مفهوم الغير: من الدلالات إلى الإشكالية
الغير، في التمثل المشترك، هم
الآخرين من الناس بوجه عام. ولكن تصور هؤلاء الآخرين يختلف تبعا للمرجع الذي
يكونون بالقياس إليه آخرين. فهم آخرون بالقياس إلى الذات الفردية (أنا) أو الجماعية
(نحن)، أي يختلفون ويتمايزون عنها من حيث الوجود (الجسمي والنفسي) والملكية (المادية
والمعنوية) والأفعال (السلوكية والإبداعية). والآخرون هم كذلك أيضا بالقياس إلى
الأقارب، بحيث يدل الغير هنا على كل من لا يرتبط بالذات برابطة القرابة أو العاطفة
أوالجوار أو الإنتماء الطبقي وما إلى ذلك. وأخيرا يقال الغير (الآخرون) بمعنى
ثقافي حضاري أو عرقي، وهو الأخرون الذين لا يشاركون الذات نفس الإنتماء الثقافي
الحضاري أو العرقي. فالآخر بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية مثلا هو الغرب
بثقافته وحضارته المتميزتين.
يظهر من ذلك أن الغير يتحدد في جميع الأحوال
بالسلب. فهو من ليس الذات أو الأنا، ومن ليس الأقارب، ومن ليس النحن، وهذا التحدد
السلبي للغير يبين أن مدلوله مجرد، إذ لا يشير في الواقع إلى فرد أو جماعة بعينهما
يعتبران آخرين، أي مختلفين عن الذات وأقاربها. كما أن تعدد مرجع دلالة الغير يجعل
معناها نسبيا متغيرا، بحيث يشمل، حين يتحدد بالقياس إلى الذات، كل الآخرين الأقارب
والأباعد معا، وينحصر، حين يتحدد بالقياس إلى الأقارب بالمعنى الاجتماعي أو
الثقافي، في الآخرين الأباعد (الأجانب، الغرباء مثلا) فقط. ولعل هذا هو ما يفسر تنوع
المواقف من الغير وتناقضها أحيانا. فنحن نجد، على الأقل ، ثلاثة نماذج لهذه
المواقف: موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث، حين يتخذ الغير وجه المجهول النكرة، وموقف
المواجهة الرمزية أو الملموسة، حين يأخذ الغير وجه المنافس الخصم أو العدو، إذ
يحكم العلاقة مع الغير في هذه الحالة مبدأ: «إن لم تكن مثلي أقصيتك أو قتلتك».
وأخيرا موقف التآخي حين ينظر إلى الغير بوصفه شبيها للذات ومساويا لها في الجوهر
أو الطبيعة البشرية، بحيث تقوم العلاقة مع الغير حينئذ على مبدأ «أحب لغيرك ما تحب
لنفسك»، أو ما يماثله.
وهكذا يتبين أن الدلالة المشتركة للغير ملتبسة
ومختلطة. وربما يعود ذلك إلى الخلط وعدم التمييز بدقة بين معنى الغير ومعنى الأخر،
إذ يردان في هذه الدلالة مترادفين وكأن معناهما واحد. لذلك يبدو أن السبيل الأول
لتجاوز هذا الخلط واللبس هو الوقوف عند الدلالة المعجمية اللغوية للفظي الغير
والآخر.
يقدم لسان العرب لابن منظور
التحديدين التاليين للغير والآخر: "غير حرف من حروف المعاني تكون نعتا،
وبمعنى لا... وقيل غير بمعنى سوى، والجمع أغيار. وهي كلمة يوصف بها ويستثنى...
وتغير الشيء عن حاله تحول... والغير الإسم من التغير... وتغايرت الأشياء اختلفت"
و"الآخر بمعنى غير كقولك رجل آخر وثوب أخر.»
يبدو من الدلالة المعجمية
العربية للفظي الغير والآخر أن لهما نفس المعنى وهو: المخالف
اين اختلافا كليا أو جزئيا ، مكانيا أو زمانيا .
اين اختلافا كليا أو جزئيا ، مكانيا أو زمانيا .
والغير Autrui في الدلالة المعجمية الفرنسية
مشتق مباشرة من الجذر اللاتيني Alter الذي يعني الأخرL’autre. ويتحدد معنى الغير في هذه الدلالة المعجمية كما يلي: «الغير، هم
الأخرون من الناس بوجه عام». (معجم روبير) ، والآخر هو: «من ليس نفس الشخص، وما
ليس نفس الشيء، والمتميز... والمختلف...» (نفس المرجع).
وإذا كان يظهر في هذه الدلالة
المعجمية الأخيرة تمييز واضح بين الغير بوصفه الآخر البشري وبين الآخر بوصفه
المختلف بوجه عام، بحيث يشكل الغير تخصيصا وتضييقا لمعنى الآخر، على عكس الدلالة
العربية التي ترادف بينهما، فإن ارتباط معنى الغير بمعنى الآخر سواء كمرادف له أو
كمشتق منه، يجعله ملتبسا ومختلطا يتداخل فيه معنى الإختلاف المطلق مع معنى
الإختلاف النوعي (اختلاف نوعين يشتركان في جنس واحد)، بحيث لا يميز بدقة ووضوح بين
اختلاف الأنا عن الآخرين من الناس، وبين اختلاف الأشياء والموضوعات، فيختلط الغير
أو الآخر البشري بالأشياء والموضوعات الخارجية، إن لم يكن في المستوى العملي ففي
المستوى التمثلي على الأقل.
على عكس ذلك يتحدد الغير والآخر
في مستوى الدلالة الفلسفية على نحو دقيق يسمح بتكوين مفهوم غير ملتبس للغير:
«الغير هو اخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا بل بوصفه أنا أخر... إنه الآخر
الذي يتجلى ضمن علاقة تعايش معطاة، ويحيل على إمكانية تماه أو تطابidentification. إنه الأنا الآخر تا Alterego أنا غريته متضايفة مع تماهيه و
تطابقه معي.
وبعبارة أوجز : « الغير هو الآخر، الأنا الذي
ليس أنا.» (سارتر ، الوجود والعدم). في مقابل ذلك يدل الآخر على مفهوم غير قابل
للتعريف لأنه «أحد المفاهيم الأساسية والأولى للفكر.» ( معجم الالاند ). فلا يتحدد
مفهومه إلا بوصفه: «مقابلا اللهوهو le même، بحيث إن كل شيء هو بالنسبة إلى كل شيء إما مطابق (هوهو)
وإما مخالف.» (أرسطو، الميتافيزيقا، مقالة الياء، 3. b1054).
ينتج من هذه الدلالة الفلسفية أن
الغير هو في نفس الوقت أخر وليس آخر، مخالف ومطابق، أناً ليس أنا، أو أنا آخر مثلي.
هنا تبرز المفارقة الرئيسية التي تؤسس إشكالية الغير كما ستتحدد فيما بعد. ومنبع
هذه الإشكالية يكمن في مفهوم الأنا le moi. ذلك لأن الأنا في معناه الفلسفي هو الذات المفكرة le sujet
pensant العارفة
لنفسها في مقابل الموضوعات les objets التي تتميز عنها وعن فعل تفكيرها، وخاصة حين تتخذ شكل
أشياء choses خارجية مادية محسوسة. ويعني الأنا من الوجهة النفسية
الوعي la conscience الذي تملكه الذات عن فرديتها.
وإذ يقابل الأنا بهذين المعنيين الموضوع أو الشيء بمعناهما الموضوعي الخارجي
المادي، فإنه يحمل دلالة أخلاقية قيمية. ذلك لأن الأنا، إذ هو ذات مفكرة واعية،
فهو شخص يتمتع بالإرادة والحرية والتلقائية، على عكس الموضوعات والأشياء التي تخضع
لمبدأ العطالة وتفتقر إلى الوعي والحرية والتلقائية، ومن ثم تكون وسائل في يد
الذات، بينما يشكل الشخص غاية في ذاته يستدعي الاحترام كما يقول كانط.
من هنا يتبين
أن الأنا لا يكون أنا إلا إذا كان حاضرا إزاء ذاته وفي علاقة مباشرة مع ذاته، أي إلا
إذا كان وعيا، أو شخصا، فاعلا بإرادة وحرية وتلقائية. وفي هذه الحالة تظهر المفارقة
في مفهوم الغير بوصفه أنا أخرى غيري، أنا خارجا عني. إذ كيف أعرف حينئذ هذا الأنا الآخر،
إذا كانت معرفة الأنا معرفة مباشرة؟ ألا يفقد الأنا الآخر، حين أعرفه صفته كأنا ويصير
موضوعا مثل بقية الموضوعات والأشياء الخارجية؟ وكيف يمكن أن أتأكد من وجوده كأنا إن
كنت لا أعرفه إلا كموضوع؟ وإذا كان الوجود البشري يقتضي التواصل بين الذوات ، فكيف
يمكن أن يتحقق هذا التواصل إن كانت معرفة الغير مستحيلة دون تحويله إلى موضوع؟ ألا
يؤدي التواصل مع الغير إلى فقدان الأنا الآخر (الغير) لحريته وتلقائيته أمام الأنا
الذي يعرفه بوصفه آخر مختلفا غريبا تقوم بينه وبين الأنا حواجز ووسائط مادية وثقافية؟
وهل يمكن تكسير هذه الحواجز والتواصل بين الأنا والغير دون تشيء أو استلاب أو عنف؟
المرجع: الكتاب
المدرسي المغربي : الفكر الإسلامي والفلسفة 2006.
0 تعليقات