بأنها ليست مستبعدة
من الحياة العامة، وعلى خلاف هذا التصور وجدت نفسها تمتلك هامشا كبيرا من الحرية
يتوقف في حدود النظام العام. ولكن التفاهم الحقيقي بين الدولة والكنيسة لم يتحقق
إلا بعد عام 1945. حيث يلاحظ في هذا السياق أن فترة ما بين الحربين قد أحدثت
تحولات عميقة بين الدولة والكنيسة: حيث أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين الدولة
والفاتيكان، وقد شمل هذا التحول أيضا اتفاقية بين الطرفين لتسمية وظائف القساوسة
ورجال الدين، ومن ثم تعليق القوانين الصادرة باستبعاد الدعاة والمعلمين الإكليروس،
وبالتالي فإن هذه التحولات أدت إلى وضعية جديدة في طبيعة العلاقة بين الدولة
والكنيسة تتصف بالمرونة والحيوية.
فعلى أثر
الصراعات الاجتماعية التي انطلقت في بداية القرن وعلى وقع الآثار الأليمة للحرب العالمية
الأولى اتجه الفرنسيون إلى إهمال الصراعات الدينية مع الكنيسة ونبذها ومن ثم إخراج
هذه المسألة من دائرة الأولويات الفكرية والاجتماعية. وفي هذا السياق التاريخي
لبداية القرن العشرين ظهر مناخ إيجابي انخفضت فيه المشاحنات الدينية والصراعات بين
الروح الكنسية والروح العلمانية، حيث بدأ الناس يشغلون بقضايا وهموم أخرى،
فالجمهورية قد أصبحت راسخة وقوية، وبالتالي فإن الكنيسة المنفصلة عن الدولة بدأت
تعمل على إسقاط العلمانية. وقد اعتمدت الكنيسة في صراعها الجديد على مفهوم علماني
منقطع عن سياقه وهو مفهوم العلماني الحيادية laïcité-neutralité.
المفهوم الحقوقي لمفهوم العلمانية:
يقدم ريفيرو
Jean RIVERO عرضا مميزا لمفهوم العلمانية من وجهة
نظر قانونية إذ يبين أن رجال السياسة يستخدمون مفاهيم مختلفة جدا في سياق
اجتماعاتهم العامة، ولكن مفهوم العلمانية هو الوحيد الذي يجد مكانه المميز في
النصوص التشريعية، وفي الوثائق الرسمية، وفي مجال العلاقات البرلمانية، حيث يتحدد
مفهوم العلمانية بدلالة واحدة تتمثل في حيادية الدولة. وهذا على النقيض من التحليل
السوسيولوجي الذي قدمناه أعلاه والذي يبين لنا ما شهده مفهوم العلمانية من وضعيات
متطورة باتجاه الحياد الموضوعي للدولة. فالمفهوم بصورته القانونية يؤكد حضور هذه
الحيادية على نحو مستمر دون تقطعات سوسيولوجية أو تاريخية. وهذا يتضمن كما يرى
ريفيرو بأن الدولة يجب ألا تؤدي أي دور فيما يتعلق بالعقائد الدينية. ولكن إذا كان
يمتنع على الدولة أن تمارس أي ضغط أو إكراه لتحديد الخيارات العقائدية فإنه يجب
عليها في الوقت نفسه احترام الخيارات الحرة التي تفرض حضورها في نسق الواقع
الاجتماعي والسياسي.
الفصل ما بين الكنيسة والدولة:
إن هيمنة قوة
سياسية معادية للنظام الديني الكهنوتي باسم العقلانية أدت إلى تحولات بنيوية عميقة
وشاملة في بنية الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا. وبالإضافة إلى قوانين
علمانية المدرسة، صدرت مجموعة من القوانين التشريعية التي وضعت حدا لكل أشكال
الهيمنة التي فرضتها الكنيسة على معالم الحياة الاجتماعية والسياسية. وفي هذه
المنظمة من القوانين يشار إلى إلغاء السمات التيولوجية للمقابر، وقانون الخدمة
الإلزامية الذي شمل رجال الدين، وقانون الطلاق بين الزوجين، ومن ثم إلغاء الإجازة
الأسبوعية الرهبانية.
وزيادة على هذه
القوانين المضادة للكهنوت المسيحي، شهدت الساحة مزيدا من الإجراءات المعادية للروح
الكنسية الكهنوتية، إذ تمّ إقصاء رجال الدين وترسيخ مفهوم حرية الزواج الذي أعلن
بقانون عام 1901، ومن ثم منع القساوسة من الرحلة إلى روما بدعوة البابا. وهذه
المرحلة تمثل بداية عصر جديد لهيمنة العقلانية والعلمانية في الحياة السياسية
والاجتماعية الفرنسية وقد توجت هذه المرحلة بقانون 7 يوليو 1904 الذي منع كل أشكال
التعليم الديني والعقائدي في المدارس والمؤسسات التعليمية العامة في فرنسا برمتها.
وقد اعتبر الحبر الأعظم آنذاك أن تنظيم الدين لأداء وظائف عامة يعد تدخلا غير
مقبول للدولة في الشأن الديني. وفي 25 يوليو 1904 حدثت القطيعة السياسية بين فرنسا
والفاتيكان. وهذا يعبر عن واقع أن الدولة لا يمكنها بعد الآن أن تقبل بأي شكل من
إشكال الهيمنة الدينية كما أن المؤسسات الدينية وجدت نفسها في موقف لرافض لهيمنة
الدولة حيث كان الفصل ضرورة لا بد لها بين الدولة والدين. وهنا تجدر الإشارة إلى
المادة الثانية من قانون 9 ديسمبر 1906 حيث تقول: الدولة لا تعترف ولا تزود بالدعم
المادي أو غيره أية عبادة أو نظام ديني. وبهذه العبارة فإن هذا القانون يشكل نهاية
لقرون عديدة للاتحاد القائم بين السلطة الدينية والسلطة الروحية في فرنسا.
الدولة غير معنية بالشأن الديني:
لا تعترف
الجمهورية الفرنسية بأية عقيدة دينية، وهذا لا يعني أن الدولة تنكر أو تتنكر لوجود
الأديان. بل يمثل منهج دولة علمانية حيادية إزاء الأديان والعقائد والمذاهب
الدينية القائمة. وهذه الخطوة تمثل في حدّ ذاتها نهاية لنظرية دين الدولة. ويمكن
القول في هذا السياق مع جاك روبيرت Jacques
ROBERT بأن تنكّر الدولة للمذاهب والأديان
يعني أن الدين لم يعد شأنا عاما وهذه الدلالة أصبحت حاضرة في مختلف التصورات
والممارسات العلمانية للدولة: فالدولة لا تمنح رواتب أو تقدم أي دعم مادي لأي مذهب
ديني أو نحلة عقائدية. وهنا يمكن تحليل هذه الفكرة في اتجاهين:
1-
إلغاء الخدمات العامة المقدمة للكنيسة، حيث تمّ إلغاء الميزانية التي كانت مخصصة
للشأن الديني، ومع ذلك فللكنيسة كامل الحرية في تنظيم ذاتها وتحديد مصادرها
وقوانينها الخاصة.
2-
منع القروض المالية الداعمة للمؤسسات الدينية ومع ذلك فإن هذا القانون قد يجد
ثغرات تتعلق بالدعم المادي للمستشفيات ورياض الأطفال التي تمارس وظائفها تحت رعاية
دينية.
الحريات الدينية.
من الواضح أن
الإجراءات المادية التي اتخذتها الدولة إزاء الدين لا تتعارض مع حرية الممارسة
الدينية وحرية الطقوس الدينية. فالدولة غير معنية بالشأن الديني وهذا لا يتعرض
بالتأكيد مع الحريات الدينية. لقد يقي الدين بطقوسه مجالا حيويا من مجالات
الممارسة العقائدية الخاصة الحرة. فالدين كما تراه الدولة شأن خاص وعلى هذا النحو
فإن الشأن الديني حافظ على قامته وفعاليته بوصفه ممارسة عقائدية منفصلة عن الشأن
العام بمعناه الجمهوري. فالحرية الدينية مصانة بالدستور وبالتالي فإن هذه الحرية
يجب أن تتواءم مع قانون عام 1905 و ينص: إن الجمهورية لا تعترف بأي عقدية دينية
ولكنها مع ذلك تضمن حرية الممارسات العامة وهذا يشمل الحرية الدينية. وهنا يجب أن
نأخذ بعين الاعتبار واجب الدولة ضمان الحريات العامة، وهذا المبدأ بذاته يشكل أحد
أركان العلمانية التي حظيت بانتصاراتها المتلاحقة منذ الثورة الفرنسية، وحققت
مزيدا من النجاحات التي ترسخت في الجمهورية الثالثة.
علمنة التعليم:
هذه الحيادية في المجال المدرسي تجد تجليها في
ممارسة جاك روبيرت Jacques
ROBERT في مستويين: يجب على التعليم أن ألا يكون معاديا للدين، وبالتالي
فإن شروط الحياة المدرسية يجب أن تسمح للتلاميذ الراغبين بأداء واجباتهم الدينية
بالمعنى الثاني.
ومع الأخذ بعين
الاعتبار نزاهة المعلمين وحياد المضامين المدرسية فإن هذه الحيادية يجب ألا تشكل
عائقا أما حرية الاعتقاد والممارسة عند الأطفال والتلاميذ. وفي هذا الصدد يعلن غوستاف
بيسير Gustave PEISER تتمثل هذه الحيادية في أن نعطي للأطفال
والتلاميذ حق الاختيار، وهذا لا يتعارض مع الدين أو الدولة ولاسيما في المراحل
الدراسية الأولى أي في المرحلة الابتدائية. ومن أجل العودة إلى السياق التاريخي
لمفهوم العلمانية فإنه يتوجب علينا الإشارة إلى تأثير حكومة فيشي في الموقف من
العلمانية والصراع بين الدولة والكنيسة. ففي أبريل 1940 كتب الماريشال
بيتان Maréchal Pétain في مجلة " الدو موند " (Deux
mondes) " إن الإصلاح التربوي للتربية
الوطنية يشكل المهمة الأصعب للحكومة ". ومما لا شك فيه بأن حكومة فيشي كانت
تعارض قوانين العلمانية الصادرة عام 1982، ولكن ومهما يكن هذا المستوى في المدرسة
أو الدولة فإن أغلب الإجراءات التي اتخذت في هذه المرحلة كانت ضد العلمانية، ولكن
أغلب هذه الإجراءات التي اتخذتها حكومة فيشي تم إلغاؤها لاحقا مع التحرير باستثناء
القانون الخاص بتعديل أوضاع المعلمين المتخصصين في مجال الدين.
ولقد وجدت
الفكرة العلمانية أصالتها الفكرية في إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان
والمواطنة في 26 أغسطس Déclaration des droits de l’homme et du citoyen du 26 août
1789، وفي الدستور الفرنسي للثورة في 3 سبتمبر Constitution du 3 septembre
1791. حيث نجد في هاتين الوثيقتين مبادئ الحرية والديمقراطية ولاسيما
حرية الاعتقاد والتعبير. لقد تضمن إعلان حقوق الإنسان 1789: أنه لا يجب على الفرد
أن يشعر بالقلق والخوف أبدا لأسباب تتعلق بآرائه حتى بمعتقداته الدينية، وفي هذا
الاتجاه يتحرك دستور 1793 حيث جاء فيه " إن حرية الممارسة والاعتقاد متاحة
للجميع ولا يوجد هناك ما يمكنه أن يمنعها أو يعطلها « le libre exercice des cultes
ne peut être interdit. »، وقد جاء أيضا في دستور الجمهورية
الثالثة
"ليس لأحد أن يمنع، بموجب القوانين، حرية العبادة التي يختارها الفرد ".
وفي المستوى
التربوي يعد المفكر الفرنسي كوندورسيه Condorcet
الأب الروحي للعلمانية التربوية في فرنسا حيث عرف بموقفه الرافض لكل المفاهيم
الكنسية الوسطوية في أوروبا بكاملها. لقد كان لأفكار كوندورسيه تأثير كبير في
تأسيس علمانية المدرسة في فرنسا، وقد برزت الجهود الكبيرة التي بذلها في هذا الشأن
في مشروعه التربوي الشهير الذي قدمه إلى البرلمان الفرنسي في 20 أبريل عام 1792. وقد
تمركز مشروع كوندورسيه حول مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتحرير
الإنسان وجدانيا وروحيا. ويتميز مشروع كوندورسيه بأنه يؤكد على الفصل بين المدرسة
والسياسة أو بين التربية والعقائدية السياسية من جهة وبين المدرسة والعقائد
الدينية من جهة أخرى. كما يؤكد المشروع على تحرير المدرسة من سلطة الدين والسياسة
والأيديولوجيا عقائدية دينية كانت أو أيديولوجية أو سياسية. وعلى هذا النحو عرف
مشروعه التربوي بنزعته العلمانية بكل أبعادها وتجلياتها الفكرية، ولكن العصر
بخصوصياته التاريخية حالت دون اعتماد مشروع كوندورسيه التربوية بصبغته العلمانية.
واستطاع مشروع
كوندورسيه التربوي هذا بأبعاده العلمانية أن يثير إعجاب جول فيري Jules Ferry
ودهشته حيث يقول بعد ثمانين عاما على طروحة كوندورسيه يتصف مشروع كوندورسيه
المغمور بالروعة والعبقرية وهو صورة إبداع علمي في مجال التربية العلمانية
والجمهورية.
وهكذا نجد بأن
آباء العلمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد أولوا المدرسة اهتمامهم
وأعربوا عن نسق من الأفكار التربوية في مستوى علمانية التربية والمؤسسة المدرسية. وفي
هذا الصدد يرى ليون كامبيتا Léon
Gambetta أنه لمن الضرورة بمكان العمل على تطوير
ثقافة عامة علمية متحررة من كل صيغ التفكير الديني وإكراهاته المؤسساتية، لأن
الفكر التربوي بطابعه الأيديولوجي الديني يمثل خطرا على مستقبل فرنسا. وعلى هذا
النحو يتوجب العمل أيضا على استبعاد الإكليروسية الدينية والعمل على إرساء المعاني
العلمانية وترسيخ قيم المواطنة والحرية والعقلانية في مؤسسات التعليم العام والخاص.
وهنا يتوجب العمل على إعداد المعلمين والمفكرين والمربين بروح جديدة وقيم جديدة
قادرة على مجاراة الروح العقلانية والعلمية في ذلك العصر. وعلى هذا الأساس جاءت
جهود فيري السياسية والتربوية للتأكيد على التربية القومية بمعانيها الحداثية حيث
نادى بإنشاء وزارة للثقافة العامة وكان لأفكاره هذه أن تؤثر في مجرى التحولات
والإصلاحات الثقافية والتربوية اللاحقة في أوروبا.
لقد شكلت المدرسة
ساحة للصراع بين قوتين أساسيتين طامحتين إلى الهيمنة هما: الدولة والكنيسة. وفي
دائرة الصراع بين هاتين القوتين انتصرت الدولة وهزمت الكنيسة. وقد ترجمت هذه
الهزيمة بولادة مجموعة من القوانين التربوية والمدرسية ذات الطابع العلماني
والتنويري.
لقد عمل جويل
فيري على تنظيم تصوراته الإصلاحية وتطويرها في مدار الزمن، وذلك من أجل توفير
الفرصة الأفضل لقبولها وتبنيها. وقد سار في فعاليته هذه على هدي الواقعية حيث رفض
التسرع ومبدأ الاستباق بانطباعاته الراديكالية. ووفقا لهذه المنهجية عمل فيري على
إيقاعات واقعية عقلانية لاختيار أهدافه العلمانية والتنويرية. وقد حظيت المدرسة
الابتدائية بأهمية خاصة في دائرة تصورات فيري الإصلاحية حيث أكد في قانون 16 يونيو
عام 1882 على مجانية المدرسة وإلزاميتها، لأن مجانية التعليم وإلزاميته يشكلان
الخط الأساسي لعلمانية المدرسة وإصلاحها. وفي هذا الخصوص يعلن ماريور
J-M Mayeur بأن إلزامية التعليم ومجانيته يشكلان كل لا
ينفصل في منظور العلمانيين والجمهوريين. فمجانية التعليم وإلزاميته يشكلان المنطق
الأساسي لعلمنة التعليم في بلد تتناحر فيه العقائد والتصورات والأيديولوجيات. وفي
هذا الاتجاه صدر القانون رقم 1882 الذي يلغي التعليم الديني في المدرسة العامة، حيث
استبدل المشرعون في هذا القانون تسمية التعليم الأخلاقي الديني بالتعليم الأخلاقي
والمدني. ومع أن هذا القانون يجسد في جوهره قانون علمانية المدرسة في فرنسا إلا
أنه لا يتضمن كلمة تشير إلى العلمانية بحد ذاتها لا في متن النص ولا في عنوانه. وقد
سمي هذا القانون قانون التعليم الابتدائي الإلزامي "Loi sur l’enseignement
primaire obligatoire" حيث لم يجرؤ أحد من المشرعين على
توظيف كلمة العلمانية في هذه المرحلة من تطور التعليم في فرنسا.
علمنة المعلمين :
لقد تجنب فيري الإشارة
إلى مسألة علمنة المعلمين وذلك لأن هذا الأمر قد يثير صدمة ثقافية عند كثير من
المعنيين بالمسألة التربوية في تلك المرحلة. أما فيما يتعلق بالتعليم الابتدائي
فإن مبدأ العلمانية وجد بلورة جديدة له في 30 أكتوبر عام 1986، حيث تم استبدال
المعلمين المتدينين بمعلمين علمانيين في المدارس الابتدائية العامة، وقد تمّ هذا
الأمر وفقا لمخطط زمني بمدى عشر سنوات. وعلى الأثر صدر قانون 10 مايو 1912 لتنظيم
علمانية المدرسة الثانوية وإيجاد المدرسين المتشبعين بالنزعة العلمانية. ولكن هذا
الأمر لم يتحقق في التعليم العالي نظرا لوجود كليات كهنوتية بروتستانتية
وكاثولوكية حيث يصعب العمل على تنقية المدرسين في المستويات الأكاديمية العليا. وبما
أن العلمانية في المدرسة قد وجدت حضورها المكثف فإن هذه العلمانية أخذت تتجه لتأخذ
مداها في مختلف فعاليات الحياة الاجتماعية والسياسية للدولة.
علمنة التعليم العالي :
وفيما يتعلق بالتعليم العالي فإن القوانين
الصادرة واضحة فيما يتعلق بطابعه العلماني حيث جاء في قانون سافاري Loi Savary
في المادة الثالثة "أن التعليم العالي علماني ومستقل عن أي
توجهات سياسية واقتصادية ودينية وأيديولوجية ". ولكن هذه العلمانية في
التعليم العالي لا تسري على علمنة الهيئة التدريسية في الجامعة حيث سمح للمتدينين
الوصول إلى التعليم العالي والحصول على درجة الأستاذية.
لقد فرضت
الحيادية في التعليم العام بالمعنى الدقيق للكلمة وهي واضحة في قانون 1905 في
المادة 30 من هذا القانون حيث نصت هذه المادة على التالي: يمنع على الأطفال الذين
تقع أعمارهم بين السادسة والرابعة عشرة من العمر تلقي تعليما دينيا في داخل
المدارس العامة ويسمح لهم تلقيه خارج المدرسة. وتجد هذه المادة تأكيدها في قانون
31 ديسمبر من عام 1959، حيث تعلن المادة الأولى من هذا القانون بأن الدولة تضمن
للأطفال تعليمهم مع الاحترام الكامل لجميع العقائد والأديان، وهي تعمل بكل
الإمكانيات على أن تضمن للأطفال تعليما عاما متحررا من كل أشكال الثقافة الدينية
والعقائدية. وهكذا فإن رواد العلمانية في مجال التعليم كان عليهم أن يضمنوا خلال
فعالياتهم التربوي نوعا من الحيادية الصارمة فيما يتعلق بالدين والتعليم الديني. وقد
تضمن قانون 28 مارس 1882 نصا يسمح للمدارس العامة بأن تمنح الأطفال يوما واحدا في
الأسبوع غير يوم الأحد يستطيع فيه الآباء تعليم أطفالهم تعليما دينيا. ومهما يكن
أمر هذه القوانين فإنها لم تكن قادرة على اختراق مفاهيم الحرية والعلمانية التي
تأصلت في الحياة التربوية في فرنسا حيث لم يكن في الإمكان أبدا الحصول على تعليم
ديني في داخل المؤسسات التربوية العامة. وفيما يتعلق بمسألة الحياد الديني عند
التلاميذ فإن قانون 15 مايو 1937 يحرم أية دعوات تبشيرية أو ممارسات دينية في داخل
المؤسسات المدرسية. وباختصار فإن الصراعات الأيديولوجية والمذهبيات الدينية يجب
بالضرورة القصوى للقانون أن تحدث بعيدا عن جدران المدرسة حيث يجب أن تبقى المدرسة
حرة وعلمانية وحيادية وبعيدة عن دائرة الصراع العقائدي.
خلاصة:
تقدم لنا
التجربة الفرنسية صورة نموذجية لمسألة العلمنة في التعليم وهي صورة تتيح لنا فرصة
الخروج من التشبعات الأيديولوجية لمفهوم العلمانية ومفهوم علمنة المدرسة في أوروبا
وفي العالم الغربي. وهذه القراءة لمسألة علمنة المدرسة في أوروبا تضع هذا المفهوم
في دائرة الوعي الخاص بهذا المفهوم وتطبيقاته وتأخذنا من دائرة الغموض. وكما أشرنا
في دائرة هذه المقدمة فإن فهم هذه التجربة وتعقلها لا يعني قبولها أو الترويج لها
في ثقافتنا العربية الإسلامية أو الدعوة إليها أو رفضها. ولكن ما يجب علينا أن
ندركه هو أن العلمانية لا تعني رفضا للدين أو زندقة أو إلحادا بل هي تجربة إزاحة
المقدس الأيديولوجي من حقل السياسة والتربية والمجتمع وهي كما وجدناها في التجربة
الفرنسية مفهوم محايد يضع المقدس خارج الممارسة الإنسانية. فمسألة العلمانية
في التربية ما تزال في قضية حديثة جدا وما زال البحث فيها يتسم بالحذر كنتيجة
طبيعية للتحميل الأيديولوجي لهذا المفهوم. وهذه المقالة تشكل دعوة حقيقية للمفكرين
التربويين بوضع هذه المسألة على المحك ومناقشة مختلف جوانبها الفكرية والاجتماعية
في الحقل التربوي.
مصادر المقالة:
1- محمد أركون، العلمنة والدين :الإسلام المسيحية
الغرب (ترجمة هاشم صالح )، بيروت، دار الساقي، 1996.
2- عاصم السوقي، العلمانية ولماذا يكون فيها
حلّ لمشكلات المصريين، مجلة الآداب، العدد 55.
3- سامي سويدان، خطاب النهضة الديني
والعلماني، مجلة الآداب، عدد 55، موقع إليكتروني للمجلة: http://www. adabmag. com/
4- BARRAL
Pierre , Les fondateurs de la IIIème république, Paris, Armand COLIN, 1968.
5- BAUBEROT Jean, Vers un
nouveau pacte laïque ?, Seuil, Paris, 1990, 266 p.
6- BOUSSINESC Jean , La
laïcité française, mémento juridique, Paris, Seuil, 1994, 210 p.
7- BUR Jacques , Laïcité et
problèmes scolaires, Paris, Editions bonne presse, 1959, 285 p.
8- CAPERAN Louis, La laïcité en marche, Paris, Nouvelles
éditions latines, 1961, 328 p.
9- CORNEC Jean, La laïcité,
Paris, Editions Sudel, 1967, 321 p.
مع تحيات موقع فيلوكلوب
0 تعليقات