كل مرحلة من مراحل التاريخ تعرف تناقض وصراع قوانين مختلفة تشهدها المعرفة البشرية نحو العلمية بالمعنى الحديث، بدءاً من
الثورة الفلكية التي أقامها نيكولا كوبيرنيك (1473- 1543)، والذي يعد بحق فاتحة
ذلك الانقلاب المدوي الذي فصل القديم عن الحديث، فهو من يرجع له الفضل في وضع
اللمسة الأولى للكوزمولوجيا الجديدة القائمة على مركزية الشمس عوض مركزية
الأرض , فالأرض الثابتة مركز الكون أصبحت تدور معلقة في السماء، فهي غادرت
مكانها السافل إلى الأبد نحو الأعلى، وهو ما غير نظرتنا للكون بشكل جارح ومربك ، فلم يعد العالم مقسما إلى قسمين عالم سفلي حيث النقص والرذيلة،
وعالم علوي حيث الكمال والثبات، كما تشكل مع الفلك اليوناني ، بل أصبح العالم موحدا، والتراتب في مهب الريح. فتصدع الكوزمولوجيا
التراتبية القديمة مهد الطريق إلى تكسير التراتب الاجتماعي وإلى ثورة سياسية في
عصر الأنوار، تمثلت في جعل القاعدة (عموم الشعب) تصعد إلى قمة الهرم السياسي لتصبح
لها الكلمة الأولى، فصعودها إلى أعلى كصعود الأرض المتدنية إلى السماء الكاملة.
هذا من جهة .. ومن جهة أخرى أحدثت الكوبرنيكية انقلابا على مستوى المنهج في رؤية
العالم . فالعالم كما نراه أصبح لا يقدم الحقيقة، فهو ينتقل إلى حواسنا بشكل مزيف،
حيث تخدعنا الشمس كل يوم، كما أن الأرض التي تبدو للعين ثابتة هي في حركة دائمة،
باختصار نبهتنا الكوبيرنيكية إلى أن حواسنا المستخدمة كنوافذ على العالم تشهد
زورا، مما يجعل الشك مطلبا ضروريا، لأن الحقيقة أصبحت مهددة ، مما يعني إلزامية إعادة النظر و مسح الطاولة والبناء من جديد؛ فالعقل يجب أن يخرج من السذاجة والقبول بالحقائق دون
تمحيص أو تدقيق، بعبارة أدق على العقل أن يتحرك، وهو حذر ويقظ ومسلح بالمنهج الذي
يمنعه من الخداع , فالحقيقة ليست جاهزة، بل تصنع، ولا يمكن لها أن تخرج إلا من رحم
الشك، والشك ليس هزيمة للعقل، بل محرك دائم له كي لا يتقاعس.
قد يبدوا هذا التاريخ مبني على خطأ لسبب بسيط وهو أن تاريخ العلم عبارة عن
صدمات وأخطاء
صدمات هي تمثلت في أن الارض هي مركز الكون وان السماء غطاء والأرض فراش
والكتاب المقدس يخبرنا من أين أتينا وأين سنذهب وما معنى تقلب الليل والنهار وما
معنى أننا وجدنا في هذه الحياة حتى نحيا فيها ثم نشقى لنموت في النهاية لنصطدم في
النهاية بانهيار التصور القديم حول العالم ابان القرن السابع عشر بأن الأرض هي حبة
غبار تسبح في سيل لا متناه من الفراغ .
هذا الجرد السريع سيحيلنا مباشرة على الصدمة الخطيرة التي لم تستطع
النظريات العلمية فك شفرتها على مر العصور وبالتالي سندخل في مطبات الأسئلة
الأنطولوجية لنحصر أنفسنا أمام سياج ونسق محكم لاستحالة أيضا طرح فرضيات ملائمة
لها قابلية التحقق من هكذا اشكالية ..
لكي تكون
النظرية العلمية قابلة للاختبار، فيجب عليها أن تقدم تنبؤات (prédictions) ليست فقط
قابلة للاختبار بطبيعتها بل يجب أيضًا أن تكون محددة (specified) كما
وكيفا وأن تكون كذلك حصرية (exclusive). أما صفة التحديد في التنبؤات فذلك لأنه إذا فقدت التحديد كما أو
كيفا أو كلاهما، فلن يوجد شيء ملموس نستطيع أن نختبره. وأما صفة الحصرية فمعناها
أن تكون مميزة وخاصة فقط بتلك النظرية وأن لا تكون عامة بحيث يتشارك معها نظريات
أخرى مختلفة تقررها ولكن بتفسيرات مختلفة تماما، فنفقد القدرة على تحديد صحة نظرية
بعينها …..
سنجد في نهاية المطاف أن العلم
التجريبي الخالص لا زال يعيش حالة أزمة أبستمولوجيا تحتم علينا اخضاعه للمراجعة النقدية ثم
صياغة منهج بديل ثم تمريره في طور التجريب والتحقق منه..
فحينما
يعجز العلم عن اسقاط الظواهر المستجدة لصياغة حلول ملائمة لها وعندما نتحدث عن
الحلول فإننا نتحكم فيها بإعادة احداثها او منع حدوثها بخصوص الظواهر المستجدة
داخل حقل البحث علمي واذا كان لدينا الاستعداد الكافي لصياغة الحكم بمدى صحة او
خطأ هذا المنهج فحبذا ان يكون لدينا نفس
الاستعداد لصياغة منهج جديد .
هل يمكن
القول أن العلم ليس مفصول عن سياق الفلسفة لأنه يتمسك لأسوء بقايا المبسطة لأسوء
فلسفة ?
وهل يجب
قطع الصلة بالمنهج العلمي التجريبي والسعي الى تأسيس منهج بديل ?
وهل
يتوجب علينا مع كل لحظة زمنية ان نمارس الكوجيطو الديكارتي ?
أقل تكهن
يمكن أن نفترضه هو أنه قد نرى في السنوات القادمة تغيير في الجينات بخصوص العناصر
المجهرية المسبب للأمراض والمستعصية للعلاج الشيء الذي سيفقد فعالية المضادات
الحيوية وبالتالي سنحتاج الى تحقيق طفرة
جديدة في العلم.
اعداد
الياس الكوني
أستاذ
وباحث في علم الاجتماع
أهم المراجع
-
وهم المستقبل "سغمومد فرويد"
-
أنطوني غيدنز "أسس علم الاجتماع"
-
توم بوتومور "مدرسة فرانكفورت"
-
ستيفن هوكين و روجر بنوروز، "متفرّدات
الانهيار الثقالي والكوزمولوجيا".
-
وليم لاين كريغ، الحجّة الكوزمولوجيا من علم الكلام
-
(The Kalam Cosmological Argument ,London:
Macmillan , 1979)
-
الكون الكوپرنيكي نيكولاس كوبرنيكوس(1543) المتمركز حول
الأرض لابن الشاطر
الياس
الكوني
أستاذ
وباحث في علم الاجتماع
0 تعليقات