- العلم والفضيلة وأخلاقيات الحوار عند ابن رشد
- بقلم الأستاذ بلال الدويب - أستاذ التعليم الإبتدائي - حاصلة على شهادة الإجازة في الفلسفة
تمهيد:
مما لا شك فيه أن الفيلسوف العربي الكبير
"ابن رشد " عرف من خلال سيرته وحياته العلمية بمميزات خاصة ميزته عن
الفلاسفة المسلمين .
إذ يعتبر من أعظم الفلاسفة في الثقافة العربية
الإسلامية على الإطلاق . وما ميزه عن غيره هو انتهاجه أسلوبا خاصا على مستوى الفكر
والسلوك في التعامل مع مواقف وأراء الآخرين ، وذلك بفعل اعتماده على أخلاقيات
الحوار والإيمان بمبدأ الحق في الاختلاف. وهذا ما سنراه من خلال هذه الدراسة.
أولا :
العلم والفضيلة:
أما داخل هذا المحور فإننا بصدد الحديث عن
جانب مهم ساد تفكير ابن رشد وميزه ، ولزمه أيضا طيلة حياته ومسيرته العلمية، ألا
وهو الجمع بين العلم والفضيلة. وكما نجد فيلسوفنا حث على الفضائل الخلقية في حياة
الإنسان ، وذلك من أجل قيام تواصل مثمر وحوار منتج بين الناس . ومن هنا يجدر بنا
أن نقول : إن الحديث عن هذه الخصال مع ابن رشد ، ما هو إلا مناسبة للتعرف على
سيرته الذاتية ، باعتبار أن " سيرته الذاتية هي مسيرته العلمية نفسها ،إذ لا
يمكن الحديث عن الواحدة الواحدة منهما دون الأخرى أو بمعزل عنها "[1]،
وللإشارة نود أن نقول ونؤكد أيضا على أن هذه الخصال التي
يتميز بها فيلسوفنا تنطوي على " مضمون أخلاقي رفيع"[2]،
تتجلى بأوضح صورة في تعامله مع رأي الخصم والاعتراف بجميل القدماء. وهذه أمور كلها
ذكرها ابن رشد وألح عليها في مواضيع أو في مناسبات كثيرة في جملة من كتبه نذكر من
بينها" ( فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ، وتهافت
التهافت...)"[3]. وكما قلنا في بداية
هذا المحور أن سيرته الذاتية هي مسيرته العلمية ، لذلك لا نجد حرجا في القول إذا
نحن قلنا أنه لا يمكن معرفة هذه الخصال
إلا من خلال الحديث عن سيرته الذاتية.
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد في"
قرطبة سنة 520هـ 1126م، في بيت ورث الفقه كابر عن كابر، ومن المعلوم أن قرطبة في
ذلك العصر كانت من حيث العلم والمعرفة تقترن بعواصم كبرى كبغداد وروما وأثينا ،
حيث كانت من أهم مراكز العلم والحضارة الإسلامية في الأندلس. أما أبوه فهو القاسم
أحمد قاضي قرطبة ، وكان جده أبو الوليد من ألمع فقهاء الأندلس وأكثرهم تضلعا ، وقد
ولي منصب قاضي القضاة في الأندلس وعرفت له مباحث جليلة في الفلسفة وفي الفقه وفي
الشرعيات على وجه العموم"[4]،
حيث كانت أسرته ـ ابن رشد ـ " تتمتع بوجاهة عظيمة في الأندلس وكان لها إشعاع
قوي في جميع المجلات من بينها القضاء والفقه...إلخ "[5].
وهكذا إذن يمكن القول أن ابن رشد نشأ في بيت عرف بالعلم والمعرفة، حيث درس في صغره
العلوم التي كانت سائدة في عصره بطبيعة الحال ، وهي" الفقه والأصول وعل
الكلام ، وهذه العلوم بجملتها تلقها على يد أساتذة كبارـ كانوا يمثلون الصفوة وقادة الفكر في تلك
الفترة ـ و كان من بينهم أبي القاسم بن بشكوال ، وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن
سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز ... و القائمة طويلة. وهؤلاء كانوا من أعظم فقهاء الأندلس
في ذلك العصر .غير أن فيلسوفنا بالرغم من أخذه لهذه العلوم وتشبعه بها ؛ إلا أنه
لم يكتف بها ، لأن عقله كان مطبوعا على طلب الحقيقة وحب التوسع في العلم ، الشيء
الذي دفع به إلى الإقبال برغبة شديدة على
درس الطب والرياضيات والفلسفة " [6]،
وفي هذه الأثناء سمع به عبد المؤمن الموحدي الذي خلف ابن تومرت ، فدعاه إلى مراكش
و"استعان به في بناء المدارس ومعاهد العلم وتنظيمها"[7].
ومن خلال هذه العلاقة بين ابن رشد والخليفة
الموحدي عبد المؤمن نال فيلسوفنا شهرة كبيرة وارتقى إلى مصاف الشخصيات في الأندلس
، وهكذا أصبح صديقا " لجميع علماء عصره ، حيث اتصل بأبناء زهر الذين عرفوا
بالعلم والطب ، ولما جعل السلطان ابن رشد من أطبائه كان الطبيب أبو مروان زهر من
جملتهم فحدث اتصال بين هذا الأخير وابن رشد ، ومن جميل ومحاسن هذا الاتصال أنهما
عملا معا على كتابة كتاب من أهم الكتب في صناعة الطب"[8].
وكما أسلفنا القول أن فيلسوفنا كان على صلة
بالأمير عبد المؤمن الذي استقدمه إلى مراكش معه" من أجل إنشاء المدارس وإنارة
مصباح العلم، وبعد وفاة هذا الأخير انتهى الأمر إلى ابنه الأمير يوسف الذي كان
أكثر الملوك علما في عصره . وكان ابن طفيل من أخص علمائه إذ تبوأ منزلة عظيمة عند هذا
الأمير"[9]، ولحسن الحظ كان ابن
رشد من أخص أصدقاء ابن طفيل فقربه إلى الخليفة وقدمه إليه ، وهذه خلاصة هذا
التقديم :" فبعد أن سأله الأمير عن اسمه واسم أبيه ونسبه ، فاتحه بأن قال له،
ما رأيهم في السماء ـ يعني الفلاسفة أ قديمة هي أم حادثة ؟ فأدرك ابن رشد الحياء
والخوف وأخذ يتعلل وينكر اشتغاله بالفلسفة ، لكن الأمير عندما لاحظ
الحياء والخوف يظهر على ابن رشد التفت إلى ابن طفيل وبدأ في الحديث معه في هذه
المسائل ، فاندهش ابن رشد لما يمكن في هذا الأمير من غزارة معرفية بآراء أرسطو
وأفلاطون وفلاسفة الإسلام ومتكلميه"[10].
ومنذ هذا الحين ازداد ابن رشد رفعة عند الأمير واكتسب مكانة خاصة عنده " لما
لاحظ فيه من حب للدرس والمطالعة والبعد عن مجالس اللهو ، فعينه قاضيا في قرطبة ثم
استدعاه عام 1182م، وعينه طبيبا خاصا له ثم لم يلبث أن عينه قاضيا لقضاة قرطبة
"[11]،
وبالتالي أصبح ابن رشد من أقرب الناس إلى أبي يعقوب ؛ وخلال هذه الفترة تولى
القيام بمهمة كبرى حيث عكف على تلخيص كتب أرسطو، و" قد قام بذلك على نمط لم
يسبق إليه ، فأورث الإنسانية علم أرسطو كاملا بريئا من الشوائب"[12].
وهكذا إذن شكلت علاقة ابن رشد بأبي يعقوب
يوسف مجالا خصبا للبحث والمعرفة بالنسبة لفيلسوفنا، باعتبار أن أبي يعقوب يوسف كان
أميرا متنورا محبا للعلم ومشجعا للأعمال الفكرية . الشيء الذي جعل ابن رشد وفق هذه
الظروف المشجعة ينصرف إلى مشروعه العلمي الكبير الذي لم يكن يسعه لا ليله ولا
نهاره ، لأنه مشروع يشتمل على مجالات عديدة أو بعبارة أخرى ،" يتدخل فيه فتح باب الاجتهاد في الفقه ، وتصحيح
العقيدة ، ورفع الظلم عن الفلسفة وتحريرها من إشكالية علم الكلام ، وشرح كتب أرسطو
وسد ثغراتها بالاجتهاد داخل ا يقتضيه مذهبه ، وصناعة الطب على أساس علم عصره بهدف
الارتقاء بها إلى مستوى العلم والقول في السياسة والإصلاح السياسي"[13]،
ومن منطلق هذه العناية وهذا الانشغال الكبيرين بالعلم نجد عند ابن رشد شهادة تعكس
وتعبر بقوة عن ضيق وقته بسبب انشغاله وتوليه مهام أخرى كالقضاء وغيرها، وهذا الأمر
بطبيعة الحال كان يفرض عليه بشكل دائم الانتقال مع الخليفة بين المغرب والأندلس.
وفي هذا السياق نجده يعبر كما قلنا عن " ضيق وقته وعدم قدرته على الانقطاع
للبحث والتأليف ؛ لذلك يقول: { إنه يشبه رجلا اتصلت النار بمنزله فأخذ يخرج منه
أهم أثاثه شيئا فشيئا}"[14].
الظاهر من خلال هذا القول أن فيلسوفنا كانت له
عناية كبيرة بالعلم ، حتى أنه حكي عنه" أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل
إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر
نحو من عشرة آلاف ورقة"[15].
ومن هنا فإن هذه الجولة التي قمنا بها لم
تكن مجانا، وإنما نبتغي بها ملاحظة نبرز من خلالها أن هذه العناية الخاصة بالعلم
لدى فيلسوفنا هي دليل كافي لنقول أن ابن رشد ينتمي إلى مصاف أولئك الذين جمعوا
"بين مرتبة الاجتهاد في العلوم الشرعية كما في العلوم الفلسفية"[16]
، حيث كانت له بفعل اجتهاداته وكثرة انفتاحه على جميع العلوم القدرة على التحرك في
جميع المجلات " كعالم متعدد التخصصات ، يستحضر الطب في الفقه والفقه في الطب
والقران والحديث في الفلسفة ، والفلسفة في العلم والعلم في كل ذلك وكان هذا الجمع
بين هذه العلوم والتخصصات نابعة من إيمانه وقناعته بفكرة مفادها أن هذا الجمع يشخص
قناعة وطيدة وهي تطابق العقل والوجود ... وهذه المطابقة بين العقل والوجود قد
تشخصت أيضا في سلوكه ، فكان وجوده وبتعبير أدق سيرته مطابقة لعقله يعني لمسيرته
العلمية وخصاله الخلقية"[17].
ويهمنا في هذا السياق أن نعمل بطريقة أو
بأخرى على إبراز هذا التطابق بين العقل والوجود عند فيلسوفنا ، ونحاول أيضا على
هذا المنوال معرفة مدى انعكاس هذا التطابق على سلوكه أي مسيرته العلمية وخصاله
الخلقية ، وهذا الأمر من جانبنا لا يستوفي حقه ، أو بالأحرى لا يمكن لمسه والقبض
عليه ،إلا إذا نحن تتبعنا الشروط التي التزم بها أولا واشترطها أيضا في العالم ؛
سواء كان فقيها أو فيلسوفا . وينطلق ابن رشد في هذا الموضوع من إشكالية كبرى طرحها
في كتابه فصل المقال ، حيث تساءل " هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح
بالشرع أو مأمور به، إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب"[18].
ولا يتجنب ابن رشد في إجابته على هذا السؤال
ليدلي بقوله أن " الفلسفة إذا كانت عبارة عن النظر في الموجودات واعتبارها من
جهة دلالتها على الصانع، وأن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها ، وكلما كانت
المعرفة بالصانع أتم ، فإن هذا يؤدي إلى نتيجة منطقية مفادها أن الشرع قد دعا إلى
اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به[19].
وإذا كان هذا في نظر ابن رشد موقف تبرير ودفاعي
على أن النظر في الفلسفة واجب بالشرع ، فإنه لا يتردد في اللجوء إلى " آيات
قرآنية مستعينا بها في مجال دفاعه عن فكرته ، ومن ذلك قوله تعالى:{ أولم ينظروا
في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء}"[20].
وبما أن مهمتنا هنا ليست هي العمل على إثبات مدى صواب هذه المحاولة من لدن ابن رشد
أو خطئها ، ولكن مهمتنا هنا و ما نصبوا إليه ضمن هذا المحور هي محاولة تقريب
الصورة للأفهام بخصوص العلم والفضيلة عند فيلسوفنا وكيف انعكست هذه الفضيلة ـ
باعتبارها فضيلة أخلاقية ـ على سلوكه، أي كيف وعاها والتزم بها، واشترطها في
العالم أيضا. ولهذا السبب نجد أنفسنا مضطرين إلى القول أن ابن رشد أخذ بعين
الاعتبار الشروط الضرورية والأساسية التي اشترطها في كل من يريد النظر في كتب
القدماء.
وإذا كان " النظر في كتب القدماء وهي
مكمن العلوم العقلية يومئذ ، واجب بالشرع وجوب النظر العقلي، فإن ابن رشد لا يقف
عند هذا الحد ، بل يقول أن هذا الأمر لا يحلوا لأي كان ، إذ لابد للناظر فيها أن
يكون قد جمع أمرين { أحدهما ذكاء الفطرة ، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة
العلمية والخلقية}"[21].
ومن هنا نخلص إلى القول بأن هذه شروط
ضرورية من جانب ابن رشد ، لكل من أراد النظر أو التعامل مع كتب القدماء .
وابن رشد من تلقاء هذه الشروط يحاول أن
يضع محددات أخلاقية من شأنها يتم مراعاة أراء الخصم في إطار معاملة أمينة. ومن تم
كان الشرط الأول" وهو الفطرة الفائقة أحد الشروط الضرورية من الناحية العقلية
المحض ، يعني هذا الشرط هو الاستعداد العقلي من ناحية القدرة على التعامل مع العلم
، وبالتالي فهو شرط ضروري للناظر في كتب
القدماء. وأما العدالة الشرعية فهو مصطلح يعني باللغة المعاصرة الأمانة العلمية ،
فالنظر في كتب القدماء ينبغي عليه أن يقف موقف عدل لا يزيد في أقوالهم ولا ينقص
منها ولا يعاديها بدون حجة أو برهان ولا يشوه ما قاله القدماء ولا يقولهم ما لم
يقولوا سواء كانوا مشاركين لنا في الملة والعقيدة أو مخالفين "[22].
ويواصل ابن رشد كلامه في هذا المجال من
موقع القاضي تارة ، ومن موقع الفقيه تارة أخرى حاملا على عاتقه مهمة توجيه الخطاب
لقارئه بصفة عامة ولمن أراد النظر في كتب القدماء بصفة خاصة. لذلك نجده يلح موجها
الكلام هذه المرة للفقهاء الذين يعتقدون عادة بأن كل من ينظر في كتب القدماء يضل
أو يكفر، ولهذا كتب يقول: " وليس يلزم من أنه غوى غاوي بالنظر فيها وزل زال ،
إما من قبل نقص فطرته وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهوته عليه
، أو أنه لم يجد معلما يرشده إلى فهم ما فيها ، أومن قبل إجماع هذه الأسباب فيه أو
أكثر من واحد منها ، أن نمنعها عن الذي هو
أهل لها للنظر فيها . فإن هذا النوع من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات ، وليس يجب فيما
كان نافعا بطباعه وذاته أن يترك لمكان
بسبب مضرة موجودة فيه بالعرض فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد
له"[23] .
. وبناء على هذه المعطيات وانطلاقا من هذه
الشواهد، يتضح أن فيلسوفنا يقر ويؤكد على أن النظر في علوم القدماء واجب بالشرع ،
مع توفر الشروط الضرورية التي ـ أتينا على ذكرها قبل قليل ـ والتي تؤهله لهذا
العمل . ولا يتجنب ابن رشد ـ من هذا المنظور ـ أن يلفت نظره إلى الجانب الشرعي .
وإذا شئنا التعبير عن هذا الأمر بعبارات أوضح وأسهل أمكن القول ، أن فيلسوفنا لم
يجعل هذه الشروط حكرا على العلماء الذين يريدون النظر في كتب القدماء ، بل اعتبرها
" بالأولى والأحرى واجبة في مجال الفقه ، يعني في من ينظر في كتب الشريعة ،
أعني الفقهاء ، لأن صناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العلمية"[24].
والحق أن ابن رشد كان عالما ملما بمجالات
عدة بما في ذلك الشريعة والفلسفة ، إذ يظهر هذا الأمر بشكل جلي في مواقفه
الاجتهادية سواء في مجال الشريعة أ و مجال الفلسفة. من خلا ل جمعه لمرتبة الاجتهاد
في كلا المجالين ، فقد خلص إلى نتيجة أساسية مفادها أن "الحقيقة دوما معرضة
للنسبية في العلوم الشرعية كما في العلوم العقلية"[25]،
مما يفتح ،ـ حسب ما يدعي ابن رشد ـ إمكانية للتأويل ؛ وفي هذا السياق كتب يقول:
" ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك
الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي ، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا
يرتاب بها مؤمن ، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه وقصد
هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول"[26].
ومن هنا فإن ابن رشد ـ كما قلنا سلفا ـ لا تغيب عن ذهنه فكرة النسبية فيما يتعلق
بالاجتهاد سواء في " النظريات أو في الفقهيات ، ومن أجل ذلك يقول: يشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل
العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين"[27].
لو نحن أردنا أن نتحدث عن حصيلة عامة يمكن
الخروج بها من وقائع ما تقدمنا به بخصوص الجانب المتعلق بمسألة العلم
والفضيلة عند ابن رشد ، لوجدنا أنفسنا مضطرين إلى القول : أن فيلسوفنا فعلا كان
بحق الرجل الذي جمع بين العلم والفضيلة،لأنه ـ كما سلف وقلناـ كانت له معرفة عميقة بجميع المجالات. أضف إلى
ذلك أنه كان يتحلى بالشروط التي حث عليها واشترطها في العالم كان أو فقيها ، وهذا
فضل لا ينكره أحد في حقه . وهذه صفات وخصال شهد له بها كل المؤرخين الذين"
ترجموا لحياته ، حيث شهدوا له بالفضل والاستقامة والنزاهة وخدمة الصالح العام
"[28].وهناك
ما يكفي من الأدلة والشواهد بخصوص الاعتراف بالفضل والشهادة باستقامة فيلسوفنا
ونزاهته،{ فقد ذكره ابن سعيد بأنه كان" إمام الفلسفة في زمانه" ، وقال
أبي أصيبعة في سيرة إبن باجة أن ابن رشد "كان أكبر تلامذته "، وقال ابن
العبار" لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما ". وقال أيضا: "وولي
ابن رشد أيضا قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث فحمدت سيرته وتأتلت له عند الملوك
وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال ،إنما قصرها على مصالح أهل بلده
خاصة وأهل الأندلس عامة"}[29].
ü
ثانيا:
قواعد أخلاقية للحوار:
وإذا كانت هذه الصورة التي قدمناها ووضحنا من
خلالها ما طبع سلوك ابن رشد من جمع بين العلم والفضيلة . فإننا إن صح القول بحاجة
إلى الكشف والعمل على تبيان أهم القواعد والأصول التي وضعها ابن رشد في إطار
التعامل مع رأي الخصم من منطلق الدعوة إلى احترام أخلاقيات النقاش والاختلاف. وهذه
قواعد ذكرها وحث عليها في جملة من كتبه ، وذلك من أجل تأسيس حوار يتسم بطابع
أخلاقي ؛ أو إذا شئنا التعبير عن هذا الأمر بعبارات أبسط وأوضح أمكن القول أنه كان
يطمح إلى تأسيس ما يمكن أن"نسميه قواعد الحوار وأخلاقياته عند ابن رشد"[30].
إن الحديث عن أخلاقيات الحوار عند ابن رشد
ينطلق من أرائه ونقاشاته للفلاسفة خصوصا الغزالي وابن سينا في الكثير من المواضيع
، إذ يلاحظ من خلال هذه النقاشات أن فيلسوفنا يتولى في هذه المسألة وظيفة أو دور
القاضي الذي يحكم بين المتخاصمين ويعمل جاهدا على إرضاء كل الطرفين ، وهذه حقيقة
عرف بها ابن رشد وشهد له بها الكثير. وتفصح هذه الحقيقة عن نفسها من خلال اشتهاره
" بالتزام العدل والنزاهة والدعوة إلى الحق ونصرة المظلومين أثناء اشتغاله
بالقضاء . كما نجد أيضا هذه الصفة حاضرة عنده بقوة عندما يدعو من جديد إلى الحق
والتزام العدل والنزاهة بين المتخاصمين في مجال النظريات ، سواء كانوا مشاركين لنا
في الملة وفي المذهب أو غير مشاركين "[31]،
إذ المهم هو الوصول إلى الحق وتحقيق العدل. وهذا سلوك في الحقيقة يتميز به
فيلسوفنا ، ومرجع السبب في هذا الأمر يكمن في كون أن ابن رشد لم يكن من أصحاب
الانتماءات إلى مذاهب معينة ، وهذا شيء
واضح وضوح الشمس في جميع كتبه ، لأنه يطلب الحق لاشيء أخر غيره ، وهنا نستحضر قول
الدكتور محمد عابد الجابري الذي ورد في المقدمة التحليلية التي صدر بها كتاب ، ابن
رشد "تهافت التهافت "ـ الذي
نعتمد عليه بشكل أساسي في هذا المحورـ .
وبذلك كتب يقول: "إذا غاب الهاجس الإيديولوجي انفسح المجال للوازع
الأخلاقي". وبالتالي فابن رشد كما يقال " فهو مع الأشاعرة أشعري ومع
الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف"[32].
والحق أن ابن رشد وهو يزاول عمله في إطار
مناقشة الفلاسفة ومعاتبتهم أحيانا ، وتعنيفهم أحيانا أخرى ، وذلك من موقع الأستاذ
والشارح والقاضي الذي يتصف ـ كما أشرنا سلفا ـ بالعدل والنزاهة ، إذ يتميز من خلال
هذا الموقف بالصرامة والتعصب للحق ،عندما " يعطي الحق للغزالي إذا كان الحق
معه ، ويقف في صف ابن سينا إذا كان الحق معه أيضا، ويتصرف بسلوك أخر إذا كانا معا
خارجا الصواب ، إذ يقف في هذه المرة ضدهما " [33]،
لكن دعونا نقف عند سؤال لنعرف . ما هي مرجعيا أو منطلقات ابن رشد في الحكم على
الخارجين عن الصواب؟
إن ابن رشد يسلم أولا وصراحة بمنطق البرهان
، فالصواب عنده هو البرهان . وبالتالي يستند في الحكم على هؤلاء إلى البرهان
والطريقة البرهانية التي تعد مسألة من المساءل التي لا يستطيع المرء"
المجادلة فيها ، وكان مرجعه في هذا الصدد هو أرسطو الذي كان يمثل قمة العلم والفلسفة في عصره ( عصر ابن رشد)وبعده بعدة
قرون"[34]. ولا يتردد ابن رشد في
اللجوء والاستناد إلى مسألة البرهان حتي في حديثه عن الفرق الكلامية التي ظهرت في
البيئة الإسلامية ، حيث تطور الأمر ليصل في نهاية المطاف إلى " تكفير الفرق
الإسلامية بعضها لبعض ، ووقع الحرب فيما بينهم ، وابن رشد هنا يرد هذه الخيبة التي
لحقت المسلمين إلى جهل كل من الأشعرية والمعتزلة بشرائط البرهان ، استندوا في
أصولهم إلى أساليب جدلية وسفسطائية"[35].
ومن داخل هذا الوقف الأخلاقي الذي يتحرك فيه
ابن رشد حاملا على عاتقه مهمة الحكم بالعدل والانتصار للحق مركزا في هذا الصدد على
أهم الشروط التي يجب أخذها بعين الاعتبار في إطار التعامل ع رأي الخصم " سواء
كانوا مشاركين لنا في الملة أم غير مشاركين ، لأن المهم من جانب ابن رشد هو
الاعتراف لهؤلاء بالجميل والفضل والشكر"[36].
ومع أن فيلسوفنا لا يهمه إلا الحق والعدل فإنه لا يتجنب في أن يوجه نقده للغزالي
بأسلوب لا يخلو من العنف الفلسفي والتعليق عليه ، وهذا التعليق كما يظهر من خلال
مضمونه هو رد مباشر على هذا الأخير بخصوص المسألة بمحاولة الغزالي إظهار التناقض
وإبطال مذهب الفلاسفة، ولذلك يقول : " وأما قوله (الغزالي) أن قصده هاهنا ليس
هو عرفة الحق ، وإنما قصده إبطال أقاويلهم وإظهار دعاويهم الباطلة فقد لا يليق به،
بل بالذين في غاية الشر"[37].
وما يفهم من خلال هذا القول أن النزعة الأخلاقية
لدى ابن رشد والمطبوعة بالانتصار للحق والدعوة إلى العدل قد أفضت به إلى مواجهة
تصرفات الغزالي " وأسلوبه الجدلي الهدمي الذي لم يكن يهدف به هذا الأخير سوى
الهدم والتشويش، بأسلوب وبعبارات استنكارية ، زجرية ، تحركها كما قلنا الغيرة على
الأخلاق والدعوة إلى الحق والعدل "[38].
ومن هذا المنطلق نجد ابن رشد يقول موجها الخطاب للغزالي ، ويرد عليه في واحدة من
أهم القضايا التي أثارها هذا الأخير بأسلوبه السفسطائي التشكيكي ، حيث كتب ابن رشد
يقول: " وأما قوله وإنما غرضنا أن
نشوش دعاويهم وقد حصل ، فإنه لا يليق هذا الغرض به وهي هفوت من هفوات العالم . فإن
العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول"[39]
.
ولم يتوقف فيلسوف قرطبة عند هذا الحد ، بل
دعا مرارا إلى الاعتراف بجميل القدماء وشكرهم والشهادة لهم بالفضل . وسيرا على هذا
المنوال نجده يعاتب الغزالي ويؤاخذه بسبب
سلوكه السفوسطائي العنيد الذي لا يكن لهم الفضل والشكر ولا يبدي لهم أي اعتراف بما
قدموه من جهود على مستوى الفكر والمعرفة . وهذا قوله " أ فيجوز لمن استفاد من
كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها ، حتى فاق أهل زمانه وعظم في ملة الإسلام
صيته وذكره ، أن يقول فيهم هذا القول وأن يصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم
"[40].
وإذا كان هذا الكلام يهدف ويتقصد من خلاله ابن رشد الدعوة إلى الاعتراف يالجميل
وشكر أهله قدماء أو محدثين . ـ وهذه من أهم القواعد لبناء حوار منتج مبني على أسس
أخلاقية ـ ، فإننا لا نجد حرجا في القول إذا نحن قلنا أن ابن رشد لا يتردد من جديد
في الدعوة إلى " الاعتراف بحق الاختلاف وبالحق في الخطأ"[41]،
وهذه من أهم القواعد التي تضع أرضية خصبة لتأسيس أخلاقيات الحوار ، لأن في الحقيقة
كلما كانت هناك إمكانية للاعتراف بحق الاختلاف وبالحق في الخطأ، كلما كانت
الاستفادة وتعميم المعرفة أكثر والتفهم أيضا ، يقول ابن رشد موضحا هذه المسألة
" وكل ما قلته من هذا كله فليس يبين هاهنا ، ويجب أن يفحص عنه بعناية على
الشروط التي بينها القدماء واشترطوها في الفحص ، ولابد مع ذلك أن يسمع أقاويل
المختلفين في كل شيء بفحص عنه ، إن كان يحب أن يكون من أهل الحق "[42].
وإذا نحن أردنا السيرا على نهج ابن رشد في
الدعوة إلى قيام حوار يستبطن وينتظم معاني أخلاقية أمكن القول أن فيلسوفنا يواصل
استمراره من داخل مشروعه الأخلاقي مؤكدا على أهمية مراعاة شرط أخلاقيات النقاش
والاختلاف كقاعدة أساسية في تحصيل هذه الغاية الأخلاقية . ومن هنا يمكن القول أن
المتتبع لمنطلقات النزعة الأخلاقية الرشدية سيلاحظ أن ابن رشد في مجال شرحه
لأخلاقيات النقاش والاختلاف يستند أيضا إلى قاعدة أخلاقية كبرى تتمثل في " التعامل
والتفهم مع الخصم والتزام الموضوعية ، كما تشتمل أيضا على مسألة الاعتراف للخصم
بحق الدفاع عن رأيه"[43].
وبالتالي يعمل ابن رشد على شرح الفكرة المتعلقة بقضية التعامل مع رأي الخصم في
حدود التزام الموضوعية، حيث يوجه الكلام
للغزالي بأسلوب القاضي، الذي يراهن ـ كما سبق وقلناـ على تحقيق العدل وإصدار الحكم
بطريقة تقوم على الإنصاف والحق، ولهذا السبب كتب يقول: " ينبغي لمن أثر طلب
الحق ، إذا وجد قولا شنيعا ولم يجد له مقدمات تزيل عنه تلك الشنعة ، أن لا يعتقد
أن ذلك القول باطل ، وأن يطلبه من الطريق الذي زعم المدعي له أنه يوقف منها عليه ،
ويستعمل في تعلم ذلك من طول الزمان والترتيب ما تقتضيه طبيعة ذلك الأمر المتعلم
"[44].
خاتمة:
وما يمكن استخلاصه من خلال هذا القول بل
وانطلاقا من هذا الموقف الأخلاقي أن الحالة التي يجب مراعاتها وأخذها بعين
الاعتبار من أجل حصول التفهم ، هي مسألة إرجاع ورد كل قضية أو رأي من الأراء إلى
أصله وإلى مرجعية صاحبه ، حتى يتم تحقيق التفهم والموضوعية في إطار أخلاقيات
الحوار.
ويذهب ابن رشد في الجانب المتعلق بقضية الاعتراف
للخصم بحق الدفاع عن رأيه، إلى القول : " من العدل كما يقول الحكيم (أرسطو)
أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه. أعني :أن يجهد نفسه في طلب
الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه أن يقبل لهم من الحجج النوع الذي
يقبله لنفسه "[45].ولعل
من أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها هنا بخصوص هذا الموقف وكحصيلة عامة يمكن
الخروج بها من خلال هذا المحور أمكننا القول أن هذه الشروط والقواعد التي أتينا
على ذكرها هي من أهم القواعد التي تسعى من جانب ابن رشد إلى تأسيس أخلاقيات الحوار
، إذ تصب في جملتها إلى الاعتراف بالاختلاف وبالحق في الخطأ وفسح إمكانية وفرصة
للخصم في الدفاع عن رأيه بكل حرية . وفي الحقيقة إذا شئنا التعبير عن هذه الأمور
بعبارات أبسط وأوضح نستطيع القول أنه كلما تصورنا حضور حق الأخر في شخصنا
وقبلناه واستمعنا لرأيه أو لصوته المختلف واعترفنا برأيه المعارض ، كلما تم رفض
سلطة الخطاب الواحد وسهل حصول التفهم الذي يعد من أهم الشروط للاعتراف بالاختلاف.
البيبليوغرافيا
0 تعليقات