- نموذج لنقد الميتافيزيقا و الحداثة. (الجزء الأول)
- الأستاذ عصام الخدير / أستاذ
فلسفة وفكر إسلامي
_____________________
لقد بدأت الفترة المعاصرة في تاريخ
الفلسفة مع لحظة مساءلة الانساق الفلسفية الكبرى التقليدية و الكلاسيكية، و بصفة خاصة
النسق الفلسفي الهيغلي باعتباره نسقا فكريا شموليا كليا ومطلقا يعد تتويجا لتاريخ الفلسفة
الغربية برمته، و كان كل من كارل ماركس Karl
Marx و فريدريك نيتشه
Frédéric Niezstche من أوائل من ساءل النسق الفلسفي الغربي
الشمولي بعمق و بعنف كذلك.. فإذا أخذنا فلسفة فيلسوف المطرقة والهدم فريدريك نيتشه
كما يحلو للبعض تسميته.. فإنه كان واضحا في مسعاه ومصرا على نقد وهدم انساق أبطال الميتافيزيقا
كما صرح بذلك، و ليس بأقل من محاولة تفتيت صرح مهيب كالصرح الهيغلي في نوع من التحدي
الذي يروق طموحه ذاك.
لقد حمل نيتشه في أعماقه بعدا ابداعيا
كبيرا وواضحا لكل من تعمق في دراسة فلسفته، كان هذا الجانب الإبداعي يتجلى في محاولته
التخلص من أوهام العقل الميتافيزيقي الشمولي حسب تصوره.. لأن النسق الشمولي في الفلسفة
قد ألغى الاختلافات و التنوع و أحل محلها مبدأ الشمولية وهذا ما تصدى له نيتشه منذ
البداية، و هو الأمر الذي ستسير عليه ارتدادات نيتشه طيلة القرن العشرين مع مارتن هايدغر
وحنا ارندت و جيل دولوز و سيجموند فرويد وميشيل فوكو وغيرهم كثير.. إذ تركز النقد في
الفلسفة المعاصرة حول نقد العقل الاداتي و تبعاته على الإنسان و الطبيعة و المجتمعات
الحديثة سواء في أوربا أو في العالم بأسره..
إن فكر الانساق الشمولية مثل النسق
الديكارتي و بصفة أوضح النسق الهيغلي، أدى إلى حروب عالمية مدمرة وإلى اضرار رهيب بالبيئة
والثقافة و الإنسان طيلة القرن العشرين ولا يزال.. ولعل مدرسة فرانكفورت النقدية بكافة
اجيالها و كافة مفكريها كان لها باع مهم كذلك في توجيه سهام النقد إلى الانساق الشمولية
سواء في التفكير أو السياسة أو الاقتصاد..
لقد انبنت الحداثة على فكرة الإيمان بقدرة العقل البشري اللامحدودة و على فعالية الذات
العاقلة في تطويع الطبيعة والواقع والسيطرة عليهما.. وإجبار الطبيعة على خدمة مصالح
الإنسان، واستغلالها لأقصى مدى كنوع من برهنة العقل البشري لنفسه بتفوقه على الطبيعة
التي طالما تفوقت عليه وسيطرت عليه و جعلته في لحظات تاريخية طويلة يقف أمامها خائفا
حائرا.. بل عابدا لها..!
لقد ركزت الفلسفة المعاصرة في نقدها
للعقل الاداتي التوتاليتاري في جوانبه المتعددة على أبعاد ثلاث :
- نقد نزاعات
العقل المركزية Logocentrisme والذي وظفه
لأول مرة المفكر الألماني لودفيغ كلاغس Ludwig
Klages,
والذي
استعاره منه جاك دريدا Jaques Derrida بدوره.
- كذلك نقد
الهيمنة الذكورية/ الأبوية/ القضيبية
Phallocentrisme كما أشار إلى ذلك سيجموند فرويد Sigmund Freud و تلميذه جاك لاكان Jacques Lacan في العديد من أعمالهما الكثيرة
وهو مفهوم وظيفه ديريدا بدوره.
- ثم النزعات
العرقية الثقافية الأوربية
Culturel égocentrisme.
فكان من مخرجات أنواع النقد تلك، والذي
كان نقدا بلا هوادة، تعدد العقلانيات، و بروز أهمية الحجاج و النقاش و نسبية الأفكار
والحقائق في الفكر الفلسفي المعاصر الجديد.
الأمر الذي سيؤدي بفيلسوف معاصر كبير
أن يسير في نفس المنحى وهو مارتن هايدغر Martin
Heidegger الذي سيسطر هذا الاتجاه لنفسه بدوره.
فالفكر الغربي في اعتقاده منذ الإغريق
القدماء حتى العصور الحديثة بل والمعاصرة ظل حبيس الرؤية المركزية الأوروبية وسياجات
الصروح الميتافيزيقية الكبرى، إن هاته الأخيرة بالتحديد هي التي جعلت الفكر الغربي
نمطيا بل ومحاطا بهالة من المركزية العرقية أضافت عليها هالة من القداسة.. إن أعمال
هايدغر هي تاويلات جديدة للفكر الغربي عموما وعملية نقد عميق لكل ذلك الإرث الفلسفي
العريق، و هو أمر سيسير فيه تاويليا كذلك كل من هانز غادمر و بول ريكور..
إن تأويل هايدغر هو بحث وطرق في اللامفكر
فيه من داخل الفكر الغربي و هنا جاء مفهوم تقويض الميتافيزيقا لدى هايدغر كامتداد لمطرقة
الهدم النيتشوي.
لقد اعتبر مارتن هايدغر أن الإنتاج
الفلسفي بتاريخه الطويل والعريق ( إنتاج فائض
عن الحاجة Excédentaire )
لهذا
تجب محاولة التأويل،.. تأويل ذلك الإرث وإعادة قراءته بصيغ جديدة ومبتكرة.. هناك احجبة
متوارية داخل أفكار ونصوص المفكرين والفلاسفة وجب إخراجها من دائرة التحجب إلى دائرة
الانكشاف، فداخل كل خطاب هناك إرادة قول تكتب خفية ليس مصرح بها في جميع الأحوال، فتصبح
مع الوقت داخلة في اللامفكر فيه و اللاقول Le
non-dit ، و هو أمر أدى إلى نسيان الوجود و عدم الوعي بهذا النسيان.
بهذا سيجعل هايدغر من الميتافيزيقا
محدودة الأفق، و بالتالي هدم الميتافيزيقا
Destruction المحاطة بطبقات جيولوحية فكرية حاجبة متكلسة تجعل معرفة اللامفكر
فيه جد صعبة و قاسية نوعا ما، وهي عملية تتطلب مجهودا مضاعفا ونفسا طويلاً فتبدأ مع
الوقت الرواسب الفكرية العالقة les couches بالانسحاب
حتى يتسنى لنا الوصول إلى المنابع الأصلية للفكر الإنساني، ومن ثم البحث في ماهية الوجود
الحقيقية.
لقد اعتبر هايدغر كنموذج لنقد الحداثة،
أن الفكر الميتافيزيقي بكامل تاريخه العريض و الطويل لم يفهم الاختلاف الانطولوجي الدقيق
الحاصل بين الموجود L'étant و الوجود l'être. لما ظهرت الماهية الانطو-تيولوجية l'antho-theologique انبنت على
أسس و بنيات لعبت دور المؤسس الأوحد للفهم و التفسير مع مرور الوقت مركزة على تيمية
الموجود ومتغافلة بوعي أو بدون وعي عن تيمة أكثر أهمية بالنسبة لهايدغر.. إنها تيمة
الوجود في حد ذاته، إذ أن الميتافيزيقا سكنت (بضم السين و كسر الكاف) منذ ظهورها على
مسرح التاريخ بمحاولتها تفسير الكون و في جوانبها الثيولوجية كان هدفها البحث عن المبادئ
المؤسسة لوجود الكون قد يكون هو الله أو العقل الكوني أو المبدأ الأول أو علة العلل.
بالنسبة لهايدغر الانطو-تيولوجية ظلت
قاصرة عن إدراك ماهيتها الخاصة، حيث تجلى هذا القصور في نسيان الوجود وهو أمر بدأ مع
سقراط الكبير.. و يرى هايدغر أن أفلاطون رغم فصله و حديثه عن عالمين منفصلين متناقضين
عالم مثالي مجرد و عالم حسي واقعي، فإن مرجعيته ظلت
. و
يرى هايدغر أن أفلاطون رغم فصله و حديثه عن عالمين منفصلين متناقضين عالم مثالي مجرد
و عالم حسي واقعي، فإن مرجعيته ظلت هي الموجودات الواقعية الحسية ( الموجود) و بالتالي
فحتى أفلاطون العظيم كان ناسيا بدوره للوجود.. وكذلك كان الأمر بالنسبة لارسطو فهو
لم يخرج عن ميتافيزيقا الحضور أي العلم بالوجود من حيث هو موجود أسبابه وعلله بمعنى
الارتباط بالفعلية و الحضور..
وحسب هايدغر سيجد الموجود قمته و صورته
الأكثر قوة مع رونيه ديكارت، لأن الفيلسوف الفرنسي الكبير تحدث عن الحقيقة بكونها ما
يتمثل للذهن اي للذات، فتصبح الذات المفكرة الواعية هي المرجع الأساسي للوجود ولمعرفته
باعتبار تلك الذات لا تخرج عن كل ما هو موجود فعليا.
وحتى مع فريدريك نيتشه باعتباره آخر
الميتافيزيقيين بتعبير هايدغر و رغم كل ما كاله من ضربات قوية للميتافيزيقا فإن مبدأ
الذاتية ستصل معه إلى أقصى مراحل تكثيفها، و ذلك بتركيزه على اللذات الحسية وإرادة
القوة و الفن والموسيقى كما فهمها جزء كبير من الإغريق والرومان الذين كان نيتشه مفتونا
بهم.. أي ببساطة الاهتمام بالذات و غرائزها في آخر المطاف.
بالنسبة لهايدغر كون الفكر الميتافيزيقي
ظل أسير هذا النسيان فالمطلوب البحث عن خيوط تفكير أصيل
Authentique و
هذا التفكير كان موجودا في الواقع و يجب استلهامه فقط من جديد بالرجوع إلى الفلاسفة
ما قبل سقراط.. المفكرون الطبيعيون الأوائل
présocratiques فهم من يحملون بذور وجراثيم و شحنات
الوجود الأولية و الصافية لمنبع تفكير الوجود الأصلي. إن ثنائية : الانكشاف/ التحجب و التجلي/ الخفاء Alethea.. Physis .. هي العلاقة
بين ما قبل سقراط وما بعده.. إن مراحل الفكر الأولى ومغامرته الأولى في محاولة تلمس
طريق الوجود هي المعول عليها في إعادة الاعتبار للتفكير في الوجود والانصات إليه..
ولكن يبقى سؤال كبير مطروح لحد الساعة
حاول العديدون معالجته :
- هل خرج الفيلسوف الألماني مارتن
هايدغر فعليا عن جبة الميتافيزيقا وأسرها الساحر..؟ بل هل خرج من فكر الحداثة التي
انتقدها بشدة فعليا أم هو بدوره نتاج أصيل لها..؟
-- بيبليوغرافيا --
-عبد السلام
بن عبد العالي الميتافيزيقا العلم الأيديولوجيا
- مانويل كاريلو.
خطابات الحداثة.
- Alain Graf. Les grands philosophes
contemporains.
- J. Habermas. Morale et communication.
Martin Heidegger.Questions 1 et
2.
إقرأ أيض للكاتب عصام الخدير
إقرأ أيض للكاتب عصام الخدير
0 تعليقات