ملامح التفكير الفلسفي بالمجتمع المغربي
( مقاربة سوسيولوجية )
بقلم: حمزة المليح، باحث في علم الاجتماع - المغرب
شكل مفهوم المتخيل لدى العديد من المغاربة بإختلاف مشاربهم وإنتماءاتهم ،
قاعدة أساسية في التحليل الواقعي للنمط الإجتماعي ، ورغم أن هذا المفهوم نقيض لما
هو واقعي في الأصل ، إلا أن النسق السوسيوثقافي بالمجتمع المغربي ينطلق بالأساس ، في
رؤيته للوقائع والأحداث ، وكذا في إستشفافه للمعارف وإستكناهها ... من المقاربة
التاريخية التي تنظر للتراث بمنطق العين الواحدة ، وتقطع بالمقابل مع كل ما هو
موضوعي وعقلي ، وتمجد الدلالات الرمزية للمتخيل الشعبي الراسخ في روح المجتمع .
ومن الناحية
السيكولوجية " يتجسد المتخيل بالمعنى
الحقيقي لكلمة تجسد ، في لحظة معينة من حياة الفرد ، ربما تكون هي الحدث الوحيد الذي يمكن
تحديده بما هو كذلك في المتن التحليلنفسي[1]
،
فعندما نتحدث عن الفكر الفلسفي داخل الاوساط الشعبية المغربية ، نجد أن معظم
التفسيرات حوله كانت ولازالت رهينة إنغلاق وإنسداد إبستيمي في أفق التجديد العقلي
، فتعريفهم للفلسفة أو التفكير الفلسفي ينطلق من مبدإ الثقافة الشعبية التي تتيح
قدرا من التفاعل الإجتماعي بين أفرادها ، وفقا للخلفية القيمية والرمزية لهم ، وكذلك وفق البنية النفسية الكامنة في لاشعورهم الباطني .
هكذا نجد بأن الفلسفة أمست عرضة للنكتة المغربية ومصدرا لزلات اللسان المرتبطة بالخلافات والشجارات التافهة بين الأفراد ، فصار ذلك الأرعن الذي يجيد فن الكلام الفارغ بؤرة للتفلسف وعمقا له ، حتى قيل في من أكثر الحديث والغوغاء " باراكا ما تفلسف علينا " .
والحقيقة أن " هذه الضروب من السلوك والتفكير لا
توجد خارج شعور الفرد فقط ، بل إنها تمتاز أيضا بقوة قاهرة آمرة ، هي السبب في
أنها تستطيع أن تفرض نفسها على الفرد ، أراد ذلك أو لم يرد [2]
، مادام المجتمع هو الذي يقرر سلوكاته وتمثلاته للأفكار والأشياء . من هذا المنطلق
بالذات ندرك بأن الفلسفة كنمط من المعرفة لا ترى في المجتمع المغربي بعين التقدم
والتجديد ، بل بعين الجمود والتخلف المستمد من نظرة الآباء والأجداد حول هذا النمط
المعرفي ، بسبب بعض الإرهاصات التاريخية ـ السياسية ـ التي مر منها المجتمع
، وكذا لما يتشربه الأفراد من عملية التنشئة الإجتماعية ، التي تلعب دورا حاسما في
تشويه البنية النسقية للحقائق الإجتماعية التي يتلقاها الفرد عند احتكاكه بالمعرفة
الفلسفية ، حيث تصبح الشخصية عبارة عن " تمظهر وتجل وتعبير عن المشترك بين
النفسي والإجتماعي لدى الفرد الذي يتشرب سيكولوجية مجتمعه ، ليبني سيكولوجيته
الشخصية ، فالجماعة التي ينتمي إليها تظل حاضرة داخله مهما ادعى التملص منها [3]
. ولعل هذا ما أدى بالفلسفة ـ كأرقى أشكال التعبير الإنساني ـ إلى السقوط في
دوامات المتخيل الشعبي المغربي ، المنبثق من النظرة الماضوية للأشياء ، حتى أصبح
الفكر الفلسفي بمثابة علم باطل لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولعل السبب وراء هاته
الظنون الخاطئة هو إيمانهم بمعتقدات
وإيديولوجيات فاسدة هدفها الأسمى اغتيال العقل المغربي المبدع ، في ظل غياب القدرة
على مواكبة التقدم والعمل على تغييب الأفكار التجديدية والنهضوية .
ويمكننا أن نلمس هذا الإعتقاد الخاطئ في منظومتنا
التعليمية السابقة ، فقد إقترفنا خطأ فادحا حين قمنا بتهميش الجزء المتعلق بالفلسفة والمنطق ، حيث
قلصنا من كل ما يغني الحس النقدي البناء لدى الطالب والتلميذ المغربي ، وذلك بحجة
أن الفلسفة تساهم في نشر الإلحاد وطمس القيم الأخلاقية الدينية ، وأن المنطق
الأرسطي هو السبب في تخلف العلوم والنظرة العلمية العربية ، وبهذا فقد " عمد
بعضهم إلى قلب الحقيقة ، جاعلين من الضعف قوة ومن النقص كمالا ، فينسبون إلى العقل
ما كان ينسب إلى نقيضه ـ أي الجهل ـ [4]
، معتبرين أنفسهم دعاة الإصلاح و نور الهدى ، وتقوى الفكر والمعرفة .
وبالتالي كانت النتيجة أن أدرنا رؤوسنا إلى الوراء ودخلنا في سرداب معتم ونفق مظلم قادنا في آخر المطاف إلى شلل فكري شعاره اللا إبداع .
إن
زعزعة المتن السوسيو-سيكولوجي لفكرانية الأشخاص ، تنتج لنا مجتمعا متخبطا في
تناقضات أفكاره ، فالقوة السياسية و السلطة التنظيمية حينما تحضر في المجتمع
بطريقة عكسية و منحرفة عن أهدافها الأساسية ، تعطل مسار الأفكار النورانية في جسد
المجتمع ، فيتأخر النمو المعرفي والعقلي لذا الأفراد ، وتتمثل لديهم المعارف
والسلوكات والأحكام على نقيضها . لكن سيرورة التعطيل هاته لا يمكن لها أن تستمر ما
دامت قد بنيت على صرح الباطل ، " فالفكرة عندما تخرج إلى النور فهي إما صحيحة
أو باطلة ، وحينما تكون صحيحة فإنها تحتفظ بأصالتها حتى آخر الزمان ، لكنها
بالمقابل يمكن أن تفقد فعاليتها وهي في طريقها حتى ولو كانت صحيحة [5]
، وكذلك الفكرة الفلسفية ، يمكن لها أن تنقطع لبعض الوقت في مجتمع ما ، لكنها
تعاود النهوض مجددا وبقوة أكثر من السابق .
ولهذا فقد أريد لدروس الفلسفة في الماضي أن تلعب دور
إبعاد الناس عن دينهم ، والحقيقة وراء هكذا إتهام هو إنتاج الإنسان الفاقد للقدرة
على التمييز وتفعيل العقل بالشكل المناسب . ونتيجة للتشدد الأعمى حرص الفكر الإسلامي
والدراسات الإسلامية – سابقا – على إعتماد مناهج وبرامج هدفها إبعاد الطلبة عن ممارسة التفكير
الحر المستند إلى مبدإ النقد ، وكأن العالم الإسلامي لم ينتج فطاحلة الفكر
والفلسفة ، " ولو تأملوا هؤلاء الأشخاص الذين حاولوا إزاحة الفكر الفلسفي
وعقلوا " لعلموا أن من لا قديم له ، لا جديد له ، وأن الشرف والنبل يرجعان
إلى عراقة الأصل ، وأن أفخم البنيان يشاد حتما على أمتن أساس[6]
ذاك الأساس الذي خلفه السابقون من فلاسفة
الإسلام .
إن لله وهو الحق العليم ، قد منح الإنسان ملكة العقل البرهاني ـ الرباني ـ ، لإخراجه من دوامات الجدل
العرفاني الكلاسيكي ، بمعنى أن وظيفة العقل الإنساني تقتضي منطق التفاعل الكوني مع
ظواهر الأشياء وتجلياتها في الكون ، فالمجتمع لا يقوم إلا من خلال التفاعل الإجتماعي
بين أفراده ، ذلك التفاعل الذي يقوم على أساس القوة العقلية والأخلاقية ، وإن
الفيلسوف هو الشخص الوحيد الذي يستطيع " الكشف عن إستبصارات يكون العالم
مدينا لها على الدوام [7]
، ولهذا لا يصح أن ترشق
الفلسفة – كلما تسنت
لنا فرصة الحديث عنها – بأسهم الجهل والتضليل ، فإذا كانت الشريعة الإسلامية تخدم مصالح
الناس العامة فإن الفلسفة تخدم العقل الإنساني وتنميه ، وتخرجه من وحل
الإيديولوجيات الفاسدة بالبحث والتفكر والتأمل… في الكون
ومن عليه .
والحقيقة أن المجتمع المغربي مجتمع غير مبال ،
فمعظم تفكيره مقترن بالأساس في صعوبة عيشه ، إنه مجتمع يحتاج إلى روح الفيلسوف ، إلى من يندهش ويسأل ويستغرب ،
لا إلى من يقضي يومه بالتفكير في كيفية تحصيل لقمة العيش، والتلهف لإشباع شبقه الجنسي . فعامة المغاربة لا يتخذون
موقفا من الحياة ، فقد تعودوا على الأشياء لدرجة أنهم فقدوا الحس النقدي الذي
يرتكز على مبدأ التساؤل والإندهاش . إن الشباب
المغربي اليوم ـ وبدون تعميم مسبق ـ شباب
غير مبال ، يستهلك أيامه بدون حماس ، يبتعد كل يوم عن دائرة العلوم والمعارف ،
" والشعب بغير هدى المعرفة ، جمهور بغير نظام ، هو بذلك كالرغبات بغير نظام ،
أو القطيع بغير راع ، إن الشعب يحتاج إلى هدى الفلاسفة كما تحتاج الرغبات إلى ضوء
المعرفة [8]
، ولهذا نحتاج إلى التفكير الفلسفي
بإعتباره تفكيرا نقديا يسلك طريق السؤال والشك لنتذوق الطعم الحقيقي للحياة.
إن
أهم ما يمكن الخلوص إليه ، هو أن إشاعة الفلسفة وتعميمها في المجتمع المغربي ، يتطلب
بعد الإرادة السياسية الجادة والملحة ، إدراكا ووعيا بأهمية البعد السوسيوـ ثقافي ودوره
، في مقاربة الوضع التفاعلي بين : الفلسفة كمعرفة ، والمتعلم ، وتمثلاته القبلية ، الناتجة عن
سيرورة التنشئة الإجتماعية . والمخلفات التاريخية التي تحيط بالأفراد من كل جانب. ولن
يتم ذلك إلا من خلال إعادة بناء النسق الفكراني للتحليل الرمزي لبنية المتخيل
الشعبي عند التلميذ الدارس للفلسفة .
[1] ـ
كاترين كليمان ـ التحليل النفسي ـ تعريب محمد سبيلا ـ نحمد أحجيج ، منشورات الزمن
، سلسلة ضفاف ـ ص 56
[4] ـ طه
عبد الرحمان ـ سؤال الأخلاق ، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ـ المركز
الثقافي العربي ، ص 13
[5] ـ مالك
بن نبي ـ مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ـ ترجمة بسام بركة ، واحمد شعبو ـ أفاق
معرفية متجددة ، ص 103
المراجع المعتمدة :
§ كاترين كليمان ـ التحليل النفسي ـ تعريب محمد سبيلا ـ نحمد أحجيج ، منشورات الزمن ، سلسلة ضفاف .
§ إميل دوركايم ـ قواعد المنهج في علم الإجتماع ـ ترجمة محمود قاسم ، دار المعرفة الجامعية ، 1988 .
§ عبد الرحيم تمحري ـ شخصية المدرس المغربي ، الهوية والتوافق ـ تقديم أحمد أوزي ـ منشورات مجلة علوم التربية ، العدد 34 .
§ طه عبد الرحمان ـ سؤال الأخلاق ، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ـ المركز الثقافي العربي .
§ مالك بن نبي ـ مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ـ ترجمة بسام بركة ، واحمد شعبو ـ أفاق معرفية متجددة .
§ مصطفى لطفي جمعة ـ تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب ـ دار العلم والمعرفة .
§ وليم كلي رايت ـ تاريخ الفلسفة الحديثة ـ ترجمة محمود سيد أحمد ، دار التنوير ـ بيروت .
0 تعليقات