منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد/ حبيب
حسيب
من خلال كتاب “بين مثابتين”[1] للدكتور
محمد مساعد.
بقلم: حبيب حسيب
مقدمة
لقد عرفت الدراسات الرشدية خلال العقود
الأخيرة من القرن الماضي ازدهارا كبيرا من
طرف العديد من المفكرين عربا كانوا أو مستشرقين، وظهرت نتيجة لذلك أعمال مختلفة ومتباينة
فيما يتعلق بفكر وفلسفة أبي الوليد ابن رشد؛ وقد كانت تلك الأعمال في الغالب تنظر في
المظاهر الفلسفية التي تمثل المتن الرشدي وكانت على العكس من ذلك تهمل نسبيا الانشغال
بالعناصر أو لنقل العوامل التي ساهمت في تشكيل فلسفة وخطاب فيلسوف قرطبة ومراكش، فهذا
الموضوع لا يقل أهمية عن الانشغالات الفلسفية الأخرى؛ لأنه من شأنه أن يكشف عن الأسباب
والدوافع الحقيقية التي ساهمت من بعيد أو قريب في تشكل فلسفة ابن رشد الحفيظ.
ومن بين أهم تلك العناصر التي ساهمت
في ترجمة الأعمال الرشدية نجد العنصر الغزالي؛ الذي شكل هاجسا رئيسا في أبرز الأعمال
الفلسفية والفقهية لابن رشد، فأبو حامد الغزالي كما نعرف حاضر بقوة في متن هذا الأخير،
وبذلك فهو له دور أساسي في الخطاب الرشدي. وقد عرف هذا الموضوع اهتماما كبيرا من طرف
بعض المفكرين المغاربة خاصة، كان أولهم أو أبرزهم الراحل جمال الدين العلوي[2]، الذي
أحدث تحولا كبيرا في الدراسات الرشدية، من خلال إبرازه لذلك الدور الذي يلعبه الغزالي
في خطاب ابن رشد الفلسفي، ومدى التأثير الذي تركه في ذلك الخطاب الفلسفي.
بعد العلوي الذي له الفضل الكبير في
ازدهار الدراسات الرشدية بالمغرب، اهتم تلميذه المرحوم محمد مساعد الوقوف بكل دقة على
تلك القيمة الفكرية التي يكتسبها الفكر الغزالي في المتن الرشدي، ويظهر اجتهاد المرحوم
في كتابه “بين مثابتين” في كونه حاول أن يستخلص من كل الأعمال الرشدية ذلك الآثر الغزالي
الذي يشكل في كل لحظة من لحظات تشكل الخطاب الر شدي هاجسا رئيسيا. وهذا ما سنحاول أن
نبرزه من خلال هذا المقال الذي يجسد بحق الدور الكبير الذي لعبه أبو حامد الغزالي داخل
الرشدية.
من خلال هذه الأفكار لا يسعنا إلا
أن نعتبر بصورة أولية، أن الغزالي يشكل المقدمة الضرورية لفلسفة ابن رشد، وسنرى معالم
ذلك فيما بعد من خلال كتاب المرحوم مساعد، الذي يدافع عن فكرة رئيسية في ذلك الكتاب؛
وهي اعتبار الغزالي مكونا أوليا ومهما من مكونات الفلسفة الرشدية، ولا يجب أن نستخلص
من خلال هذه الدعوة أن مساعد ينتصر للغزالي دون ابن رشد، بل إنه على النقيض من ذلك
ينتصر للقامتين معا، على عكس بعض الدارسين والمفكرين الذين يميلون إلى ابن رشد بحكم
عقلانيته الفلسفية دون الاكتراث للخطاب الغزالي.
وبعيدا عن كل هذا وذاك وعن طبيعة تلك
المواقف، سنعمل على جرد معالم الحضور الغزالي في فلسفة ابن رشد، وأيضا بيان مدى التأثير
الذي مارسه الأول في خطاب الثاني وذلك من خلال كتاب المرحوم محمد مساعد طبعا.
****
يدافع المرحوم مساعد في كتابه “بين
المثابتين : منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد” عن فكرة أساسية تدافع عن تلك العلاقة
المتميزة والغامضة بين قطبي الحضارة العربية الإسلامية، بين أبي حامد الغزالي وأبي
الوليد ابن رشد. وهذا ما يتضح من خلال عنوان كتابه هذا، وهذه هي الفكرة التي يفسر منها
المرحوم في مقدمة كتابه الذي يعبر عن ذلك الحضور الغزالي ومدى مساهمته في تشكل الخطاب
الرشدي.
لقد أعرب مساعد عن رغبته من وراء هذا
العمل، حيث أعلن على أنه يهدف إلى قلب تلك النظرة التي ترسم طلاقا ظاهرا بين الغزالي
وابن رشد؛ لذلك يمكن أن نعتبر مع الراحل مساعد أن العلاقة بين هذين القطبين ليست علاقة
قطبية وانفصالية كما يرسم ذلك بعض الباحثين والمؤرخين، فلابد من وجود جوانب اتصال وجوانب
استمرار بين الرجلين. وهذا ما سيحاول مساعد الكشف عنه في كتابه هذا، من خلال وقوفه
رحمه الله على أعمال كلا المفكرين. وذلك بهدف الكشف عن مدى تأثير الحضور الغزالي على
سير الخطاب الرشدي وتشكله، ومما لاشك فيه أن مساعد استفاد من الأفكار القيمة التي قال
بها المفكر الكبير والرجل الخَلاَّق “جمال الدين العلوي” في كتبه ومقالاته نخص بالذكر
منها: كتابه الأهم المتن الرشدي بالإضافة إلى المقال المهم الذي نشره في مجلة كلية
الآداب والعلوم الإنسانية بفاس؛ والذي عنونه ب: الغزالي وتشكل الخطاب الفلسفي بالغرب
الإسلامي، فقد أثرت هذه الأفكار على معظم الدراسات المتعلقة بالفلسفة الإسلامية في
المغرب خاصة المتعلقة منها بالدراسات الرشدية، فكما أثر الخطاب الغزالي في فلسفة فيلسوف
قرطبة آثر كذلك “فكر جمال الدين العلوي” على عدد من المفكرين بمن فيهم تلميذه مساعد.
يرسم مساعد صورة مغايرة لتلك الصورة
النمطية التي ترسم تعارضا وطلاقا فجَّا بين “حجة الإسلام” و”الشارح الأكبر”. فهذا في
نظره تعامل إسقاطي وانتقائي يميل إلى الانتصار إلى أحد الموقفين على الآخر، وبذلك ذهب
البعض إلى تفضيل موقف ابن رشد فهمش بذلك منزلة أبا حامد في فكر فيلسوف قرطبة وهذه في
العمق دراسة غير مرتبطة بحقائق ما هو كائن في كتب وأعمال الرجلين فالغزالي بالعكس من
ذلك يعد عنصرا مهما من بين العناصر التي ساهمت بحضورها في تكون صرح الرشدية، فالحيز
الغزالي كما يؤكد مساعد ساهم بحضوره المتميز والمتباين في توجيه الفكر الرشدي في مختلف
لحظات تشكله، ومن هنا يمكن أن نؤكد وبصورة أولية كما قال المرحوم بدون منازع المساهم
في بلورة مظاهر الرشدية.
تتمثل رؤية الكاتب لموضوع منزلة أبا
حامد في فكر ابن رشد في كون ذلك الحضور الذي يؤديه الأول في فكر وفلسفة الثاني حضور
متعدد ومختلف أو كما يسميه مساعد: الحضور الأصولي والحضور الفلسفي ثم الحضور السيكو-إيديولوجي،
وسيحاول الرجل من خلال هذه الأنواع أن يجرد قوة كل حضور على حدة من خلال التعرف على
ذلك الأثر الذي خلفه في المتن الرشدي من جهة أنه يقوم أحيانا بتوجيهه وأحيانا يلفت
الانتباه إلى جوانب معينة وإعادة النظر فيها؛ ولعل أكبر دليل لنا هنا هو ما يسمى بنصوص
الفاصل الغزالي[3] التي تعد الأعمال الأساسية الحاملة للرشدية وهويتها وطابعها، ونحن
نعرف بلا شك القيمة الفلسفية لهذه النصوص ويرجع الفضل في تأليف فيلسوف قرطبة لهذه الأعمال
إلى تلك القراءة التي قام بها على ما يسمى بالظاهرة الغزالية، وقد اهتم ابن رشد بهذه
الأخيرة في خضم قيامه بالتوفيق بين الفلسفة
والدين أو بلغة ابن رشد بين الملة والحكمة. وهذه خطوة أساسية كما نعلم في قيام الرجل
بالتصحيح في مختلف المجالات.
من القراءة التي يعالج بها الدكتور
محمد مساعد موضوعه هذا هي كما نعلم أو كما قال هو نفسه قراءة وصفية لمراحل تشكل الخطاب
الفلسفي الرشدي. وذلك بهدف البحث عن مظاهر العنصر الغزالي بوصفه عنصرا أساسيا ضمن العناصر
المساهمة في اكتمال صورة الرشدية، والوصف عند مساعد له معنى خاص فهي عملية «تقطيع وعزل
لمختلف مكونات النص، أو الفكر المدروس قبل البحث عن العلاقات والضروريات الموجودة بين
مكوناته تلك، وهي لحظة الفهم، وقبل الانصراف إلى البحث عن النسق الشامل الذي يحتو به
ويتعلق به نشوءه وتولده وكذا استقراره وتهاويه، وهي لحظة التفسير»[4].
وبهذا يعرب مساعد على أن هدف هذه القراءة
هو طرح إشكالات وأسئلة جديدة خاصة بهذا الموضوع بدل اقتراح حلول قد تكون كما قال غير
قريبة من الحقيقة التي توجد في العلاقة بين أبي حامد الغزالي وأبي الوليد، وطبيعة حضور
الأول في فكر الثاني.
****
هذه هي بعض الأفكار الأولية فيما يخص
الكتاب قيد القراءة والمناقشة؛ أما من حيث محتوى الكتاب فقد قسمه المرحوم إلى ثلاثة
فصول متعلقة بطبيعة ذلك الحضور الغزالي الذي يتفرع كما أشرنا إلى ثلاثة مستويات، وهكذا
تناول في الفصل الأول ذلك الحضور الأصولي باعتباره الحضور الأول للغزالي في فلسفة ابن
رشد، حيث يرتبط ذلك الحضور بفترة المختصرات التي سيتناول فيها مساعد نموذجا للحضور
السالف الذكر، أما في الفصل الثاني فقد اهتم
الكاتب بمناقشة الصنف الثاني من الحضور الغزالي وهو الحضور الفلسفي الذي يتداخل
مع الحضور الأول، وذلك باعتبار أن لحظة المختصرات تتداخل مع لحظة هذا الحضور الثاني
وهي التلاخيص فكلا اللحظتين يشكلان مرحلة واحدة بحسب “مساعد”، وفي هذا القول معارضة
لذلك التقسيم الذي اقترحه العلوي الذي يعتبر فترة المختصرات لحظة خارجة عن مرحلة التلاخيص
والجوامع. أما عن الفصل الأخير فسيناقش فيه المؤلف الحضور الفلسفي الغزالي في فلسفة
ابن رشد، وسيتناول في الفصل الأخير الحضور السيكو-إيديولوجي وهذا هو الحضور الأهم بالنسبة “لمساعد” لأنه يجسد ما سميناه بنصوص الفاصل الغزالي.
في الفصل الأول الذي عنونه الأستاذ
“مساعد” ب “الغزالي والحضور الأصولي عند ابن رشد” قسم المرحوم ذلك الحضور إلى قسمين؛
ويرجع السبب في ذلك إلى الاهتمام بجانبين اثنين من أعمال ابن رشد هما : مختصر المستصفى
والمختصر في المنطق. فقد حاول الكاتب ربط الحضور الأصولي في فكر ابن رشد من خلال الأعمال
التي تحمل في طياتها نفحات غزالية، لكن في البداية لابد من التأكيد على أن اهتمام مساعد
بالحضور الأصولي ليس إحالة على اهتمامه بالجانب الفقهي لأبي الوليد أو يروم تقديم صورة
مدروسة لابن رشد الفقيه، بل العكس! فمقصده هنا يروم الاهتمام ببعض معالم التأثير الذي
مارسه أبو حامد الغزالي على فكر أبي الوليد ابن رشد في مجال أصول الفقه، ولما كان هذا
الأخير مرتبطا بعلوم الدين المختلفة خاصة علم الكلام ذهب الكاتب إلى الاهتمام بذلك لعله يجد فيه معالم وسمات ذلك
الحضور الغزالي ومدى فعاليته على بلورة الفكر الفقهي الأصولي الرشدي، ففي الفصل الأول
يتناول “مساعد” كتاب “الضروري في أصول الفقه مختصر المستصفى” لأبي الوليد من أجل فحص
ذلك الحضور الأصولي، وقبل ذلك ذهب إلى جرد بعض الدوافع التي كانت وراء ظهور هذا الكتاب،
وينتمي هذا الأخير طبعا إلى فترة المختصرات التي تشكل لحظة أولية من لحظات تطور المشروع
الرشدي؛ وينتمي الكتاب الثاني ” الضروري في المنطق” إلى نفس الفترة، ولهذا فالضروريات
نقصد الضروري في أصول الفقه والضروري في المنطق يجسدان الحضور الغزالي الأصولي في فلسفة
ابن رشد ولو بصورة أولية، ولهذا ذهب المرحوم “مساعد” إلى اعتبار ذلك الحضور حضورا أصوليا
لارتباطه بمجال علم الأصول.
فما هي مظاهر هذا الحضور الأصولي في
“مختصر المستصفى” الذي يعد نظرة أصولية اتجاه الغزالي من طرف ابن رشد؟ وكيف رتب مساعد
معالم ذلك الحضور في هذا الكتاب؟ وما الدافع الذي أرغمه على وصف ذلك الحضور بالأصولي؟.
يحيل إذن مختصر المستصفى على منزلة
أبي حامد في فكر ابن رشد خلال هذه الفترة وفي البداية يؤكد على الطابع الأصولي لذلك
الكتاب، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفضل في تحقيق ونشر كتاب ابن رشد هذا يرجع إلى الأستاذ
“جمال الدين العلوي” الذي أشرف على جمع معالم هذا الكتاب المهم.
إن المستصفى كتاب رئيس في مجال الأصوليات
وله مكانته داخل الفكر الفقهي في الحضارة العربية الإسلامية، لكن السؤال الغريب هنا
والذي يفرض نفسه هو المتعلق بالمبررات التي كانت وراء اختيار وإقبال ابن رشد على اختيار
مستصفى أبي حامد دون غيره من الكتابات الأصولية الأخرى الرائدة في العالم الإسلامي
مثل أعمال: أبي المعالي الجويني أستاذ أبي حامد وغيرها من الأعمال الخاصة بالمجال الأصولي
الفقهي؟ !! .
ولعل ما يبرر لنا ذلك الاختيار بصورة
أولية هو أن فيلسوف قرطبة في هذه الفترة –نقصد فترة المختصرات- يعلن معاينته ومسايرته
لنهج أبي حامد، إلا أن ابن رشد يطمح إلى أحسن ما ذهب إليه الغزالي، ويؤكد “مساعد” على
أن اختيار فيلسوف قرطبة لمستصفى الغزالي كان بسبب ما سماه بحسن النظر المتواجد بالكتاب
ومن هنا يمكن أن نفسر ذلك الإقبال بتلائم معالمه مع متطلبات فترة المختصرات، وهذا ما
دفع بابن رشد إلى البحث عن كتاب يندرج في مجال علم الأصول.
وقد وجد ابن رشد ما كان يبحث عنه في
مستصفى أبي حامد فقد «يرتد ذلك إلى كون المستصفى من علم الأصول يستجيب بطبيعة مشروعه
الخاص إلى مستلزمات مرحلة المختصرات عند ابن رشد»[5] وبهذا فكتاب المستصفى لأبي حامد
يمثل النص الأصولي الفقهي الأمثل الذي سيساعد ابن رشد في الوقوف على مكونات مجال أصول
الفقه واختيار فيلسوف قرطبة لهذا العمل إحالة على تلك المنزلة الكبيرة لأبي حامد في
الفكر الفقهي الإسلامي .
كان هدف فيلسوف قرطبة ومراكش في لحظة
المختصرات تأسيس رؤية متينة لعلم الأصول وإبعاد كل العوائق الكلامية، وهذا لن يتحقق
كما قال “مساعد” إلا بالسير بالمشروع الغزالي
في مؤلف المستصفى إلى اتجاه صحيح، وفي خضم هذه الخطوة سيقوم ابن رشد بفحص بعض الإشكالات
الكلامية التي علقت بعلم أصول الفقه، وذلك بمحاولة عزل الأصوليات عن الكلاميات التي
علقت بعلم أصول الفقه بمحاولة عزل الأصوليات عن الكلاميات وعن باقي المجالات الأخرى
بهدف ضمان خصوصية ومصداقية ومشروعية مجال علم الأصول، وهذا الموقف الرشدي مضاد لتلك
النزعة التوفيقية بين مجالات عديدة كالكلام والتصوف وغيرهما….
يشير مساعد إلى سبب آخر كان وراء إقبال
أبي الوليد على كتاب أبي حامد المذكور ويتمثل في رغبة الشارح الأكبر توسيع دائرة المذاهب
في أصول الفقه برقعة الغرب الإسلامي، وذلك لتكسير الطابع الظاهري لبعض المذاهب الفقهية
مثل: ظاهرية ابن حزم وصراعها مع المالكية؛ ولعل مقصد ابن رشد هنا هو الرغبة في القضاء
على سيطرة سلطة الفقهاء المالكيين المدافعين عن مذهب مالك.
فقد كان هذا المذهب هو السائد في بلاد
المغرب والأندلس. والتخلص من تلك الهيمنة لا يتم إلا بالانفتاح على مذاهب أخرى مختلفة
ومتعددة وقد وجد ابن رشد مبتغاه في مستصفى
الغزالي خاصة وأن هذا النص يقدم كما قال ابن
رشد حجة الإسلام كمناصر للمذهب الشافعي، لذلك قد تكون شافعية الغزالي هي التي دفعت
بابن رشد إلى مزاحمة المذهب المالكي المحافظ. وبالرغم من أن الرجل نشأ في منطقة تسودها
المالكية وتأثر بها كثيرا سيخالف معظم رجالات ذلك المذهب المحافظ وهذا التحفظ بحسب
ابن رشد هو سجن للعقل وحبس للإيمان، لذلك فالرؤية الفقهية للمذاهب المالكية هي رؤية
ضيقة، وهنا يستحضر “مساعد” قولة دالة وقوية للمفكر “إرنالدير” في مقالته المعنونة ب
“ابن رشد” حيث كتب يقول فيها « أراد تحرير (أي ابن رشد) الفكر الإسلامي من قبضة مزدوجة،
قبضة تيولوجيا تأملية بشكل خاطئ لم يكن حجاجها بالنسبة له سوى جدل أو خطابة تعوق أكثر
مما تتيح الإيمان الحق». سيحاول أبو الوليد من هنا، التخلص من الانغلاق المذهبي كخطوة
مهمة لإقامة أفق واسع لأصول الفقه، وهذه الفكرة هي التي سيعمل الرجل على العمل على
بلورتها في “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” الذي يعد في نظرنا تمحيصا فقهيا في المقام
الأول؛ فصاحبه يعمل فيه على بيان أزمة المذاهب الفقهية خاصة مذهب أصحاب مالك وهذا لا
يتم إلا من خلال بيان أزمة تلك المذاهب من خلال الاستعانة بكتاب أبي حامد الغزالي المستصفى.
فلا غرابة إذن أن نقر كما قال المرحوم
“مساعد” بغزالية ابن رشد، إذ يعد في هذه الفترة من أتباع الغزالي نسبيا مثله في ذلك
مثل “ابن تومرت” “وأبي بكر بن العربي” و”ابن طملوس”.
يقول “مساعد” بمقصدين أساسين كانا
يراودان أو يشغلان فكر أبي الوليد في هذه الفترة بحيث لا ينفصلان عن هدفه المعلن في
رؤيته لعلم أصول الفقه؛ الأول هو محاولة إعادة جانب الاجتهاد الذي غاب عن الحضارة العربية
الإسلامية في خضم انتشار التقليد، وهنا يمكن أن نشير إلى أن الغزالي هو الآخر يقول
في كتابه “المنقد من الضلال” بنفس الفكرة حيث يرفض التقليد لكن ليس أي تقليد بل الفلسفي
منه؛ إلا أن الاجتهاد عند الرجلين يختلف باختلاف مقاصدهما، أما عن الهدف الثاني فيتجسد
في رغبة ابن رشد في التجديد من داخل المذاهب الفقهية خاصة المالكية، حيث يقدم نفسه
كمجدد في أصول الفقه.
هناك أيضا احتمال ثالث لإقبال فيلسوف
قرطبة ومراكش على كتاب أبي حامد الغزالي يتمثل في كون ذك الكتاب مناسبة تتيح قراءة
انشغالات العالم الإسلامي المختلفة والمتعددة، كما يمكن الكتاب من قراءة أفكار الفرق
الإسلامية بما في ذلك الأشعرية التي ينتمي إليها الغزالي، بالإضافة إلى هذا يؤكد مساعد
على احتمال رابع كامن وراء إقبال ابن رشد على اختصار مستصفى أبي حامد يتجسد في انبهار
الشارح الأكبر بالولاء الجماعي الذي يحظى به الرجل في الوسط الإسلامي، فهو لا يريد
كما قال “مساعد” السباحة عكس التيار الذي يولي أهمية قصوى لحجة الإسلام، ومن هنا يمكن
أن نؤكد على أن مجرد اختيار فيلسوف قرطبة لذلك الكتاب هو أكبر حجة على مكانة أبي حامد
في مجال أصول الفقه.
سيكون لهذا الحضور الأصولي الغزالي
تأثير على فكر ابن رشد سواء على المستوى القريب أو المستوى البعيد، في هذه اللحظة نعاين
“مساعد” يقوم بمقارنة بين كتاب الغزالي المستصفى وكتاب ابن رشد بداية المجتهد ونهاية
المقتصد، حيث يبين في ذلك بعض المسائل التي دخل منها ابن رشد بهدف تحليلها وبيان مدى
قوة البرهان فيها، وذلك قصد إقامة نظرة حالمة لأصول الفقه بعيدة عن الشوائب الفقهية
والكلامية، وفي هذا كذلك رغبة في إتمام مشروع تلخيص أصول الفقه من خلال اختصار مستصفى
الغزالي الذي شكل نقطة انطلاق في رؤية ابن رشد لأصول الفقه، وهذا ما دفع مساعد إلى
اعتبار طبيعة هذا الحضور حضور أصولي بالأساس لا ينفصل على كونه حضور سيكو-إيديولولجي.
مع اتخاذ الأول أي الحضور الأصولي حصة الأسد من هذا الحضور في المختصرات.
هذه هي الرؤية التي يقدمها “مساعد”
لمدى تأثير الغزالي في لحظة المختصرات على فكر ابن رشد الذي لامسناه من خلال كتاب أبي
الوليد “مختصر المستصفى” باعتباره اختصار لمستصفى أبي حامد في الرؤية المنطقية لابن
رشد، وقد وضع لهذا محورا عنونه بالغزالي والمختصر في المنطق.
فما هي الصورة التي كونها هذا المختصر
حول الحضور الغزالي؟ وما علاقته بالمختصر الأول في علم الأصول؟.
يعتبر المختصر في المنطق من بين الأعمال
الدالة على ذلك الحضور الغزالي في فلسفة ابن رشد، وهذا ما دفع “بمساعد” إلى البحث عن
المظاهر التي تحيل على ذلك في فترة قيام ابن رشد بإنجاز المختصر في المنطق، وقد استفاد
الكاتب في هذا من جرده للحضور الغزالي في المختصر الأول من علم الأصول الذي تمثل في
كتاب مختصر المستصفى.
يؤكد مساعد على الطابع الأصولي لهذا
العمل في المنطق؛ أي أن الحضور الغزالي في مختصر المنطق لابن رشد، هو بالقصد الأول
كما قال حضور أصولي قبل أن يكون فلسفي، وهذا ما يؤكده المضمون الكلي لهذا الكتاب، ولعل
ما يبرر ذلك هو أن هذا النص أنجز مباشرة بعد المختصر في علم الأصول الذي يحيل على الطابع
الأصولي لذلك الحضور في لحظة المختصرات. ومن هنا يحق لنا القول مع المرحوم “مساعد”
أن “مختصر المستصفى” و”المختصر في المنطق” يشكلان فترة ولحظة واحدة تدل على تماثل المقاصد
بين الكتابين، وعن التوجيه الذي حدث في عمل ابن رشد في هذه الفترة فإن كتاب أبي حامد
الغزالي المذكور لعب دورا مهما في فكر ابن رشد، سواء في المختصر الأول أو في المختصر
الثاني. ومن هنا نشهد قوة ذلك التوجيه الذي
لعبه أبو حامد الغزالي في سير فكر أبي الوليد وهذا دليل على تلك الأهمية التي يحظى
بها حجة الإسلام في تكون الخطاب الفلسفي خاصة في اللحظات الأولى لفيلسوف قرطبة وقاضيها.
ويذهب هذا الأخير إلى رسم صورة عن
الغزالي في هذه الفترة؛ فإذا كان في الكتاب
أو المختصر الأول يقدم أبو الوليد حجة الإسلام على أنه رجل بارز في سماء الأصوليات
فهو يجعله في هذا الكتاب الثاني رجل من الخاصة، ورغم استحضار فيلسوف قرطبة لحجة الإسلام
في مختصر المنطق فهو لا يكاد يستحضره في الجانب المنطقي بل في الجانب الأصولي، وهذا
ما يحيل على أن هناك ترابط بين علم الأصول وعلم المنطق عند ابن رشد؛ وحتى أبا حامد
أيضا يؤكد على أهمية الرؤية المنطقية لفهم أصول الفقه، وهذا ما نلاحظه من تلك المقدمة
المنطقية التي أوردها في كتابه “المستصفى من علم الأصول”، هذه النظرة الغزالية المنطقية
لا شك أنها ساعدت ابن رشد على رسم موقفه من المنطقيات من خلال توظيف منطقية الغزالي
في حل بعض الإشكالات في مختلف العلوم الأخرى، وعلى قائمتها علم أصول الفقه.
والغريب هنا والحالة هذه، هو أن ابن
رشد بحسب المرحوم “مساعد” لم يقم باختصار تلك المقدمة المنطقية، وتجدر الإشارة هنا
إلى أن أبا حامد الغزالي له أعمال منطقية متجسدة في كتاب: القسطاس وغيرها من الكتب
الأخرى… ولو أقبل ابن رشد على اختصر تلك المقدمة المنطقية لعرفنا بقوة هوية العلاقة
بين فيلسوف قرطبة وبين حجة الإسلام، ويرجع “مساعد” سبب عدم إقبال الأول على اختصار
الجزء المنطقي لكتاب أبي حامد المستصفى، في كون ابن رشد يتحفظ من تلك الشهرة التي سيتعرفها
نظرة أبا حامد المنطقية في الغرب الإسلامي، وهذا ما دفع بالشارح الأكبر إلى الاهتمام
بالجانب الأصولي لكتاب المستصفى وإهمال الجانب المنطقي له.
ولعل من بين الأسباب الأخرى المفسرة
لذلك الإهمال هو أن ابن رشد يعتبر أن نظرة الغزالي المنطقية كانت موجهة للباطنية من
خلال القيام بالتوثيق بين المنطق الأرسطي وبين تعاليم الذكر الحكيم، ومن هنا نلاحظ
أن سبب ذلك الإغفال هو أن أبا حامد لم يتخذ المنطق في ذاته؛ بل كان كوسيلة لقصد منشود،
ولعل هذا ما يؤكده عابد الجابري الذي يعتبر
منطقية الغزالي بكونها نظرة درائعي؛ وعلى العموم فالمنطق عند حجة الإسلام بحسب
مساعد له وظائف متباينة تختلف باختلاف مجالات البحث: الأصول، الكلام… ومن هنا يمكن
أن نجمل المنطق بالنسبة لكل من حجة الإسلام وأبي الوليد في القول، بأن الأول وظفه لمناهضة
الفكر باختلافه بما فيه الفكر الفلسفي، بينما عمل الثاني على توظيف المنطق للوصول إلى
العلم الحق.
الى جانب لحضور الغزالي في المتن الرشدي
خاصة في الجانب الأصولي وأيضا سيكو-إيديولوجي يضيف المرحوم “مساعد” معالم الحضور الفلسفي
بصفة سطحية غير عميقة وذلك بسبب أن ابن رشد كما قلنا تجاهل النظرة المنطقية لأبي حامد،
وحضور هذا الأخير في المتن الرشدي من خلال المختصر في علم الأصول والمختصر في المنطق،
ما هو إلا دليل عميق على ذلك الدور الذي يلعبه الغزالي في تشكل الخطاب الفلسفي لابن
رشد في لحظة المختصرات الذي يهيمن ويسيطر عليه الحضور الأصولي، الذي شهدناه، وهذا لا
ينفي ذلك الصراع بين الرجلين الذي سيعرف قيمته خلال فترة الفاصل الغزالي كما سنرى ذلك
مع المرحوم “مساعد”.
****
ينتقل هنا الأستاذ في كتابه بعد انتهاءه
من جرد معالم الحضور الغزالي الأصولي عند ابن رشد في الفصل الأول والمتمثل كما ذكرنا
ذلك في لحظة المختصرات، خاصة مختصر المستصفى أو المختصر في المنطق، إلى الفصل الثاني
ليطلعنا على معالم ذلك الحضور الفلسفي عند ابن رشد والذي سنتناوله من زاويتين؛ أولا
دراسة الهاجس الغزالي في خضم تشكل المختصرات الطبيعية والميتافيزيقية. وسيقوم “مساعد”
هنا بالاعتماد على “مختصر ما بعد الطبيعة” بالإضافة إلى المختصرات الأخرى المتعلقة
بالعلم الطبيعي. وثانيا دراسة الحضور الشامل أو الكلي الفلسفي الغزالي في فلسفة الشارح
الأكبر. وذلك بربط الحضور المذكور بأنواع الحضور الأخرى المتعلقة بالعلم الطبيعي. وثانيا
دراسة الحضور الشامل أو الكلي الفلسفي الغزالي في فلسفة الشارح الأكبر. وذلك بربط الحضور
المذكور بأنواع الحضور الأخرى لعدد من الفلاسفة في فكر ابن رشد. ولهذا ركز مساعد في
ذلك الحضور الفلسفي على الفارابي وابن باجة
كحضورين فلسفيين في فكر ابن رشد. ولمزيد من الفهم لهذه الخطوات سنتطرق لكل إشكال
على حدة. مقتدين في ذلك بالتقسيم الذي وضعه المرحوم في كتابه.
لننطلق من الجزء الأول المتعلق بالغزالي
والمختصرات الطبيعية والميتافيزيقية، فما الصورة التي يقر بها “مساعد”. والمتعلقة بأبي
حامد في هذه اللحظة نقصد فترة المختصرات الطبيعية والميتافيزيقية؟.
إن حضور أبي حامد في هذه المرحلة يكاد
يكون حضورا فلسفيا بالنظر إلى ما تحمله تلك الأعمال والمختصرات من معالم فلسفية حالت
على فلسفة ذلك الحضور الغزالي، الذي يقل هنا على أن يكون حضورا أصوليا على عكس ما لاحظناه ذك في لحظة تأليف المختصر في
علم المنطق، وهذا ما سنحاول الكشف عنه، أي السبب الذي بموجبه خالف التلميذ أستاذه أو
بالأحرى الذي يفسر إقدام “مساعد على رفض التقسيم المعلن من طرف الأستاذ العلوي فيما
يخص مراحل تشكل المتن الرشدي. وسنتعرف على ذلك
في قرائتنا المتواصلة لهذا الكتاب.
تعتبر لحظة المختصرات لحظة أساسية
داخل الفكر الرشدي، كما قال “مساعد”. فهي تحيل على ذلك الانحياز الرشدي للمذهب الأرسطي
أو هي «نقل للأرسطية وتجريدها من الأقاويل الجدلية، للإبقاء فيها فقط، على ما تحتويه
من أقاويل علمية، ومن تم يهدف إخراج القول الأرسطي مخرجا برهانيا، عبر بيان ما يثوي
فيه من الأقاويل ذات الانتماء إلى دائرة العلم والبرهان دون تلك التي تنتمي إلى مجال
الجدل وما دونه»[6]. يعطي بذلك “مساعد” رحمه الله أهمية كبيرة للمختصرات باعتبارها
فترة أساسية للقول بالأرسطية الرشدية. وتلك الأرسطية تجلت بحسب جمال الدين العلوي بصورة
أولى في لحظة الجوامع، وتقوت تلك الصورة خلال فترة التلاخيص. وهذا ما جعل العلوي يذهب
إلى الفصل بين المختصرات وبين الجوامع والتلاخيص. مؤكدا على أن الأولى لحظة خارجة عن
الإعلان الرسمي لبداية تشكل الخطاب الفلسفي لفيلسوف قرطبة. وعلى العكس من ذلك؛ ذهب
“مساعد” إلى المزج بين اللحظتين اللتين فصل أستاذه بينهما. يقول صاحب المثابتين. «
لقد كنا نرى هذا الرأي في زمن مضى، وهو ما لم نقل به اليوم، إذ ليس بين المختصرات والجوامع،
في تقديرنا، فارق بل هي هي، فالمشروع واحد، والمرامي متماثلة، ولا مجال للميز بينهما
أو لفصل هذه عن تلك»[7].
هذا هو السبب الذي من أجله خالف التلميذ
الأستاذ، وهو اختلاف على الغالب منهجي، لا يمكن أن يرق إلى حد الخلاف بين المرحومين.
وقد كان الفقيد مساعد يرغب في تحرير القول في سبب ذلك الاختلاف، لكن الله قدر ما شاء.
وبالعودة إلى موضوعنا. فالقول بالحضور الغزالي في فترة لنصوص
المختصرات الميتافيزيقية والطبيعية يؤدي إلى القول بعدد من الإشكالات: أبرزها ما سماه
صاحب الكتاب بالهاجس الفيلولوجي الذي يعتبر أساسا مؤسسا للعمل الفلسفي بشكل عام. وتتعلق
بوجه خاص بالصياغة المتعلقة بفترة المختصرات والتساؤل عن موقعها في خضم المتن الرشدي،
وعن اللحظة التي يجب النظر فيها قبل الأخرى. وهذا متعلق بالجانب الكرونولوجي لأعمال
ابن رشد. أما الجانب الأخر من تلك الإشكالات فيتعلق بصميم الخطاب بالذات. الذي نجد
فيه صعوبة في الفرز بين لحظاته بالنظر إلى المعطيات المتوفرة. لكن بالرغم من هذا نجد
المرحوم “مساعد” يضع سنوات محددة لأعمال ابن رشد خاصة في لحظة المختصرات، ولعله استفاد
كثيرا من ذلك التحديد الزمني الذي وضعه العلوي في كتابه[8] الرئيس الذي خصصه لدراسة
أعمال ابن رشد. الذي يفصل فيه صاحبه الوضعية الزمنية أو لنقل الرؤية الابستمولوجية
التي قام في خضمها كل كتابات أبي الوليد المعروفة.
بعد هذه الإشارات يخوض مساعد في فكرة
أساسية مفادها الكشف عن ذلك العامل المتحكم في اهتمام ابن رشد بكتب أرسطو والعمل على
شرحها. الجواب الشهير الذي يعرفه الجميع هو أن السبب في ذلك يرجع إلى طلب الأمير يعقوب
يوسف الذي التقى بابن رشد عن طريق وسائطية ابن طفيل. هذه الرواية بحسب المرحوم مساعد
لا تصدق وفي نفس الوقت لا يمكن تكذيبها. إذ يعتبر من بين العناصر التي دفعت الشارح
الأكبر خاصة في لحظة المختصرات إلى الاهتمام بأرسطو لكن إلى جانب العنصر الأقوى وهو
العنصر الغزالي. وهذا ما يحيل على أهمية الحضور الغزالي في تلك اللحظة المؤسسة للمتن
الرشدي.
هذا الحضور يستهله “مساعد” هنا بمناقشة
منزلة أبي حامد في مختصر ما بعد الطبيعة. ونلاحظ حضورا آخر لحجة الإسلام وهو حضور متميز
وفريد من نوعه لكونه أثر في السير الفكري للخطاب الفلسفي الرشدي. في هذه الفترة دخل
ابن رشد في حوار مع الشيخ الرئيس الذي حاول الذهاب بالأرسطية نحو النظرية الفيضية والأفلاطونية.
وقد وجه انتقادات لاذعة للرجل، ويعتقد ابن رشد هنا أن انتقاد أبي حامد للفلسفة الأرسطية،
ما هو في العمق إلا انتقاد لابن سينا وليست
انتقادات للمعلم الأول. ويدرج مساعد عددا من المسائل التي يوضح من خلالها الحوار بين ابن رشد وبعض فلاسفة الإسلام، خاصة مسألة
العقل الفعال التي عرفت تأويلات مختلفة من طرف متفلسفة الإسلام، وهناك مسألة أخرى تتعلق
بترتيب العقول وارتباطها بالمبدأ الأول. وهنا يستحضر ابن رشد الغزالي في تلك المسألة
الأخيرة. وهذا الحضور كما قال “مساعد” له مفعوله
على فلسفة ابن رشد في هذه المرحلة، فهو كما قال يدفع ابن رشد إلى الانحياز لمسألة من
المسائل، أو موقف من المواقف، وفي هذه المسائل
يعمل فيلسوف قرطبة ومراكش بحسب الفقيد “مساعد” على توجيه النقد لأبي حامد، ولكنه من
جهة ثانية يوافقه في نقده للشيخ الرئيسي، وهذا دليل على هيمنة طابع المهادنة على الموقف
الرشدي من الغزالي. في هذه الفترة أي بالضبط في مختصر ما بعد الطبيعة، وقد كان لحضور
الغزالي في هذه اللحظة مساهمة مهمة في توجيه الفكر الرشدي بعيدا عن الفلسفة السنيوية
وقريبا من فلسفة الحق فلسفة الحكيم أرسطو
“معنى ذلك أن الغزالي يسير بابن رشد كما أسلفنا القول، نحو تحاشي السنيوية، عبر نقد ابن سينا ومناهضته”[9]. ووراء هذه المناهضة
بطبيعة الحال هناك اقتراب من الفلسفة الأرسطية، التي يضعها الشارح الأكبر بالفلسفة
الحق، ومن هنا فإننا نقول بعلاقة خفية بين النقد الغزالي السنيوية من جهة وبين اعتناق
ابن رشد للمذهب الأرسطي من جهة ثانية. « فما يعمل الغزالي من خلال انتقاداته لابن سينا،
العامل الأهم، أو على الأقل أحد العوامل الأهم في توجه ابن رشد نحو أرسطو الحقيقي لديه،
وانفصاله من ثم، لا عن ابن سينا فحسب، وإنما عن نظرية الفيض ومستلزماتها في تاريخ الفلسفة
الإسلامية»[10]
نستنتج من هنا أن حضور أبي حامد في
فكر ابن رشد يعد من أبرز العوامل التي جعلت الرشدية تأخذ مكانها داخل الثقافة العربية
الإسلامية. ولهذا فلا يجب أن نصف ذلك الحضور بكونه حضورا مجانيا. فنحن برفقة المرحوم
“مساعد” وحتى المرحوم “العلوي” نثمن العنصر الغزالي داخل الفكر الرشدي، على أن يعترف
بذلك معظم إن لم نقل جميع الباحثين. والصورة التي ينقلها لنا مختصر ما بعد الطبيعة
تجسد تلك الأهمية، ولعل مطلبنا هنا هو أن يستحضر حجة الإسلام في دراسة الرشدية بوصفه
جانبا رئيسا من بين الجوانب الأساسية الأخرى المشكلة بدورها للصورة النهائية للرشدية.
في مختصر ما بعد الطبيعة نلاحظ ذلك
التوجيه الذي مارسه أبو حامد على القول الفلسفي الرشدي، حيث يدفع في كل مرة ابن رشد
إلى عشيقته الأرسطية التي لا محبوبة غيرها تضاهيها أو تماثلها في قلب فيلسوف قرطبة
وأحد قضاتها. وبعدما انتهى الباحث في كتابه من جرد منزلة الغزالي في فترة مختصر ما
بعد الطبيعة، انتقل إلى بيان أثر ذلك الحضور في ما يسمى بالمختصرات الطبيعية.
بصورة أولية نجد أن هناك تماثل بين
مقاصد الرجلين، أي بين مقصد ابن رشد في هذه الفترة ومقاصد الغزالي من خلال كتاب “مقاصد
الفلاسفة”. يقول “مساعد” نقلا عن ابن رشد في خضم حديثه عن مقصده من أعمال المختصرات،
كتب يقول “فإن قصدنا في هذا القول، أن نعمد إلى كتب أرسطو، فنجرد منها الأقاويل العلمية
التي تقتضي مذهبه. أعني أوثقها، ونحذف ما فيها من مذاهب غيره من القدماء. إذا كانت
قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه وإنما اعتمدنا هذا الرأي، من بين أراء القدماء
إذا كانت قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه وإنما اعتمدنا هذا الرأي من بين
أراء القدماء إذ كان قد ظهر للجميع أنه أشدها إقناعا وأثبتها حدة. وكان الذي حركنا
إلى هذا أن كثيرا من الناس يتعاطون الرد على مذهب
أرسطو من غير أن يقفوا على حقيقة مذهبه، فيكون ذلك سببا لخفاء الوقوف على ما
فيها من حق أو ضده، وقد كان أبو حامد رام هذا المرام في كتابه المعروف بمقاصد الفلاسفة.
لكنه لم يف بما رام من ذلك. فرأينا أن نقصد لما رجونا في ذلك لأهل زماننا من المنفعة
التي رجاها وللسبب الذي ذكره”[11]. نستخلص من هذا النص أن ما دفع ابن رشد إلى الاهتمام
بأرسطو كان هو دحض تهافت كثير من الناس الدين يدعون الرد عليه. دون معرفة مقتضيات مذهب
أرسطو طاليس الحقيقي. وقد أعلن أنه سيسير على نهج الغزالي الذي سلكه في كتابه المقاصد.
هنا يمكن أن نطرح مسألة لم ينتبه إليها العقيد في كتابه هذا وسنطرحها على شاكلة سؤال،
ألا يمكن أن يكون ابن رشد قد عرف الأرسطية في بعض مسائلها. إن لم نقل كل مسائلها انطلاقا
من كتاب أبي حامد المعنون “بمقاصد الفلاسفة”؟. إنها فعلا نقطة تفتح بالتأكيد فرصا أخرى
للتنقيب عن العلاقة من جديد بين العلمين بين فيلسوف قرطبة وحجة الإسلام.
إن تأثير ابن رشد بالغزالي جاء نتيجة
للمنهج النقدي المحكم الذي سلك الأخير في تعامله مع أراء الفلاسفة. أو بعبارة ثانية
فإن “الوقوف على المذاهب قبل التعرف عليها أمر شنيع، بل هو بدليل عبارته نفسها، رمي
في العماية والضلال. معنى ذلك أن مقاصد الفلاسفة كتاب وصفي استعراضي لا نقدي تشكيكي،
إذ النقد سيتكفل به كتاب تهافت الفلاسفة”[12]. من خلال هذه الفكرة يمكن أن نستخلص أن
أبا حامد الغزالي رغب في انتقاد أرسطو قبل أن عمل قبل ذلك على استيعاب مقتضيات الفلسفة
الأرسطية.
إذن قرأ ابن رشد من أعمال حجة الإسلام
في فترة المختصرات الطبيعية كتابا واحدا هو “مقاصد الفلاسفة”، وقد وجد في هذا الكتاب
سندا أو لنقل ركيزة سلبية أحيانا وإيجابية أحيانا أخرى في إنجاز عمله وشرحه للأرسطية،
كتب مساعد يقول في هذا الصدد: «معنى ذلك أن ابن رشد وهو يريد أن ينجز شرحا للأرسطية
ككل، أي في المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة، كما تؤكد ذلك مرحلة التلاخيص التي تعتبر
هذه الديباجة بيان عمل لبرنامجها الخاص، حيث شمولية فعل الشر لكل مناطق القول الفلسفي
الأرسطي يعله مثلا أو نموذجا يحتدى لعمله سلبا أو إيجابا، سوى الغزالي وبالضبط في مقاصد
الفلاسفة »[13].
لا يسعنا من خلال هذا القول إلا الاعتراف
بمدى قوة ذلك التوجيه الذي لعبه أبو حامد في الفكر الفلسفي الرشدي سواء في فترة المختصرات
بشقيها الميتافيزيقي والطبيعي، أو سواء في المشروع الرشدي ككل. وقد استشهد مساعد في
توضيحه لهذه الفكرة بعلاقة فلاسفة الإسلام بابن رشد في هذه الفترة. فنجده يوضح أفكار
كل من ابن سينا وأبو نصر الفارابي وابن باجة وابن طفيل. وعلاقتها بالأرسطية، وبذلك
يدير ابن رشد ظهره لفلسفة الإسلام في المختصرات الطبيعية. وعلى العكس من ذلك يسترشد
بالغزالي دون سواه. فالكتاب المذكور لهذا الأخير قد يكون هديا لأبي الوليد في لحظة
المختصرات. ويبدي فيلسوف قرطبة احترامه الشديد لهذا الكتاب وهو في العمق احترام لصاحبه،
كما يؤكد ذلك صاحب المثابتين. الذي يصرح على خلاف أستاذه العلوي، على أن أرسطية ابن
رشد ظهرت في فترة المختصرات التي لا تنفصل عن التلاخيص باعتبارها مرحلة واحدة، وعلى
النقيض من ذلك كان قد أكد المرحوم العلوي على أن اعتناق ابن رشد للأرسطية ظهر في لحظة
التلاخيص لا المختصرات.
تكتسي مرحلة المختصرات والحالة هذه،
أهمية داخل المتن الرشدي. بالنظر إلى طابعها النقدي والسجالي. يتمثل في ذلك الحوار
هو سمات الهدوء والمهادنة. إلا أن الأمر سيتغير في ذلك الحوار الساخن والمنفعل في فترة
الثلاثية الشهيرة كما سنرى مع المرحوم “مساعد” أما عن الدور الفلسفي الذي لعبه أبو
حامد في فكر ابن رشد في المختصرات “فمساعد” كتب يقول « من هنا فالحضور الغزالي لدى
ابن رشد في مرحلة المختصرات والتلاخيص بوجه خاص يتميز بكونه ذا معالم فلسفية شديدة
الوضوح، إذ أن أبا حامد هو الذي سينبه ابن رشد، في مختصر ما بعد الطبيعة، كما في المختصرات
الطبيعية إلى عدم تطابق السنيوية مع الأرسطية»[14] وما في هذه العبارة من وضوح وجلاء
ودلالة، لا يحتاج إلى إشارة.
بعدما تعرفنا على مظاهر الحضور الغزالي
في فلسفة ابن رشد ينتقل بنا الأستاذ “مساعد رحمة الله عليه، إلى الحديث عن حضور أخر
له من الأهمية ما له في تشكل المتن الرشدي. نقصد هنا الحضور الكلي في فلسفة ابن رشد.
ويقصد بذلك الحضور، حضور فلاسفة مسلمين آخرين في المشروع الفلسفي الرشدي من أمثال:
أبو نصر الفارابي- وأبو بكر بن الصائغ.
هذا ما فعله الفقيد “مساعد”. الذي
قسم هذا الحضور الكلي إلى محورين؛ الأول متعلق بالحضور الفلسفي الفارابي عند ابن رشد،
والثاني الحضور الفلسفي الباجي. وفي تناوله لأقسام هذه الحضور المتعلق بهؤلاء الفلاسفة
أقام الدكتور مقارنة بين ذلك الحضور من جهة وبين حضور أبي حامد الغزالي من جهة ثانية،
فما هي إذن، مكانة المعلم الثاني وابن الصائغ داخل المتن الرشدي؟ وهل يرقى حضور هؤلاء
في فلسفة ابن رشد إلى ذلك الحضور الغزالي؟.
في بداية هذا النص يمكن أن نخلص أن
حضور الفارابي وابن باجة لا يرقى إلى حضور أبي حامد كتب المرحوم “مساعد” يقول: « كل
واحد من الفارابي وابن باجة يهيمن على قطاع محدد ومحدود من قطاعات النسق الفلسفي الرشدي
لا على النسق بكامله. بخلاف ما عليه الأمر مع الغزالي، (…) الأمر الذي يعني منذ البداية
أن حضور الفارابي وابن باجة هو حضور جزئي عند أبي الوليد على عكس الحضور الغزالي الذي
ليس هو قطاعيا وإنما هو كما قلنا حضور كلي»[15].
من خلال ذلك، المرحوم الذي صنعه المرحوم
“مساعد” لحضور الفارابي يمكن أن نؤكد على أن حضور المعلم الأول كان خاصا بالمنطق. وهذا
ما نلمسه من خلال بعض المؤلفات الرشدية من قبيل : كتاب القياس وكتاب السفسطة… حيث يفسر
ابن رشد مواقف المعلم الثاني في شرحه للمعلم الأول. وتراوحت محاورة ابن رشد للفارابي
بين الاستشهاد أحيانا بتفاسيره ونقده أحيانا في إخلاله بأصل الفلسفة، كما يستحضره أحيانا
ضدا عن تأويل ابن سينا للأرسطية.وتأويل بعض الشراح القدامي مثل: الإسكندر وتامسيطبوس.
وهذا ما نجده في كتب ابن رشد من قبيل البرهان والجدل والمنطق… وغيرها من الأعمال الأخرى.
التي اختصرها الشارح الأكبر في تفسيره للأرسطية. أما فيما يتعلق بميتافيزيقا الفارابي
التي تقوم على مبدأ الفيض، فإن ابن رشد تأثر بها، إلا أنه سيحاول الانقلاب عليها بدعوة
أنها بعيدة كل البعد عن ميتافيزيقا الحكيم أرسطو طاليس.
وعلى الرغم من هذا الأثر الميتافيزيقي
الفارابي في فلسفة ابن رشد، فإن حضور المعلم الثاني في المتن الرشدي ظل رهين المنطقيات
بالدرجة الأولى، ويؤكد صاحب المثابتين على أن هذا الحضور سيتغير إلى أن ينتهي عبر لحظات
تشكل المتن الرشدي. ف « يتبناه أبو الوليد في مرحلة المختصرات، وكذا عند مطلع لحظة
التلاخيص. بينما يبدأ في الانفصال عنه مع الإيغال في ثنايا ومنعرجات هذه المرحلة إلى
أن يحقق قطيعته الحاسمة معه في مرحلة الشروح وإلى آخر ما يخطه في مجال المنطق»[16].
يتميز حضور المعلم الثاني بكونه حضور نسبي جزئي لا يمكن أن يرق إلى حضور حجة الإسلام الذي يفعل فعلته في كل مرة
في العقل الرشدي. وهذا ما سنحاول التطرق إليه في حديثنا عن مكانة أبي حامد في الثلاثية
الشهيرة.
لننتقل الآن مع أستاذنا إلى الحديث
عن حضور ابن باجة ومدى تأثيره في الخطاب الفلسفي
لفيلسوف قرطبة ومراكش. لكي نقارنه هو الآخر بالحضور الغزالي. بداية يؤكد “مساعد” على
أن الحضور الفلسفي الباجي لا يرقى في غالب الأحيان أو في معظم جوانبه عن الحضور الفارابي.
مما يحيل في نظرنا على أن هناك خصائص وقناعات دفعت بالمرحوم إلى إصدار هذا القرار.
فما هي يا ترى هذه القناعات؟.
يشترك الحضور الأول والثاني في كونهما
حضورين جزئيين وغير مستمرين، على طوال المتن الرشدي، والاختلاف بحسب “ساعد” يتجلى في
مجال تأثير كل فيلسوف على حدة. فإذا كان أبو نصر حاضرا في منطقيات ابن رشد، فإن ابن
باجة يسجل حضوره القوي في مجال الطبيعيات. لكن هذا لا يمنع بدوره من أن فيلسوف قرطبة
استحضر فيلسوف سرقسطة. بل هو حاضرا أحيانا في الجانب المنطقي للشارح الأكبر. وعلى الرغم
من تلك الإشارات الرشدية لابن الصائغ في المنطقيات، فإن الأمر لا يرقى إلى فعالية كبرى،
كما أننا لا نعثر على حضور فعال لابن باجة في ميتافيزيقا فيلسوف قرطبة ومراكش. اللهم
في مناسبات ضئيلة كما قال “محمد مساعد” . في تفسيره ما بعد الطبيعة. وعلى النقيض من
ذلك يجد الحضور الباجي قوته في العلم الطبيعي لابن رشد مثل الأعمال الطبيعية التالية:
السماع الطبيعي… حيث نجده يوجه نقدا لابن الصائغ في بعض المسائل كمسألة طبيعة الجرح
السماوي… إلى درجة أنه يفضل قول أبي نصر الفارابي على قول ابن باجة إذا كان خارج عن
دائرة الحق والصواب. وهذا ظاهر من خلال انتقاده لكلام ابن الصائغ عن الحركة.
وعلى العموم فاستحضار ابن رشد لابن
الصائغ في طبيعياته كان استحضارا نقديا. لأن أقاويل فيلسوف سرقسطة لا تتلائم مع أقاويل
أرسطو طاليس.
يؤكد “مساعد” على أن حضور ابن باجة
لا يماثل الحضور الفارابي. إلا أن كلا الحضورين لا يرقيان إلى الحضور الأهم حضور أبي
حامد. الذي يعد حضورا كليا وليس مجاليا خاص بجزء من أجزاء المتن الرشدي. فهو “يمارس
فعله على كل النسق الفلسفي الرشدي”[17]. وبهذا فهو حضور مستمر غير منفصل عن باقي لحظات
تشكل المتن الرشدي فأهميته تتجسد في كونه « حاضرا بكليته تلك. منذ لحظة المختصرات على
الأقل. بحسب ما تأدينا إليه في الفصل الأول عن الحضور الغزالي في مختصر المنطق. حتى
لحظة الفاصل الغزالي مرورا بالتلاخيص، واختراقا للشروح، بموجب بعض الإشارات التي وقفنا
عليها في الجملة الأولى من هذا الفصل»[18]. من هنا يمكن أن نقر أن ما فعله حجة الإسلام
في ابن رشد من تأثير لم يفعله أحد من فلاسفة الإسلام، لا ابن باجة ولا أبو نصر الفارابي.
فما يمكن أن يرقى إلى ذلك الحضور هو الشيخ الرئيس نسبيا. فالحضور الوحيد الذي يعوق
في نظرنا حضور أبي حامد هو حضور أرسطو طاليس في المتن الفلسفي الرشدي، ولك أن تتصور
قوة هذه المقارنة. التي ستتوضح معالمها بالنسبة للجانب الغزالي خلال الحديث عن الثلاثية
الشهيرة.
بعد هذه التوضيحات التي تتعلق بحضور
فلاسفة آخرين في الخطاب الرشدي. انتقل المرحوم “مساعد” إلى معالجة الفصل الثالث الذي
عنونه ب: الغزالي والحضور السيكو-إيديولوجي عند ابن رشد. حيث تناول فيه ثلاثة محاور
أساسية وهي الغزالي وفصل المقال وأيضا الغزالي ومناج الأدلة في الكشف عن مناهج الأدلة
ثم الغزالي وتهافت التهافت.
قبل خوض “مساعد” في الكشف عن مظاهر
الحضور الغزالي ومدى تأثيره في توجه المتن الرشدي في فصل المقال. عالج المرحوم مدى
ذلك التأثير في “ضميمة العلم الإلهي” التي تعد ملحقا للكتاب السالف الذكر. يعتبر الرجل
أن تلك المقالة تعد الإعلان الأهم لبداية ما سماه المرحوم جمال الدين العلوي بالفاصل
الغزالي. فهي تثير إشكالا فلسفيا يتمثل في مسألة كون العلم الإلهي علما إما بالجزئي
أو بالكلي. وفي خضم حديث ابن رشد عن هذه المسألة يستحضر حجة الإسلام الذي كنز الفلاسفة
في هذه المسألة. ومن هنا يمكن أن نقول أن استحضار أبو الوليد لأبي حامد في هذه الإشكالية
هو استحضار نقدي (نقد لموقف الغزالي من مسألة العلم الإلهي). ويشير “مساعد” إلى أن
سبب ذلك انقد هو زعزعة تلك الثقة التي يحظى بها أبو حامد لدى السلطة السياسية الرسمية.
وتتناول تلك النميمة جانب محدد لحوار الرجلين، وهي بذلك تجسد بداية لعراك حقيقي مع
أبي حامد، الذي سيعرف قمته في كتب الثلاثية الشهيرة. فما هي الصورة التي رسمها فصل
المقال للظاهرة الغزالية؟.
****
أول خاصية تميز الحوار مع حجة الإسلام
في فصل المقال بحسب “محمد مساعد” هي أن ابن رشد حاوره باللجوء إلى معظم الأعمال المختلفة
المجسدة للمتن الغزالي. فلم يكتفي بنص واحد. لا ينفصل الفصل عن السير الذي سلكه ابن
رشد في المقالة الإلهية. فهو ينتقل من قضية جزئية من خلال عمل واحد لأبي حامد، إلى
قضية كلية وشاملة. بأعمال متعددة. ومن بين تلك القضايا هي تكفير أبي حامد للفلاسفة.
فهذا الأمر جعل من الفصل مجموع فتاوى مصوبة اتجاه الفكر الغزالي الذي لم يلزم مذهبا
إلا وخاض فيه. هذا التنوع جعل من الصورة التي يرسمها ابن رشد حول الغزالي في فصل المقال
صورة غير مستقرة، ويرجع ذلك بحسب “مساعد” إلى عدد من العوامل منها أن “للغزالي معرفة
تامة وصائبة بكل الاتجاهات والمذاهب (الأشعرية، الفلسفية، الصوفية…)دون أن ينحاز إلى
أي واحد منها ضدا على الآخر”[19].
إن السبب في إعلان ابن رشد الحرب على
الغزالي ومهاجمته في الفصل بشراسة راجع إلى وعيه بالمنزلة الكبيرة التي يحظى بها حجة
الإسلام في دائرة علماء الإسلام والمسلمين عامة زمن الخليفة أبو يعقوب يوسف الذي يضمن
الاحترام السياسي للغزالي.
يلخص “مساعد” أنواع الحضور الغزالي
في فصل المقال في أصناف متعددة فتارة يكتسي ذلك الحضور طابعا فلسفيا. كيف ذلك؟ إنه
يعمل على دفع ابن رشد في النظر للأرسطية. من خلال إبعاد المذاهب العالقة بها مذاهب
متأخرة الإسلام. ويتصف ذلك الحضور تارة بكونه ميتا-فلسفي يتجسد في توجيه العقل الرشدي
إلى معالجة قضايا فلسفية تهدف إلى البرهنة على مشروعية الفلسفة من خارج الفلسفة. كما
أن ذلك الحضور يتسم بكونه حضور ايديولوجي، تمثل في مراوحة الموقف الرشدي بين موقفين
في معالجته للظاهرة الغزالية، بين موقف الدعوة إلى منع انتشار المشروع الغزالي لتفادي
حصول العامة علة أفكاره، وموقف متجسد في ما شهده العالم الإسلامي من فراق. إذا كانت
هذه الأصناف من الحضور هي العناصر الراسمة لصورة حجة الإسلام في الفصل. فما هي الصورة
المرتسمة لأبي حامد في كتاب “الكشف عن منهج الأدلة في عقائد الملة”؟.
يؤكد “مساعد” على أن الصورة التي يرسمها
الكشف عن مناهج الأدلة هي صورة واضحة ودقيقة. فالغزالي في نظر ابن رشد من الأعلام الكبيرة
في مجال الأصوليات. إلا أن ما يلومه الأول عن حجة الإسلام هو ذلك التأويل الذي صرح
به الرجل للعامة وأدلى بمعناه للجمهور. ولعل من بين أهم الأحكام التي يشترك فيها كل
من الفصل والكشف اتجاه أبي حامد هي:
الحكم على الغزالي بالكفر وصد الناي
عن الحق.
الحكم على أعمال الرجل بالسفسطة.
لقد تميز الحوار مع الغزالي في “الكشف
عن مناهج الأدلة”، بالحدة والعنف من طرف ابن رشد. وذلك راجع إلى تلك الجريمة التي ارتكبها
أبو حامد في حق الشريعة والحكمة. وفي محاولة المرحوم “مساعد” جرد مظاهر الهاجس الغزالي
في كتاب الكشف عمل على البحث عن الدوافع التي حركت ابن رشد إلى تأليف هذا الكتاب وقال
بباعتين؛ الأول يتجسد في « أن الكتاب إنما تم تأليفه لمناهضة كل الاتجاهات المذهبية
الإسلامية الكلامية منها والصوفية. سواء منها تلك التي خرجت بالشرع عن ظاهرة، أو تلك
التي بقيت عند ظاهر غير محمود مثل الحشوية، فأحدث جميعا الفرقة والضلال في العالم الإسلامي»[20].
هذا المقصد يحيل على رغبة ابن رشد النظر في الأوضاع الطافحة بالانحلال والتمزق في الحضارة
العربية الإسلامية، بفعل التأويل الذي تسببت فيه الفرق الضالة. ومن ثم فكتاب الكشف
يهدف إلى « بيان طرق الشرع في تعليم الجمهور مواجهة، أو دحض غيرها من الطرق. مع إيران
تهافتها من خلال رصد معالم زوغانها عن مقصد الشرع»[21] هناك باعث آخر دفع ابن رشد إلى
تأليف كتابه الكشف، وهو المتمثل في دحض الفهم الخاطئ لأبي حامد لعلاقة الحكمة بالشريعة.
وخطأه في تصريح معناها للجمهور. وهذا دليل على أن ابن رشد سيتناول قضايا من الشريعة
ينتقد بها بعض القضايا الفكرية لأبي حامد. ومن خلال هذه الفكرة يمكن أن نصرح بأن «
الغزالي يشكل وجها أساسيا من وجوه انشغالات “الكشف” وهواجسه»[22].
يستحضر ابن رشد الفرق الكلامية خاصة
الأشعرية. لكن لماذا هذا الاهتمام البالغ بالأشعرية؟ الجواب يختزله أبو حامد. فلما كان منتميا إلى المذهب
الأشعري، كان لزاما على ابن رشد فحص تلك المنظومة الخلفية التي تشكل خلفية فكرية يقوم
عليها النسق الغزالي في بعض جوانبه ولحظاته. وتجدر الإشارة إلى أن ابن رشد لا يقطع
نهائيا بأشعرية الغزالي، كما يفعل ذلك بعض مفكرينا المعاصرين، فالحضور الكلامي الكثيف
في الكشف عن مناهج الأدلة هو جسر لفهم نقطة أخرى وهي استيعاب الظاهرة الغزالية. « ولعله
للعلة نفسها أيضا سيتم استدعاء المعالي الجويني بالضبط. دون غيره من أخطاب الأشاعرة»[23]
. ولمجابهة المشروع الغزالي لابد من التصدي لهذه الخلفية النظرية التي يتأسس عليها
ذلك المشروع، لأن ذلك من شأنه أن يبين النظريات والركائز الأساسية التي تؤطر الفكر
الغزالي. ومن شأنه أن يبين النظريات والركائز الأساسية التي تؤطر الفكر الغزالي. ومن
شأنه أن يفسر بعض الأقاويل والمشاكل المتداخلة بين الطرفين ومن هنا يمكن أن نقف على
عدد من الخصائص التي قال بها “مساعد” لذلك الحضور الكلامي في كتاب “الكشف”. فذلك الحضور
حضور نقدي. فرضته نقطة أساسية وهي محاورة أبي حامد الغزالي. ومن هذا يمكن أن نفهم أن استحضار ابن رشد لعلم الكلام
لم يكن قصدا في ذاته. بل كان لغاية موجهة بالحوار مع الغزالي.
ومن خلال هذا الهاجس الغزالي في الكشف
يمكن أن نستخلص منزلة الغزالي ضمن المشروع الرشدي ككل وداخل نصوص الفاصل بصيغة خاصة.
أما بالنسبة لكتاب “تهافت التهافت” فهو يكتسي منزلة كبيرة، داخل المتن الرشدي. فهو
يتمتع بأهمية خاصة ذلك أنه شكل مناسبة لرمد ذلك التحريف الفلسفي السابق. وفي مقابل
ذلك حاول فيه صاحبه تقديم رؤية شاملة لما يرغب فيه في هذه المرحلة بالخصوص. ذلك أنه
يعتبر جمعا للمجهود الرشدي في كل من كتابي الفصل والكشف. ومحاولة ابن رشد النظر إلى
الفلسفة وما لحقها من تحريف. لا يمكن أن يتم إلا بالرد على الفكر الغزالي المناهض للفكر
الفلسفي.
لا يستثني هذا الكتاب انشغاله بالهاجس
الغزالي. ومن تم فالحضور اللافت لأبي حامد في تهافت ابن رشد لا يمكن الاستغناء عنه
بل لا يمكن حتى إنكاره. لقد ظهر ذلك الكتاب كاستجابة للعديد من الأهداف
والمقاصد التي أعلنها ابن رشد في هذه الفترة فمحاولته لترميم العلاقة مع الوعي الفلسفي
السابق كانت هي الأخرى هاجسا رئيسيا في الكتاب. ففي ذلك عودة إلى الفلسفة بدماء جديدة.
وذلك يعبر عن النضج الأرسطي. فما يربط ذلك النضج والكمال هو كتاب التهافت الذي يمثل
أفقا يحمل في طياته بوادر التصحيح الفلسفي.
إن التهافت هو كتب مجسد بقوة لهذا
التصحيح فأهميته تظل قائمة من جهة أنه يمثل العودة إلى الأرسطية الفلسفية، بعد أن كان
ابن رشد كما رأينا قام بتصحيح المنظومة العقدية من كل الجوانب. فمنزلته مزدوجة بين موقعه ضمن الثلاثية الشهيرة وموقعه في المتن
الرشدي بصفة عامة. فهو يشكل حلقة الجمع بين نصوص الفاصل الغزالي وتتويج للجهد الرشدي
في النصوص السابقة عن كتاب التهافت. الذي يعد إعلان عن نهاية الفاصل الغزالي داخل المتن
الرشدي. أو بعبارة أخرى فهو جسر يربط المرحلة الأولى من المشروع الرشدي والصورة النهائية
منه.
****
هذه هي المنزلة التي يحتلها أبو حامد
الغزالي في خضم المشروع الفلسفي لابن رشد. والتي عرفناها من خلال أصناف الحضور التي
شهدناها من خلال هذا الكتاب القيم للمرحوم “محمد مساعد”، فهذا الكتاب أعطانا صورة جديدة
لتلك لعلاقة بين قطبي الحضارة العربية الإسلامية بين نابغة المشرق الإسلامي أبو حامد
الغزالي وبين عقلاني الغرب الإسلامي إبي الوليد ابن رشد.
نأمل من الله أن يوفقنا لمتابعة هذا
الموضوع في مسارنا الدراسي لكي نحي ذكرى جمال الدين العلوي وتلميذه محمد مساعد.
لقد حاولنا من خلال هذا المقال أن
نقف بكل دقة على تلك العلاقة الخفية أحيانا والظاهرة أحيانا آخرى بين فيلسوف قرطبة
وحجة الإسلام، وذلك من خلال الوقوف على معالم ذلك الحضور الغزالي الفعال في فلسفة أبي
الوليد، وقد رسم لنا ذلك الحضور صورة جديدة، لفهم جديد لمنزلة أبي حامد ضمن تطور وتشكل
المنظومة الفلسفية الرشدية. ومنه فالقول بتلك المساهمة الغزالية في اكتمال الصرح الفلسفي
لفيلسوف قرطبة ومراكش يفتح آفاقا ممكنة للبحث والدراسة، من أجل الوقوف بحق على حقيقة
تلك العلاقة بين الرجلين أو بين المشروعين.
يكتسي الحضور الغزالي إذن، في المشروع
الفلسفي الرشدي سمات مختلفو؛ فهو حضور يمتد بشكل كبير طوال فترات ومراحل تشكل الرشدية
(الجوامع-التلاخيص- الشروح الكبرى…)، وبذلك يمكن أن نؤكد أن الرشدية مدينة للغزالين
في وصولها لكمالها ولصورتها النهائية. ويتميز ذلك الحضور أيضا بالتعدد على كافة المستويات
كما رأينا ذلك، حيث شمل معظم الثقافة العربية الإسلامية، وعلم الأصول وعلم الكلام،
كما أن ذلك الحضور لم يكن حضورا خارج الدائرة الايديولوجية التي تنظر في أحوال العالم
العربي الإسلامي ومسألته، وقد رأينا مدى فاعلية الحضور الغزالي في كل فترة من فترات
تطور الخطاب الرشدي، وهكذا ففي لحظة المختصرات مثلا؛ نجد هيمنة للحضور الأصولي الذي
جسده “مختصر المستصفى”، وفي التلاخيص نلمس ذلك الحضور الفلسفي الفعال. وقد رأينا مدى
قوة الحضور المختلف خاصة الايديولوجي خلال فترة الفاصل الغزالي الذي عبر بحق عن منزلة
الغزالي الحقيقية في فكر ابن رشد الفلسفي. وما يمكن الاحتفاظ به هنا أن ذلك الحضور
الذي يعبر عن منزلة حجة الإسلام الكبيرة في فلسفة أبي الوليد يختلف كل لحظة باختلاف
المجال الذي يستحضر فيه فيلسوف قرطبة أبي حامد الغزالي.
إن هذا الموضوع الرئيسي الذي يسلم
بأن لأبي حامد الأثر البالغ في تكوين المشروع الفلسفي الرشدي يلقى كل لحظة اهتماما
كبيرا، وذلك بفعل القيمة الكبيرة التي يكتسبها، لكونه يقترح دراسة جديدة لدراسة الرشدية
من خلال دراسة العناصر التي ساهمت في تشكلها. ولما كان أبو حامد من بين أهم تلك العناصر
المكونة للرشدية، فإن الأمر سيكون ذا قيمة كبيرة تدفع بنا كل لحظة إلى البحث والدراسة
بل والتنقيب في مظاهر تلك المساهمة الغزالية في الخطاب الرشدي، وإنه لا موضوع مهم يفتح
أبوابا غير محددة للبحث من جديد في طبيعة العلاقة بين قامتين فكر يتبين لها وزنها داخل
سماء الثقافة العربية الإسلامية. ولعل البحث في ذلك من شأنه أن يبعد عن الأذهان تلك
الصورة الكأداء التي ترسم طلاقا مبينا بين أبي حامد الغزالي وأبي الوليد بن رشد، ولكم
كان ذهولنا عظيما ونحن نشاهد أن كل المفكرين ذهبوا إلى تعميق ذلك الانفصال بين الرجلين،
بدل الانشغال بالكشف عن تلك العلاقة الحقيقية بين الغزالي وابن رشد دون الانحياز لطرف
على الأخر، فما يسعنا ونحن نشرف على نهاية
هذا المقال إلا أن نوجه الاهتمام إلى الانشغال بذلك الموضوع.
——-
[1]
. مساعد محمد، بين مثابثين منزلة الغزالي في فلسفة
ابن رشد، الشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية، ط1- 2014م.
[2]
.نشر جمال الدين العلوي رحمه الله مقالا مهما: الغزالي
والخطاب الفلسفي في الغرب الإسلامي: الغزالي وتشكل الخطاب الفلسفي لابن رشد، مجلة كلية
الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، العدد الثامن، 1986م. يبين العلوي في هذا المنشور ذلك
الدور الفعال الذي مثله الغزالي في الخطاب الرشدي من خلال فحصه وتحليل لبعض مؤلفات
أبي الوليد ابن رشد.
[3]
. الفاصل الغزالي كما قال جمال الدين العلوي هي تلك
الفترة التي ألف فيها ابن رشد أعماله الثلاثة الشهيرة وهي: فصل المقال، الكشف عن مناهج
الأدلة، تهافت التهافت.
مساعد، “بين مثابتين”، مرجع سابق،
ص34
. نفسه،
58.[5]
[6]
. نفسه. ص151.
[7]
. نفسه. ص152.
[8]
. العلوي جمال الدين، المتن الرشدي: مدخل لقراءة
جديدة، دار توبقال للنشر، ط1-1986م.
[9]
. بين مثابتين، ص178.
[10]
. نفسه، ص178.
[11]
. نفسه. ص182،181.
[12]
. نفسه، ص186.
[13]
. نفسه. ص 191.
[14]
.نفسه. ص218.
[15]
. نفسه ،226
[16]
. نفسه . ص248.
[17]
. نفسه. ص263.
[18]
.نفسه. ص264.263.
[19]
. نفسه. ص287.
[20]
.نفسه. ص 319.
[21]
.نفسه. ص 321.
[22]
.نفسه. ص 323
[23] . نفسه. ص 325
0 تعليقات