محاور المقالة:
مقدمة:
· أولا- البنية الإشكالية للمنهاج الخفي
· ثانيا: من المنهاج الدراسي إلى المنهاج الخفي
2/1/ تعريف المنهاج الدراسي.
2/2/ تعريف المنهاج الخفي:
2/3/ نحو منهج جديد لبناء مفهوم موضوعي للمنهاج الخفي:
2/4/ جدل الواقعي والنظري:
2/5/ المنهاج الفعلي بوصفه نتاجا طبيعيا للتجربة التربوية:
2/6/ المنهاج الخفي صيغة معقدة من العلاقات التربوية:
· ثالثا: المنهاج الخفي في منظور الطلاب:
· رابعا: المنهاج الخفي بوصفه ممارسة غامضة:
· خامسا: مكمن الخفاء في المنهاج الخفي؟
· سادسا: الأبعاد الأيديولوجية والطبقية للمنهاج الخفي:
· سابعا: المنهاج الخفي معادلة طبقية:
· ثامنا: مكانة المنهاج الخفي في السياسيات التربوية:
· عاشرا: المخادعات الأيديولوجية: لماذا التخفي؟
· حادي عشر: الأبعاد الأيديولوجية:
· ثاني عشر: استراتيجيات خفية: إقصاء واحتواء.
· ثالث عشر: مواقف راديكالية: إلغاء المدرسة.
· رابع عشر: آليات الترويض والقهر في المنهاج الخفي: تقاسيم الزمان والمكان.
· خامس عشر: التفاعلات الطبقية: رسائل خفية.
· سادس عشر: التسلط والقهر:
· رؤية إجمالية: نحو وعي تربوي بالأدوار الأيديولوجية والطبقية للمدرسة:
مقدمة:
ما زال قائما في الوعي العام أن المدرسة تأخذ منحاها الأوحد في عملية النهوض بالأطفال وتنميتهم روحيا وعلميا وأخلاقيا، وقد تكون هذه الفكرة إحدى أكبر المخادعات الأيديولوجية وأكثرها دهاءَ في تاريخ الحياة التربوية المعاصرة إذ مهما تكن عظمة الدور التربوي الذي تؤديه المدرسة في حياة الناس والأفراد فإن ذلك يجب ألا يحجب عن إدراكنا الطابع الإشكالي للدور الطبقي والأيديولوجي الذي تؤديه المؤسسات المدرسية في حياة الشعوب والأمم. ومما لا شك فيه أن المدرسة تطلق طاقات الأمم وتبعث فيها إرادة العلم والمعرفة، ولكنها في الوقت نفسه تؤدي دورا آخر يتمثل في تأصيل التمييز الاجتماعي والفرز الطبقي بمعايير أيديولوجية وتربوية محكمة. فالمدرسة لا يمكنها عبر وظائفها وممارساتها أن تتجرد من دورها الطبقي والأيديولوجي، حيث تأخذ في جلّ ممارساتها وفعالياتها التربوية طابعا طبقيا يتصف بالدهاء الأيديولوجي الذي يرتسم في منظومة فعاليات صامتة تعمل على ترويض المدرسة رأسماليا وتحويلها إلى صيغة قادرة على التجاوب مع تطلعات الطبقات الرأسمالية التي تحكم مسار الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع محدد.
فالمدرسة تطلق الحياة التربوية وتفجر طاقات التلاميذ وفقا لهامش الحرية الذي تسمح به احتياجات التقدم الرأسمالي، إنها تطلق العقل والمواهب والقدرات بمعايير برجوازية ورأسمالية، وهي بالتالي تؤدي إلى حراك اجتماعي أفضل ولكن بقدر ما تسمح به متطلبات الحياة الاجتماعية للمجتمع البرجوازي نفسه. ولكنها في هذا الأمر تعطي – بحكم الضرورة - الطبقية الأفضلية دائما لهؤلاء الذين يحتلون الدرجة الأقرب من سلم الطبقات السائدة في المجتمع. وهذا يعني أن خيرات المدرسة غالبا ما تحط رحالها في أحضان أبناء الطبقات الاجتماعية العليا في المجتمع دون غيرهم من أبناء الفئات الاجتماعية المهمشة التي تحتل مكانها تناسبيا في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي. وكل هذا يتم بأواليات وإجراءات وعمليات وفعاليات تربوية ذكية خفية مراوغة تتمثل في المنهاج الخفي الذي أخضعناه للنقد فحددنا معالمه ورسمنا حدوده وعيّنا تطلعاته.
في تحليله للأنظمة التربوية القائمة يكتشف دوركهايم بعبقريته السوسيولوجية المعهودة عن أسرار وخفايا الأنظمة التربوية القائمة في عصره، ويبرهن على حضور فلسفات تربوية مضمرة في صورة مفاهيم وتصورات خفية تقوم بتوجيه الفعالية التربوية في المؤسسات التعليمية، وهو في بيانه هذا يرى أنه ليس صحيحا أننا نربي أطفالنا كما نريد نحن، فنحن مكرهون على اتباع القواعد التربوية السائدة في إطار الوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه؛ لأن الرأي العام يتطلب منا أن نأخذها بعين الاعتبار، والرأي العام يشكل قوة أخلاقية ويمارس سلطة ثقافية موازية في قوتها - بالمعنى الاجتماعي- للضغط الذي تمارسه القوى الطبيعية، ونحن لا نستطيع إزاء هذه القوة الأخلاقية للسلطة التربوية إلا أن نخضع لها ونذعن لمقتضياتها([1]).
لقد شكلت مقولات دوركهايم عن الفلسفات التربوية المضمرة في الحياة التربوية والمدرسية منطلقا منهجيا للتفكير العلمي في مضامين الرسائل الصامتة للمدرسة وفي فعالياتها الخفية، ومنطلقا للتأمل في الجوانب الخفية للعملية التربوية بأهدافها وغاياتها، ولم يتأخر الوقت كثيرا حتى بدأت الدراسات والأبحاث التربوية والاجتماعية تنطلق للكشف عن المضامين الصامتة والخفية في المؤسسات التربوية، وقد مهدت هذه الدراسات لولادة مفهوم المنهاج الخفي (Hidden Curriculum) على يد الباحث الأمريكي جاكسون في عام 1968، حيث شكل هذا المفهوم محورا وعنوانا للبحث الاجتماعي التربوي في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أخذ يحتل مكانه المميز في مجال العلوم التربوية المعاصرة ولاسيما في مجال علم الاجتماع التربوي المعاصر.
وقد تعاقبت جهود كثير من الباحثين على أثر جاكسون في هذا الميدان، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أعمال كل من دريبان R. Dreeban، وسندر B. Synder، ولاكومسكي G. Lakomski، وآسور A. Assor، وجوردن D. Gordon، وجيروكس H. Giroux، وبيربل D. Purpel، وشافير I. Cheffier .
وتؤكد هذه الأعمال أن المنهاج الخفي يمارس دوراً لا نظير له من حيث الأهمية والخطورة في العملية التربوية، وهو بتأثيره هذا يفوق كثيرا التأثير الذي يؤديه المنهاج الرسمي في المؤسسات التعليمية، ويتجلى دور المنهاج الخفي فيما يقدمه من خبرات هائلة للطلاب في مجال القيم والاتجاهات والمعاني في مختلف مناحي السلوك الحياتي والاجتماعي. وهذا ما يؤكده الباحثون الضالعون في هذا الميدان، وهو ما يذهب إليه دافيد جوردن (Gordon, 1982) بقوله:
"إن المنهاج الخفي ذو فعالية وتأثير أقوى في تشكيل التلاميذ من المنهاج الصريح، لأنه يؤدي دوراً كبيرا في تربيتهم دينياً واجتماعياً وسياسياً"([2]).
لقد اتسعت مساحة الدراسات الجارية في حقل المنهاج الخفي في المدرسة، ورافق هذا التوسع نوع من الجدل العلمي المتواتر حول ماهية المنهاج الخفي في المدرسة بمعطياته وتكويناته ومنهجياته، وأدى هذا الجدل الكبير إلى ولادة اتجاهات متعددة المرامي حول طبيعة المنهاج الخفي وبنيته ووظائفه التربوية. ومن أهم الاتجاهات الفكرية السائدة يمكن الإشارة إلى الاتجاه الوظيفي، والاتجاه الليبرالي، والاتجاه النقدي؛ حيث يركز الاتجاه الوظيفي على أهمية المنهاج الخفي في تحقيق التوازن والضبط الاجتماعي من أجل سير أفضل وظائفي وبنيوي، ومن ثم التركز على قيم الطاعة والضبط والالتزام والمعيارية والتطويع وذلك في اتجاه تعزيز الوضعيات الاجتماعية القائمة. أما الاتجاه الليبرالي فيؤكد أهمية المنهاج الخفي في تأصيل الإبداع والقيم الحرة والفردية والقدرة على المشاركة. أما الاتجاه النقدي فيرى أن المنهاج الخفي يؤدي دورا طبقيا في إقصاء أبناء الطبقات الفقيرة في المجتمع وتغييب العدالة الاجتماعية وتأكيد قيم التسلط والإكراه والترويج للأيديولوجيات التسلطية في المجتمع.
وفي مدار هذا التنوع الفكري، يركز بعض الباحثين في دراستهم للمنهاج الخفي على العلاقة بين الطالب والمعلم، ويؤكدون في سياق ذلك أهمية سلوك المعلم في حفز عمليات التعلم الخفي وتعزيز معطياته التربوية، ويذهب فريق منهم إلى الاعتقاد أن ممارسة المعلمين التربوية من أشد العوامل تأثيرا في المنهاج الخفي وذلك لما يمتلكونه من توجهات أيديولوجية وفكرية؛ وعلى خلاف ذلك هناك مجموعة أخرى من الباحثين تؤكد أهمية أنظمة المعايير والقيم والأعراف التي تفرضها المدرسة على المنتسبين إليها، وهناك فريق آخر يركز على أهمية الوسط المدرسي بما يتضمنه من دوائر تتعلق بأثاث المدرسة وبنيتها الفيزيائية التي تمارس دورا كبيرا في تأصيل قيم ومفاهيم المنهاج الخفي[3].
أولا- البنية الإشكالية للمنهاج الخفي
شكلت الدراسات الجارية حول المنهاج الخفي تراثا فكريا يتميز بالخصوبة والعطاء، واستطاعت هذه الدراسات أن تسقط الأقنعة عن خفايا الحياة المدرسية، وأن تسلط الضوء على مختلف المناحي والاتجاهات الغامضة فيها. وقد شكل مفهوم المنهاج الخفي أداة تحليل متميزة في الكشف عن الغامض والمستتر والمضمر والخفي والمتكتم واللاشعوري واللامقصود والعفوي والإيحائي والرمزي في الحياة المدرسية. ولكن هذا التنوع الكبير في الدراسات والخلفيات التربوية أدى إلى نوع من الفوضى والبلبلة في تقديم مفهوم المنهاج الخفي بصورة واضحة بيّنة المعالم، فعلى الرغم من التعريفات الكثيرة التي قدمت للمنهاج الخفي فإن هذا المفهوم بقي ضامرا وغامضا وملتبسا في أكثر الأحيان.
وقد بينت الملاحظة العلمية، أن الدارسين في مناحي هذا المنهاج، كثيرا ما يصابون بحالة من الدوار العلمي، عندما يجوبون في رحاب هذا المفهوم، وعندما يتحركون في مناحيه الغامضة، ودهاليزه المتعرجة؛ ومن اللافت أحيانا أن درجة الغموض في المفهوم تزداد كلما تقدم القارئ وازداد في الاطلاع على الدراسات الجارية في هذا الميدان، وذلك نظرا للتعدد والتنوع والفوضى الفكرية التي تعانيها الدراسات الجارية في مسار تقديمها لمفهوم المنهاج الخفي؛ ومما لا ريب فيه أن هذا الغموض يعود في بعض وجوهه إلى التنوع الفكري والأيديولوجي في مشارب الدارسين والباحثين الذين يكرسون جهدهم لاستجلاء هذه المسألة العلمية.
وإذا كانت هذه الإشكالية تضرب جذورها في الفكر التربوي الغربي المعاصر، فإنها تعاني درجة أكبر من الغموض الإشكالي في الدراسات العربية الجارية على قلتها وندرتها. فالدراسات العربية الجارية تعاني في حقيقة الأمر فوضى فكرية تنم عن قصور كبير في السيطرة على منابع الفكر العالمي في مجال الدراسات الجارية حول المنهاج الخفي.
وإذا كنا ننطلق في دراستنا هذه من فرضية الغموض في مفهوم المنهاج الخفي والالتباس في دلالاته النظرية، فإننا نعتقد أن هذا الغموض ناجم بالدرجة الأولى عن المنهجية العلمية التي يعتمدها الباحثون، كما أنه ناجم عن غياب القراءات النقدية حول معطيات الفكر المتقدم في هذا الميدان.
وعلى الرغم من أهمية الجهود العلمية المبذولة حول المنهاج الخفي في الدارسات العربية، فإن هذه الدراسات ما زالت حتى اليوم تدور في فلك التعريف بالمنهاج وتحديد مراميه، دون حدود الخوض النقدي في ملابساته العلمية وخلفياته الأيديولوجية والفكرية.
وتأسيسا على ما تقدم فإن محاولتنا العلمية هذه تريد أن تحقق نقلة نوعية في تقصي هذا المفهوم، وتجاوز حدود التعريفات المحضة إلى أفق التحديدات النقدية في سياق منهجي تاريخي، وهذا طموح علمي يتطلب تجاوز الخطاب المدرسي الكلاسيكي حول مفهوم المنهاج الخفي وإشكالياته التربوية الاجتماعية. وتأسيسا على هذه الرؤية الطموحة فإن الدراسة الحالية تحاول أن تقدم تصورا نقديا للمفهوم في سياق فكري تاريخي ومنهجي عميق الدلالة بأبعاده الأيديولوجية وخفاياه الفكرية.
وإذا كان تعريف المفهوم يعاني إشكالية واضحة المعالم والتكوينات، فإن هذه الإشكالية تمتد لتشمل منهجية تناول الظاهرة نفسها بأبعادها وخلفياتها الاجتماعية والسياسية، فالدراسات الجارية غالبا ما تتناول هذه الظاهرة في غير ما سياق اجتماعي، حيث تعالج المنهاج الخفي دون الكشف عن المرامي الطبقية والاجتماعية والإيديولوجية للمنهاج الخفي في المدرسة وفي غيرها من المؤسسات التربوية، حيث تعلن هذه الدراسات عن وجود المنهاج الخفي وتدرسه بوصفه فعالية طبيعة عفوية ناجمة عن طبيعة الحياة التربوية، وذلك دون أن تعرّف بالخلفيات الطبقية والأيديولوجية التي تحكمه وتوجه مساره، ودون أن تضع هذا المنهاج منهجيا في سياقه التاريخي والوظيفي والطبقي. ففي معظم الأحيان، إن لم يكن في مطلقها، لا تقدم هذه الدراسات تفسيرا عن سبب كون المنهاج الخفي خفيا في المدرسة، وهذا يعني أنه غالبا ما يتم تناول المنهاج الخفي بوصفه ناتجا عفويا غير متوقع في الحياة المدرسية. وهنا تكمن الإشكالية الكبرى في الدراسات الجارية حول هذا الموضوع. وتأسيسا على هذا التصور الإشكالي سنعمل -على خلاف ما هو قائم وسائد في الأدبيات الجارية - على تحديد الأبعاد والتوجهات الطبقية والأيديولوجية للمنهاج الخفي، ومن ثم سيتم العمل على تحديد الغايات البعيدة المدى التي توجه فعالياته والأصابع الخفية التي تحرك مساراته وترسم حدوده وأبعاده.
وتأسيسا على ما تقدم فإن ما نقدمه في هذا الفصل يمثل محاولة علمية جادة لتقديم تصور علمي لمفهوم المنهاج الخفي يتسم بالجدة والأصالة النقدية، ويكون قادرا على تجاوز التصورات التقليدية التي بنيت في المراحل السابقة من البحث العلمي حول المفهوم ذاته. كما سنعمل على تقديم مكاشفات نقدية للدور الطبقي والأيديولوجي الذي يمارسه هذا المنهاج الخفي في مسار الحياة التربوية، ونحن نعتقد - من حيث المبدأ - أنه لا بد من إعادة النظر في التكوينات العلمية للمفهوم وفقا لمنهجية جديدة تحررنا من أسر الرؤى والتصورات التقليدية الجارية في هذا الميدان. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن إشكالية السياق كامنة في إشكالية التعريف السائد لمفهوم المنهاج الخفي بوصفه حادثا عفويا وناتجا ثانويا من نواتج التعليم في المدرسة، حيث نريد أن نقول في هذا السياق إن المنهاج الخفي نظام تربوي جوهري وأصيل في الحياة التربوية والمدرسية، وإنه ليس أبدا حادثا عفويا أو ناتجا ثانويا في الحياة التربوية والمدرسية، وهو نظام طبقي أيديولوجي هادف ومنظم رافق ظهور المدرسة وما زال يحدد مساراتها الطبقية والإنسانية. ويمكن تأسيسا على ما تقدم أن نرسم حدودا واضحة لإشكالية المنهج الخفي في ثلاثة محاور:
· أولا: المنهاج الخفي ليس نتاجا ثانويا أو عفويا يولد في رحم الممارسة التربوية والمدرسية، كما تذهب معظم التحديدات العلمية لهذه الظاهرة، بل هو تعبير أيديولوجي منظم وهادف وغائي يصدر عن إرادة طبقية وسياسية تعمل على توجيه الحياة المدرسية نحو غايات أيديولوجية واجتماعية محددة.
· ثانيا: لقد أدى الاعتقاد بعفوية المنهاج الخفي بوصفه فعلا صادرا عن فعاليات غير متوقعة في داخل المدرسة إلى تجاهل التأثير الكبير للقوى الاجتماعية التي تريد للمدرسة أن تسير على نهج تربوي محدد بنتائج تربوية ومدرسية مأمولة ومرغوبة.
· ثالثا: المنهاج الخفي يمثل الأداة الطبقية الأنجع في توجيه الحياة التربوية في المدرسة نحو مزيد من الهيمنة والسيطرة للطبقات البرجوازية السائدة وتحقيق مصالحها الطبقية.
ومن أجل تحقيق الوضوح المنهجي في تناول هذه القضية فإنه يمكننا طرح مجموعة من الأسئلة المنهجية التي ترتبط بإشكالية المنهج الخفي وتعبر عن أبعاده:
1- ما المنهاج الخفي وما مكوناته وعملياته وأبعاده ؟
2- هل يمكن تجاوز التصورات الكلاسيكية القائمة حول المنهاج الخفي وبناء تصور موضوعي آخر لمفهوم المنهاج الخفي ووظيفته الأيديولوجية والاجتماعية؟
3-ما الأبعاد الأيديولوجية للمنهاج الخفي؟ وما الدور الطبقي الذي يؤديه هذا المنهاج في الحياة التربوية للمؤسسات التعليمية؟
ثانيا: من المنهاج الدراسي إلى المنهاج الخفي
2/1/ تعريف المنهاج الدراسي.
من أجل الخوض في معاني ودلالات المنهاج الخفي يجب علينا في البداية أن نعرف المنهاج المدرسي العام؛ ومنذ البداية يجب أن نميز بين مفهومين أساسيين متداخلين جدا فيما بينهما في البنية والتوظيف والدلالة، هما: المنهاج Curriculum والمنهج La méthode. وغالبا ما تترجم الكلمتان في اللغة العربية إلى دلالة واحدة ولفظة واحدة جمعا وتفريدا حيث يجري استخدام لفظة المنهج للدلالة على الأمرين.
ومن أجل التمييز بين الكلمتين يجب التوضيح أن كلمة المنهج هي ترجمة حرفية لكلمة Method في اللغة الإنكليزية، وهي تعني الطريقة العلمية في البحث والنظر، وترمز إلى مناهج البحث في العلوم الإنسانية والتطبيقية. ويرمز مصطلح المنهج في الفرنسية La méthode أيضا إلى مجموع المراحل أو الخطوات التي يتبعها الباحث في دراسة موضوع ما أو ظاهرة كيف ما كان حقل انتمائها. وفي هذا الإطار، تتعدد المناهج العلمية بحسب موضوع الظاهرة المدروسة، فنجد مثلا المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج التجريبي، والمنهج العلمي في النهاية هو الطريقة العلمية في البحث التي تقوم على الملاحظة ووضع الفرضيات واختبارها والتوصل إلى النتائج وتعميمها [4].
أما كلمة منهاج فهي ترجمة حرفية لكلمة Curriculum التي ترمز إلى سياق تعليمي أو إلى برنامج دراسي متكامل من الفعاليات والنشاطات والمواد المدرسية في مؤسسة تعليمية. وتعود كلمة المنهاج الدراسي Curriculum إلى أصل إغريقي، وقد وظف اليونان المنهاج في الدلالة على نسق من الفعاليات التربوية التي ترتبط بالفنون السبعة: النحو، البلاغة، المنطق، الحساب، الهندسة، الفلك والموسيقى. وقد ورد في معجم علوم التربية أن المنهاج " خطة عمل، تتضمن الغايات والمرامي والأهداف المقصودة، والمضامين والأنشطة التعليمية، وكذا الأدوات الديالكتيكية، من طرائق التعليم وأساليب التقويم" ([5]). وهنا أيضا تجب الإشارة إلى أن الترجمة العربية السائدة هي المنهج وليس المنهاج.
ويرمز المنهاج، في أكثر تعريفاته عمومية، إلى منظومة من المعارف والخبرات والتجارب والمعايير الفكرية واليدوية، وإلى نسق متكامل من القيم والرموز والمعايير والعلاقات والتبدلات ونماذج السلوك ومختلف الأطر المرجعية الموجهة للسلوك والتفكير([6]). وهذا يعني أن المنهاج المدرسي نظام كلي يتألف من عناصر كثيرة كالطالب والمعلم والمحتوى العلمي ولوازم المعلم والتعليم وغيرها ويتحرك بقوى التأثيرات المتبادلة لهذه العناصر والتأثيرات الخارجية عليها([7]).
وباختصار يمكن القول بأن المنهاج المدرسي – وقد آثرنا استخدام المنهاج لتمييزه عن المنهج العلمي - يشكل نسقا متكاملا من العناصر أو المكونات والوظائف المترابطة فيما بينها بعلاقات وعمليات تقود، بفعل صيرورتها الداخلية، إلى تحقيق غاية ما. ويشمل المنهاج المدرسي العام الأهداف والمحتويات والطرائق والوسائل والتقويم والدعم، إلى جانب المدرس والمتعلم والعلاقة بينهما، في إطار مؤسسة تعليمية معينة. وتتشكل هذه المكونات من الأفعال التي يقوم بها كل من المدرس والمتعلم، في علاقة مع المادة الدراسية وغيرها، انطلاقا من مظهر بنائي، يحدد شبكة العلاقات بين المكونات ومواقعها، وانطلاقا من مظهر وظيفي يتحدد بالعمليات والمهام التي تقوم بها المكونات المذكورة، دون أن ننسى العلاقة التي تربطه جدلا بالوسط الاجتماعي([8]).
ويأخذ المنهاج المدرس العام صورة مخطط للعمل التربوي يكون أكثر شمولا وعمقا من المقررات التعليمية، إذ يتضمن المقررات والكتب والغايات التربوية، ويشمل أنشطة التعليم والتعلم التي يتطلبها العمل التربوي في المؤسسات المدرسية([9]). وغالبا ما يتجلى المنهاج التربوي في صورة وثائق تربوية مكتوبة تصف أهداف التعلم في المدرسة وكيفياته وآلياته مع يناسبها بالطبع من معارف وخبرات وأنشطة تربوية وتقييم([10]). ووفقا لهذا التصور العام للمنهاج، فإن المنهاج المدرسي يشمل كل ما يدور في الحياة المدرسية من تعليم ومواقف وفعاليات ونشاطات وأهداف وغايات، إنه بالمعنى العام يقابل مفهوم الحياة المدرسية بكل مضامينها وفعالياتها ومبادئها وآثارها.
وهنا يجب التأكيد أن المنهاج المدرسي العام يشمل كل ما يدور في المدرسة، وهو يتضمن في الوقت نفسه مختلف المناهج الفرعية في المؤسسة المدرسية مثل: المناهج المكتوبة والصريحة والرسمية والخفية والعملية.
2/2/ تعريف المنهاج الخفي:
يؤكد معظم الباحثين والدارسين في مجال التعليم أن المنهاج الخفي أكثر خطورة وأهمية من المنهاج المعلن، ويعود السبب في ذلك إلى عنصر الاختفاء ذاته، حيث يؤدي ذلك إلى تأثير كبير ومهيب في الحياة التربوية داخل المدرسة ذاتها. هذا ويشكل المنهاج الخفي نسقا فرعيا من المنهاج العام المدرسي بتعيناته وتشكيلاته المختلفة. ويتميز البحث عن مكامن المنهاج الخفي ونسق فعالياته بالصعوبة والتعقيد، فالمنهاج الخفي، كما يدل اسمه، فعالية تربوية صامتة خفية غير منظورة، وعلى الباحث أن يرصده فيما بين السطور وما خلفها وفي الزوايا المظلمة للحياة التربوية. ويرمز المنهاج الخفي - من حيث المبدأ - إلى مختلف الفعاليات التربوية المضمرة والخفية في المؤسسة المدرسية. فالمدرسة وفقا لهذا التصور تؤدي وظائف غير منظورة وتعلم أشياء أخرى غير معلنة في برامجها ومناهجها النظرية والرسمية.
ويعد فيليب جاكسون([11]) - كما ذكرنا آنفا - أول من استخدم مفهوم المنهاج الخفي في كتابه (الحياة في الصفوف المدرسية Life in the classroom) عام 1968. وقد كشف جاكسون في دراسته هذه أن الأطفال يتعلمون أشياء كثيرة في المدرسة لا علاقة لها بالمنهاج الرسمي؛ ووفقا لهذا التصور فإن المنهاج الخفي يرتبط بالقيم والتربية الأخلاقية والأيديولوجيا. وهنا يتساءل جاكسون لماذا يغش الطالب في الامتحان ويكذب مع أن المناهج المدرسية تركز على أهمية التربية الأخلاقية؟ ويعزو جاكسون الأمر إلى المنهاج الخفي في إيجاد هذه الأوضاع المتناقضة مع الدور الرسمي المعلن للمدرسة.
وغالبا ما يطلق على المنهاج الخفي تسميات كثيرة مثل "المناهج غير المكتوبة Unwritten Curricula أو المناهج غير المدرسية وأحيانا يطلق عليه الإنتاج المدرسي الثانوي أو مخلفات التمدرس، وبالتالي فإن هذه التسميات وغيرها اعتبرت عناوين متحركة ومتغيرة لعدم استقرار المفهوم وقابليته للتغيير المستمر"([12]).
من أجل تعريف المنهاج الخفي Hidden Curiculum في المدرسة يلجأ الباحثون إلى تقسيم المنهاج المدرسي العام إلى جانبين: أحدهما خفي مستتر ومضمر، والآخر معلن صريح وواضح وظاهر. ووفقا لهذا التقسيم يعرف المنهاج الخفي بأنه كل فعل أو نشاط تربوي غير مقصود يتم في الوسط المدرسي، ويعتمد هذا التعريف على مقولة رياضية قوامها أن المنهاج الخفي يشتمل على مختلف الفعاليات والمضامين والنتائج والممارسات غير المعلنة في المنهاج الرسمي العام. وهذا يعني أن أية إضافة تربوية محسوبة أو تلقائية مقصودة أو غير مقصودة يمكن أن تنسب إلى المنهاج الخفي وتحسب من مكوناته. فالمنهاج الخفي وفقا لهذا التصور يساوي كل إضافة تربوية ممكنة أو محتملة على المنهاج الرسمي في النظام المدرسي القائم، أي كل ما يتعلمه التلاميذ في المدرسة دون أن يكون مقصودا أو ظاهرا معلنا.
يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى عدد من التعريفات القائمة على هذا التصور حيث يعرف رولاند ميغان Roland Meighan حيث يعرف المنهاج الخفي بأنه "كل الأشياء التي يتم تعلمها زيادة على المنهاج الرسمي"([13]). ويعرف فيليب جاكسون Philip Jackson - الذي يعتبره المربون الأمريكيون أبا المنهاج الخفي- المنهاج الخفي بأنه" يتمثل في النواتج الثانوية للعملية التربوية أو كل النواتج الناجمة عن المنهاج الصريح([14])، وهو وفقا لهذا التصور يرى أن المدرسة تتبنى منهجين متكاملين في الجوهر والمضمون: أحدهما خفي، والآخر ظاهر ورسمي، فالمنهاج الظاهر والرسمي يعمل على نقل المعلومات بصورها المختلفة، في حين يقوم المنهاج الخفي على تعليم التلاميذ أشياء متعددة جدا مثل كيفيات الخضوع والامتثال والانصياع أمام السلطة وكيفية الاندماج في إطار الحياة الاجتماعية وفقا للدور والمركز المحدد من قبل المجتمع.
ويمكن أن نسوق عددا كبيرا من التعريفات الكلاسيكية للمنهاج الخفي التي تراه مجرد إضافات في الفعاليات التربوية في داخل المؤسسة المدرسية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى تعريفات عديدة للمنهاج الخفي منها أن " المنهاج الخفي يتكون من السلوك والقيم والمعاني التي تدرس للطلبة بواسطة المدرس أو المدرسة من غير تخطيط وأنه كل ما يتعلمه الطلبة نتيجة للتفاعل الاجتماعي داخل الفصل الدراسي" ([15]). أما جولس هنري (Henry, 1973) فيعرف المنهاج الخفي بأنه "نسق العلاقات التربوية القائمة بين المعلمين والتلاميذ والقوانين التي تنظم تلك العلاقة" ([16]). ويرى لورانس كولبرج (Kohlberg, 1970) أن "المنهاج الخفي وسيلة أساسية لنمو السلوكيات المرتبطة بالجوانب الأخلاقية، حيث يكون للمعلم دور مهم في إكساب التلاميذ تلك المعايير السلوكية"([17]).
وتجدر الإشارة إلى أن التعريفات التي أعطيت للمنهاج الخفي في الدراسات والأبحاث العربية تعزز الصورة التي تقدمها الدراسات الغربية والباحثون الغربيون لهذا المفهوم وتكرسها. وفي هذا السياق يعرف كل من محمد شوكت ومصطفى عبد السميع محمد، المنهاج الخفي بأنه "نسق من المظاهر السلوكية والأنشطة الإيجابية أو السلبية التي يتعلمها التلميذ في المدرسة من خلال تفاعله مع أقرانه دون بث أو توجيه مباشر وأهداف معلنة"([18]).
وتعرفه بسامة المسلم بأنه يتمثل " فيما تعلمه في المدرسة من أفكار وقيم غير مقصودة وغير موجودة في المنهاج الرسمي" ([19]). أما سامح محافظة فيعرفه بأنه (محافظة، 1993: 176) " مجموعة القيم والمعايير الدينية والاجتماعية وكافة المعارف والمهارات السلوكية التي يُدرِّسُها المعلمون لتلاميذهم بصورة ضمنية"([20]). وأخيرا ويعرف محمود حسين فلاتة بأنه "نسق من الخبرات المصاحبة للعملية التعليمية التي غالباً ما تكون غير مقصودة، ولكنها هامة جداً من الناحية التربوية والاجتماعية "([21]).
ووفقا لهذه التعريفات المتواترة يؤكد معظم الباحثين وجود نظاميين في المدرسة، أحدهما خفي ومستتر، والثاني واضح وصريح، ولكل نظام وظيفة محددة، وإذا كان للنظام الظاهر وظيفة نقل المعلومات بالدرجة الأولى، فإن النظام الخفي يعتمد على مبدأ الرسائل الصامتة والطاقة الرمزية لمنظومة الأفعال المدرسية والطقوس التربوية الجارية، والتي تسعى بالدرجة الأولى إلى بناء روح الاستكانة والخضوع عند الطلاب والتلاميذ لمعايير الوجود الاجتماعي السائد، لما ينطوي عليه هذا الوجود من تمايز وتنافر اجتماعي وطبقي ورضوخي.
ووفقا لهذا التصور يمكن القول بأن المنهاج الخفي يمثل كل ما يجري في دائرة الحياة المدرسية من طقوس علائقية ومشكلات وعلاقات في الفصل الدراسي وخارجه، بدءا من الحفلات المدرسية والطوابير، والنشاطات والرياضة والرحلات. وبالتالي فإن هذه النشاطات تترك بصماتها بقوة في عقول الأطفال ونفوسهم. فوظيفة المدرسة ليست مجرد إيصال المعرفة إلى الأطفال، بل يتمثل دورها في تشكيل شخصياتهم على نحو محدد ومنظم، وفقا لمعايير السلوك والنشاط المدرسي القائم ([22]).
وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بوجود ثلاثة أبعاد للمنهاج الخفي:
· يقصد بالمناهج الخفية أي مضمون Context يدرّس في المدرسة وينتج عنه مفاهيم مقصودة نتيجة التفاعل بين الطالب والمعلم ونظام الصف الدراسي الذي يشكل جزءا من التنظيم العام للمدرسة.
· يتكون المنهاج الخفي من عدد من العمليات Processes التي تحدث في الفصل الدراسي أو في المدرسة وتشمل القيم والتطبيع الاجتماعي والمحافظة على النظام التدريسي واكتساب المهارات والاتجاهات.
· يشمل المنهاج الخفي منظومة من المقاصد Degrees of intentionality الخفية بدءا من تحقيق نواتج ثانوية للتعليم غير المقصود والعارض وانتهاء بنواتج أكثر عمقا من النواحي الوظيفية والتاريخية والاجتماعية للتربية([23]).
2/3/ نحو منهج جديد لبناء مفهوم موضوعي للمنهاج الخفي:
تنطوي التعريفات التي قدمناها ذاتها على مغالطات منهجية كثيرة أهمها اختزال مفهوم المنهاج الخفي إلى ما يمكن أن نطلق عليه المنهاج غير الرسمي غير المقصود. والمنهاج غير المقصود ليس منهاجا خفيا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فالباحثون والمفكرون يتحدثون عن التعلم غير المقصود منذ أقدم العصور، ويدركون ماهيته وطبيعته بوصفه طريقة تربوية غير موجهة ولكنها مؤثرة وفاعلة في الحياة التربوية. وقد أطلق على المنهاج غير المقصود تسميات عديدة تاريخيا مثل التعلم العفوي أو غير المقصود، التعلم التفاعلي، التعلم غير الشكلي، التعلم بالقدوة، أو التعلم عن طريق التماهي. وقد أوضح كثير من الباحثين والدارسين أن معظم ما يتم تعلمه في الحياة يكون عن طريق التعلم غير القصدي أو التفاعلي.
ومن أجل البحث عما هو خفي ومضمر في الفعل التربوي يجب على الباحث في البداية أن يرسم الخطوط الأساسية للخريطة التربوية فيما يتعلق بالمناهج الحيّة والقائمة، وذلك كمقدمة أساسية للبحث والتقصي في مجال الخفي والمضمر. وتقتضي هذه المنهجية بداية التمييز بين منهجين أساسيين قائمين في الحياة المدرسية، هما: المنهاج الحقيقي Curriculum réel والمنهاج الشكلي Curriculum formel، لأنهما سيشكلان المقدمة الأساسية لفهم وإدراك جوانب المنهاج الخفي Curriculum Formel في المدرسة، وتلك هي منهجية البواقي حيث يتطلب الأمر حساب ما هو معروف وحاضر للكشف عن المجهول الغائب.
فالمنهاج بالمعنى العام هو مسار تربوي تعليمي متكامل يستجمع في ذاته مختلف الفعاليات التربوية الحيوية. وهنا وبدءا من هذه النقطة تبدأ إشكالية التمييز بين الشكلي والحقيقي والخفي في المنهاج القائم وهذا يعني الفصل بين ثلاثة جوانب في الفعالية التربوية يتمثل الأول فيما هو محدد ومعلن وشكلي، ويأخذ الثاني صورة ما هو فعلي متحقق، أما الثالث فيأخذ صورة ما هو مضمر وخفي وصامت.
فعندما نتحدث عن كتاب روسو إميل، على سبيل المثال، يجب علينا أن نميز بين المشروع التربوي في هذا الكتاب، وبين إمكانية تطبيقه في دائرة الواقع التربوي. فالمنهاج التربوي الذي صوره روسو يتعلق بطفل واحد هو إميل وعلى مقياس إميل. ومما لا شك فيه أنه يوجد دائما مسافة فاصلة بين التصور الذي نضعه للتربية والنتائج التي نحظى بها في نهاية الأمر. وهذا الأمر ينسحب على المنهاج المرغوب والواقع التجريبي لهذا المنهاج كما يرى بيير بورديو (Pierre Bourdieu,1980) ([24]).
فالمسافة الفاصلة بين ما هو متوقع وبين ما هو متحقق، بين ما هو مرئي وخفي، بين ما بين مسموع وصامت قد تكون معقدة بتضاريسها وتلافيفها، وغالبا ما تكون هذه المسألة محفوفة بالصعوبة والتعقيد في المجال التربوي؛ لأن العملية التربوية غالبا ما ترتبط بعوامل إنسانية مفرطة الذاتية حيث تتعلق بوجدان المتعلمين وحريتهم وظروفهم وقابلياتهم واستعداداتهم، كما ترتبط بإمكانية تكييف الفعل التربوي وإعادة تنظيم المناهج وفقا لردود أفعال المتعلمين واستجاباتهم في واقع الأمر. وهنا يجب علينا أن نقول بأن المسافة الفاصلة بين الواقعي والنظري تستحق وقفة تأمل وذلك على الرغم من تواضع هذه المسافة الفاصلة كما سبق وأشرنا. وهنا يجب علينا أن نميّز بين ثلاثة مستويات في مجال العلاقات التربوية حتى هذه التي توجد خارج المؤسسة التربوية نفسها:
· المنهاج الشكليCurriculum Formel ويعني المنهاج النظري المرغوب الذي يتم إعداده بصورة مسبقة.
· المنهاج الحقيقي Curriculum Real ويتمثل في المنهاج المتحقق عمليا في إطار التجربة، ويطلق عليه النواتج غير المتوقعة في المنهاج الرسمي.
· المنهاج الخفي الصامت Hidden Curriculum وهو يمثل النتائج التربوي غير المتوقعة الناجمة عن التطبيق.
ففي نظام مدرسي محدد تأخذ عملية التعليم صورة برمجة واسعة وشاملة تهدف إلى تدريب وتعليم عدد كبير من المتعلمين. وفي مثل هذا النظام فإن الأهداف والبرامج ومخططات التعليم تمثل المستوى النظري المفترض الذي يتميز بطابع الاستقلال. وهنا يتبدى المنهاج الشكلي بوصفه نظاما من النصوص والتصورات والقوانين التي تحدد الأهداف التعليمية العامة، وهناك البرامج التي ترسم حدود ومستويات عملية التعليم في مختلف المستويات.
فالخبراء التربويون يصممون النصوص والبرامج التربوية للمنهاج وفقا لتصور يتعلق بتلميذ مجرد أو نموذجي متقارب مع نموذج جان بياجيه، وهنا يمكن كتابة مجلدات حول أهداف التربية وغاياتها وقيمها وبرامجها دون العودة إلى التلميذ الحقيقي الجالس أمام معلميه بصورة عيانية. ووفقا لهذا التصور فإن تجربة التلميذ الحيّة في عملية بناء المنهاج تستبعد كليا ولا تشكل مصدرا حيويا من مصادر عملية البناء التربوية.
إن استبعاد التجربة الحقيقية الحية للحياة التربوية التي تتمثل في التلاميذ والمعلمين والإدارة وفي طبيعة التفاعل القائم بين مختلف أطراف العملية التربوية يولد نسقا من المفارقات بين التصميمات النظرية والواقع التربوي الحي. وهذا يعني أن الأنموذج النظري للتعليم لا يمكنه وفقا لهذه الحالة أن يحقق التكييف المستمر للتعليم وتطبيقاته العملية وفقا لتطور العلوم والتكنولوجيا والثقافة وأنماط الحياة والعمل. وبالتالي فإن هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق تؤسس للفروق الكبيرة بين المنهاج الشكلي أو المنهاج المفترض، وبين الواقع الفعلي والحقيقي للعملية التربوية.
2/4/ جدل الواقعي والنظري:
عندما يكون لدينا منهاج تربوي معين ومحدد فإنه بالتالي ينتظر أن يوضع في دائرة الاختبار الواقعي. وهذا يعني أن المدارس ستتلقى نصوصا مجردة يجب على المعلمين أن يعملوا على تدريسها وعلى الطلاب تعلمها. وتتميز الأهداف التربوية بأنها غالبا ما تكون طموحة، وأن هذه الأهداف لا تتحقق كليا إلا فيما يتعلق ببعض شرائح الطلاب. وعدم تحقق هذه الأهداف التربوية يعود في الأصل إلى نسبية الفعل التربوي في المستوى المدرسي. فاللامساواة المدرسية التي تتعلق باختلاف الشروط الاجتماعية للطلاب، والاختلاف في الأوضاع العائلية، وتباين الاتجاهات والميول والطبائع الشخصية، وتفاعل هذه المتغيرات مع وضعيات تربوية مختلفة في المدرسة تؤدي في النهاية إلى تباين كبير في مستوى التحصيل المدرسي وفي مستوى النجاح في مختلف مسارات الحياة التربوية. ويأخذ هذا التباين في التحصيل صورة غامضة في كثير من الأحيان، حيث يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الوسيطة، ولاسيما الطريقة التي يتم فيها تطبيق المسار المنهجي نفسه في المؤسسات التربوية. ومما لا شك فيه أن تغير المضامين الحقيقية يتعلق بالهامش الحر والمستقل للمعلمين الذين يتعاملون مع المضامين وفقا لتفسيراتهم الذاتية الخاصة ووفقا لتنوع شروط العمل المدرسي وتغاير متطلباته.
ووفقا لهذا التصور يكون لكل مدرس في عمله المهني داخل مدرسته منهجان: منهاج رسمي معلن، ومنهاج شخصي خفي غير مكتوب، وهما في كل الأحوال غير متطابقين، بل كثيرا ما يتعارضان وتتغلب تأثيرات المنهاج الخفي؛ لأنه أقوى من حيث ارتباطه الوثيق والمباشر بالقيم الحقيقية الداخلية التي يؤمن بها المدرس، في حين يؤدي مراسم المنهاج المعلن بشكلية تقليدية فارغة من قيمتها المعنوية المؤثرة" ([25]). فالمعلم في هذا السياق يستطيع أن يعزز قيما وأفكارا تتنافى مع القيم المعلنة للمنهاج المدرسي، فهو قد يعلي من شأن القيم التي يؤمن بها والتي تتعارض مع القيم التي يعززها المنهاج المدرسي.
ويمكننا هنا الإشارة إلى بعض المتغيرات المؤثرة في الفعالية التربوية للمنهاج الخفي:
1- لا يعدو البرنامج التربوي(المنهاج الشكلي) أن يكون أكثر من تصور منهجي يجب على المعلم أن يطبقه وفقا لثقافته ورؤيته ونظرته الذاتية، وهنا نجد تأثيرا لرؤية المعلم حول القضايا التي يراها مهمة وضرورية وحيوية.
2- يجري المعلمون غالبا عملية اصطفاء لتخفيف حدة المناهج المحددة وصرامتها.
3- البرامج الحقيقية التي يعتمدها المعلمون هي في الغالب الكتب والدفاتر والتمارين المستخدمة يوميا.
4- يقوم المعلم باستخدام عمليات تربوية شخصية تتضمن تفسيرا خاصا للبرامج المدرسية.
5- يقوم المعلم أثناء ممارسته التربوية ببث مجموعة من المفاهيم والمعارف والمعلومات التي تتوافق مع مستوياته الثقافية والمعرفية.
6- يقوم المعلم بتعديل البرنامج والمعطيات التربوية وفقا لجدل العلاقة بينه وبين الطلاب وذلك ليجعل هذه المعلومات قابلة للتحويل إلى الطالب وفقا لقدرات الطالب وإمكانياته.
7- تؤثر عوامل الثقافة والمناخ التربوي ودرجة الاصطفاء في متطلبات وفعاليات العملية التربوية في المؤسسة التعليمية.
6- يأخذ المعلمون بعين الاعتبار التكوين السوسيولوجي الاجتماعي لطلابهم وتلامذتهم.
7- يتكيف المعلم ويعدل سلوكه وفقا لطبيعة الطلاب من حيث كونهم مبتدئين أو مهنيين.
8- يؤثر المجتمع المحلي في عملية تفسير الثقافة السائدة في المدرسة.
هذه المعطيات تجعلنا ندرك أكثر طبيعة الإشكالية التي تطرحها المناهج المدرسية في سياق المؤسسات المدرسية من حيث متغيرات الصف والتفسير والاستراتيجيات والسلطة والاستقلال. كما تجعلنا ندرك أيضا هذه الإشكالية في ضوء تنوع التجارب التي تتعلق بكل تلميذ حيث يكوّن كل تلميذ تجربته التربوية الخاصة التي تتميز بتفردها واختلافها. فعندما ننطلق من معطيات منهاج تربوي محدد ومرسوم بصورة مسبقة (المنهاج الشكلي أو الرسمي)، فإننا ننغلق في منطق يحدد لنا أبعاد المنهاج المتحقق وفقا لمتغيرات الرغبة في التعليم، وحسابات الإخفاق، والتناقضات، والنواقص، ومؤشرات الاستقلال أثناء العمل. وهذا المنهاج كما أشرنا لا يأخذ بعين الاعتبار من التجارب التربوية المشكّلة، كما لا يأخذ ما يفترض وجود أي شكل من أشكال الحياة المدرسية القائمة الغنية بالمعطيات التجريبية.
2/5/ المنهاج الفعلي بوصفه نتاجا طبيعيا للتجربة التربوية:
كل كائن حي يتعلم من تجربته، وهذه التجربة غالبا ما تكون معقدة متعددة ومتغيرة، وهي في النهاية لا تعبر عن إرادة حرة في التعلم. وتأخذ هذه التجربة صورة تداعيات من الأفعال والأحداث. ويمكن القول وفقا لهذه الرؤية إن التجربة التربوية لأي فرد تتحدد بمنظومة من الغايات والأهداف والقوى والبنى التي تتجاوز هذه التجربة ذاتها. فالتعليم يجري على إيقاع عمليات تعاقب التجارب التربوية، وفي هذا التتابع التجريبي يمكن أن نتحدث عن ما يمكن أن نطلق عليه المنهاج الحيّ أو الواقعي.
إذا جرى الاهتمام بكل التجربة التربوية للفرد على مدى حياته، فإن المنهاج التربوي الحي الذي تلقاه يتوافق مع مجمل حياته نفسها، أو على الأقل مع مختلف اللحظات الحياتية التي ساهمت في تكوين رأسماله الثقافي. وهنا فإن الحديث عن المنهاج الحيوي الواقعي يصبح أكثر واقعية ووضوحا ولاسيما عندما ندرك العوامل المشكلة للثقافة والقيم عند الفرد.
في المجتمعات المحرومة من المدرسة، أو غير المتمدرسة، لا تكون عملية بناء المعرفة عند الأطفال عملية لاواعية على نحو كلي. فالكبار يعلمون الصغار ويؤكدون على بعض جوانب هذا التعلم دون الجوانب الأخرى. والفرد هنا يأخذ صورة كيان متكامل لتجربة تربوية مشكلة في مجال محدد. وهنا وفي هذا المستوى بالذات فإن المنهاج الواقعي يطرح سؤالا جوهريا: بأي معيار يتم تحديد وظيفة مشروع تربوي محدد أو غاية تربوية معلنة؟
إن مفهوم المنهاج الواقعي لا ينتسب في جوهره إلى لغة الخطاب البيداغوجي. فعلماء النفس في المجال المعرفي وفي مجال التحليل النفسي أضافوا إلى التجربة الإنسانية تعيّنات نظرية لا نجدها في العلوم التربية حتى الآن. وفي هذا الخصوص يمكن القول بأن التربويين في كل صيغ تنوعاتهم في المدارس والعائلات يتفقون على نقطة أساسية: أن الوعي يتشكل تحت تأثير التجربة التربوية لفرد ذاته. ووفقا لهذا التوجه فإن معظم برامج العمل التربوية تتجه إلى إحياء وإنعاش التجربة الذاتية للمتعلم في حصول التعلم وذلك عبر منهاج واقعي.
2/6/ المنهاج الخفي صيغة معقدة من العلاقات التربوية:
ما قدمناه حول طبيعة المنهاج الواقعي الذي ينطلق من التجارب المشكلة قد يساعدنا الآن على تعريف المنهاج الخفي Curriculum caché وهنا يمكن القول في واقع الأمر إن بعض التجارب التربوية المعاشة من قبل الفرد ترتهن بوجود شرطية مزدوجة:
- إنها تجري في وسط مدرسي محدد.
- إنها تؤدي إلى توليد نتائج تربوية منفلتة من رقابة المعلمين والآباء وسيطرتهم.
والأمر هنا ليس بهذه البساطة التي يرتسم عبرها، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لا يمتلك المعنيون بالتربية من آباء ومعلمين وعيا بالتجربة التي يعيشونها أو ينظمونها؟ وهل هناك في الوسط التربوي(أي من الفاعلين) يمتلك وعيا بما خفي من هذه البرامج التربوية التي تتمثل في المنهاج الخفي؟ وبمعنى آخر هل هناك من تخطيط محدد لإخفاء بعض معالم هذا المنهاج الخفي؟
يمكن القول أوليا إن كل منهاج واقعي هو منهاج خفي بذاته ؛ لأن تجارب الفرد ليست قابلة للملاحظة في مجملها. فالفرد نفسه لا يلاحظ بصورة مباشرة مجمل تجربته لأن التجربة لا تكون في معظم الأحيان حاضرة دائما في عقل الفرد ووعيه. والفرد نفسه لا يستطيع أن يعيد بناء تجربته إلا بالعودة إلى العلبة السوداء اللاشعورية أي عبر نموذج نظري يوجد في الإدراك أو الوعي والذاكرة... الخ. وإنه لمن المؤكد هنا أنه يمكن دعوة شخص ليتحدث عن تجاربه بوصفها وقائع حقيقية أو بوصفها ذكريات؛ وهذا يعني أنه يصعب العودة مباشرة إلى التجارب نفسها واستنطاقها لأن التجارب الحقيقية لا توجد في الوعي كاملة وناضجة، وبالتالي فإن الفرد عندما يريد استحضارها قد يضفي عليها أو يعدّلها. حتى الشخص الذي يدرك جيدا حدود تجربته جيدا ليس قادرا على تعرّف ما الذي يؤدي إلى تغيره بصورة دائمة. فالإنسان لا يستطيع في حقيقية الأمر أن يصف بدقة أبدا كيف وأين تعلم بعض الأشياء ؛ لأن التعليم يحدث بشكل لا شعوري متدرج. فالخبرة المشكلة - أي الخبرة التربوية - تحدث في أوقات مختلفة ومتعددة وتتميز بطابعها الدوري أو الدائم. ومن الصعب تحديد هذه الحقيقة في سيل متدفق من الحقائق والتجارب.
عندما يتحدث دومينيسيه (Dominicé,1990) عن الوجوه الخفية للتعليم يقوم بتحليل الجوانب الأساسية في المنهاج الخفي فيرى فيه صيغة لكل أشكال المعرفة التي تتحقق من غير معرفة المربي نفسه([26]). فالأطفال والمراهقون اليوم يقضون ما بين عشر وعشرين سنة من حياتهم في مؤسسات مدرسية حيث يتلقون ما بين 25 و35 ساعة تعليم وتدريب أسبوعيا، وتتراوح هذه الفترة ما بين ثلاثين وأربعين أسبوعا في السنة. وهنا وفي هذه الفترة الزمنية تتشكل شخصياتهم ويتكون رأسمالهم الثقافي، وتتأصل تجاربهم المشكلة والمكونة لهم. ومع ذلك فإن نسقا من هذه التجارب يبقى خفيا فيما يتعلق بتأثيرها في عيون التلاميذ وآبائهم.
والسؤال: هل يكون هذا الجانب الخفي على التلميذ معلوما عند معلميه؟ هل قام هؤلاء المعلمون بتوظيف المنهاج الخفي علي غير علم طلابهم؟ وهنا أيضا يمكن القول افترضا بأن المعلمين أنفسهم لا يعرفون ماذا يفعلون، أو على خلاف ذلك بأنهم يعلمون جيدا ما يحدث في ممارساتهم التربوية اليومية.
ثالثا: المنهاج الخفي في منظور الطلاب:
عندما طلبنا من مجموعات من الطلاب في كلية التربية بجامعة الكويت أن يجيبوا عن السؤال الآتي: ما الشيء الذي تعلمته في المدرسة خارج المنهاج المدرسي؟ وجدنا مجموعة هائلة من الإجابات مثل: تعلمت الحياة مع الآخرين في جماعة في فضاء محدد، أو تعلمت كيف أقضي الوقت، أو كيف أحتمل أحكام الآخرين، أن أحذر الآخرين وأخافهم، أن أتجنب العنف وأدافع عن نفسي، ألا أفقد الكرامة والمكانة، أن أؤدي أدوارا مختلفة في التفاعل مع الآخر، أن أتخفى في قناع وأخفي مشاعري، أن أدرك التباين القائم بين الناس، أن أتخذ موقفا وأدافع عن النفس، أن أنظم الجهد والأفعال وأضبط السلوك، تعلمت كيف أحقق النجاح العملي، كيف أخدع وأعش وأحتال، كيف أعمل وأقدر العمل، كيف أضبط نفسي وأوجه سلوكي دون صراخ، التعاون والتضامن مع الآخر، احترام الآخرين وتقدير الاختلاف القائم بين الناس، تعلمت المداهنة والمدح والإطراء، تعلمت التمرد والثورة، تجاوز الحدود والعادات، تعلمت الصبر والتحمل، أن أكون مطواعا وأن أقوم بأعمال دون رغبة، تعلمت الاستغراق في الجماعة وأن أكون كالآخرين، أن أتعرف إلى الذات، أن أحلم وأنا في الصف دون أن أتعلم، تعلمت الاختيار بين عدة خيارات، أن أنظم نفسي، أن أجد لنفسي وسطا حياتيا مناسبا، أن أعيش في الغابة، أن أتدبر أمري، التفكير في أن علي أن أكون جيدا، أو أن أكون الأفضل، مواجهة المواقف الصعبة والاستمرار في الوجود، أن أحمي نفسي وأدافع عنها، أن أصرخ في لحظات الصمت، أن أكتشف الجمال، الخضوع والامتثال للنظام، أن أقدر نفسي وأبخسها حقها، العمل بانتظام، أن أنظم الزمن والوقت، أن أدرك التراتب الاجتماعي، أن أكون مستقلا، أن أمارس اللعب والمراهنة. وتلك هي القائمة التي يبينها التحليل العلمي حول المنهاج الخفي.
ولو استعرضنا هذه القائمة أمام المعلمين لدهشوا تماما من الأشياء التي ساهموا في تعليمها دون أن يعلموا ذلك في حقيقة الأمر. وعندما يسأل المعلمون سيقولون بالتأكيد هذا محزن ومخيب للآمال ولكنه صحيح إلى حدّ كبير. فالمعلمون لا يعرفون كل ما يتعلمه التلاميذ في المدرسة، ولكن كثيرا منهم يدرك بصورة عامة وغامضة أحيانا أهمية الخبرات التربوية للطلاب في داخل الصف ودورها في إكسابهم بعض المهارات وأنماط السلوك. فالخفي وفقا لهذه الصورة ليس خفيا بالمعنى الدقيق للكلمة ولكنه غير معلن وغير مقروء وغير مفكر فيه. وهذا الخفي يتكشف بالبداهة والخبرة والذكاء والتحليل، فهناك أمور تربوية كثيرة تحدث في دائرة الصمت وفي الفراغ والخفاء.
رابعا: المنهاج الخفي بوصفه ممارسة غامضة:
في المؤسسات التربوية الواسعة الكبيرة، فإنه غالبا ما تنطوي خبرات وممارسات الفاعلين فيها على جانب مظلم. حتى وإن كان المنهاج الواقعي بتطابق كليا مع المنهاج المرغوب والمحدد. وبالتالي فإن معظم المسؤولين عن السياسة التربوية في المؤسسات التعليمية يكتفون بتحقيق نتائج تقريبية نسبيا من المناهج الشكلية المطبقة. وعلى أساس هذا التباين تحدث الفجوة الخفية بتأثير الحرية الهامشية للمعلمين والمدرسين. فالمعلمون يتأرجحون ما بين احترامهم للمضامين التربوية المحددة في المنهاج؛ وما بين المنطق الذي تفرضه الحرية الأكاديمية التي يتمتعون بها. فالمناهج ليست في نهاية الأمر سوى حبكة يقوم المعلمون بنسجها على منوالهم الخاص. ويبين التحليل السوسيولوجي وجود تعقيد كبير في الممارسة التربوية فيما يتعلق بتنوع الشروط الموضوعية للعمل، وضرورة الحوار مع الطلاب وبين المعلمين أنفسهم، والتغيرات المتسارعة في إيقاعات العمل والنشاط، والخصوصية التي تتميز بها كل مجموعة مدرسية خلال المرحلة الدراسية. وهنا يبدو من الاستحالة بمكان أن نخطط لتفاصيل العمل التربوي بالنسبة للمعلم. وتحت تأثير هذه الاستحالة يحظى المعلم بفرصة كبيرة في إدارة المنهاج وتطبيقه وفقا لحيز كبير من الحرية والاستقلال.
فالمناهج والبرامج التربوية والأدلة التوجيهية ووسائل التعليم ليست في النهاية غير مساتر لا تعفي المدرسين من عملية التحليل والتفسير والتوضيح والربط بين عناصر المنهاج لتحقيق فعاليته الوظيفية وأدائه التربوي. وإنه لمن طبيعة العمل التربوي بالضرورة أن تتباين تفاصيل المنهاج بين صف وآخر أو بين فصل وآخر. والمسألة لا تتعلق هنا بالحرية بل بالوظيفة الأساسية للفعل البيداغوجي. ووفقا لذلك فإن التحويل التربوي وعملية بناء المناهج تؤدي دورا كبيرا في العمل التربوي اليومي فيما يتعلق بخيارات المعلم وفي حواره المستمر مع طلابه وتلامذته وزملائه، كما هي الحال مع أولياء الأمور في دائرة التعاون مع الجماعات المحلية.
يعمل النظام التربوي على تبرير هامش الحرية المتاح وفق مبدأ قوامه أن التباين الحاصل لن يصل إلى حدّ التناقض مع مبادئ المساواة والعدالة التربوية في المدرسة أو مع الأهداف الأساسية للنظام التربوي القائم. ومن أجل دعم هذا التصور تعمل المدرسة على استبعاد المعرفة الحقيقية بمضامين المنهاج الواقعي وتفصيلاته، وذلك في محاولة لتغطية المفارقات الحادثة في قلب النظام التربوي. وهناك سبب آخر يدعو إلى اعتبار المنهاج الحقيقي كمنهاج خفي: ففي نظام تربوي حيث يشكل التعليم واجهة العملية التربوية يتم التأكيد على وهم المساواة ؛ لأن الطلاب يجتمعون في صف واحد وفي مكان واحد، وتحت تأثير المؤثرات التربوية نفسها من دروس ونشاطات وفعاليات. ومع أهمية هذا التصور، فإن الخبرة التربوية للطلاب الذين يوجدون في صف واحد ليست واحدة للجميع، بل هي مختلفة جدا ما بين الطلاب. فهناك بعض الطلاب الذين لا يرون في ما يقدم غير مجرد أشياء صماء لأنهم يعرفونها جيدا وهناك من يعاني ويصاب بخيبة أمل لعدم قدرته على فهم المعلومات والتمارين التي تتجاوز قدراتهم وإمكاناتهم العلمية. وقد ترفض إدارة الصف الاعتراف بالتباين القائم بين الطلاب، أو على العكس قد تأخذ بعين الاعتبار هذا التباين بكل وضوح. وبالتالي فإن هذا الرفض أو هذا القبول لن يغير شيئا في المعادلة التربوية التي تؤكد وجود خبرات تربوية شخصية متباينة. فالأطفال الذين يجتمعون في داخل صف واحد لا يعيشون تجربة تربوية واحدة متجانسة وبالتالي فإن هذا التباين قد يسهم في تباين احتمالات النجاح والفشل في المدرسة.
في الشأن الإنساني قلما تكون الأشياء منقطعة عن سياقها؛ لأن الرغبة في التعليم والتثقيف ليست حقيقة بسيطة. ومما لا شك فيه أن بعض الأهداف المدرسية ليست إلا حبرا على ورق، وهي مجرد خطاب يتم استهلاكه وتأكيده. ولكن هذا الأمر لا ينسحب أبدا على جميع الأهداف والغايات التربوية. فبعض هذه الأهداف مغلف بالغموض دون أن يأخذ طابع والسرية والتكتم. وما لا شك فيه أن هذا الجانب المخفي يمتلك أسبابه، ففي كثير من الأحيان تكون هذه الأمور الخفية واضحة إلى درجة أن أحدا ما لا يشعر بالحاجة إلى التحدث عنها؛ فالجميع يعلم بأن الذهاب إلى المدرسة يساعد الطفل على تعلم الحياة في جماعة، وذلك عبر مجموعة عمليات، تتمثل في: ضبط الذات، والخضوع للنظام وبعض الخضوع والصبر وقليل من التضحية؛ ومن ثم فإن غياب هذه الأمور التربوية في النصوص الرسمية وفي المناهج التربوية لا يبرر غيابها في وعي المتعلمين والمربين، وهنا يمكن القول بأنه لا يوجد أي حجاب يمنع اكتشاف هذا الجانب التربوي في المنهاج.
ولكن في معظم الأحيان يفضل البقاء في دائرة الصمت وفي دائرة الضبابية للتغطية على غياب الاتفاق العام حول الغايات التربوية للنظام التربوي؛ ففي مجال التربية على القيم المدنية أو القومية أو الأخلاقية على سبيل المثال، من الصعب بمكان أن تكون السياسة التربوية واضحة؛ لأن هذه القيم دائما ما تكون تعبيرا عن ثقافة شريحة محددة في المجتمع، أو عن أيديولوجية كالأيديولوجية البرجوازية أو الأيديولوجيا الدينية، أو لبعض التيارات الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع. وفي هذا المجال فإن البرامج التربوية غالبا ما تكون فضفاضة تمكن قراءة معانيها ودلالاتها مابين السطور وما خلفها، وهي معان ودلالات قلما تثير الصراع والجدل في البرلمانات أو في قاعات التدريس. وحتى لو حظيت هذه القيم بالحضور في المنهاج الشكلي فإنها ستأخذ صورة تصورات غامضة في الغالب غير قابلة للتفسير الواضح المتجانس.
فالمجتمع يضم عددا كبيرا من التيارات السياسية والتربوية، كما يضم تعددا في الوظائف والتفسيرات، وفي جماعات الضغط، والاتجاهات النضالية والإقليمية، وهنا فإن عمليات بناء الروح النقدية، والقدرة على التفكير، والتعبير، والاستماع، والقدرة على التصور الخلاق، وامتلاك الدقة المنهاجية في البحث، هذا كله يمكنه أن يشكل ممارسات تربوية وقيما إنسانية تستمد وجودها من وحي الفكر الفلسفي والبرغماتي.
فأنصار المدرسة الليبرالية يقدرون بأن المنهاج الخفي في المدرسة يتكون من عمليات التطبيع والترويض والإكراه المؤسساتي وضبط الميول الطبيعية عند التلاميذ... الخ. أما أنصار المدرسة المحافظة فإنهم يرون أن من واجب المدرسة المحافظة على النظام الاجتماعي وتعزيز قيمه وتأصيل المعايير القائمة فيه.
وإذا كان هناك اتفاق واسع حول الدور المدني للمدرسة، فإن صورة المجتمع الديمقراطي تأخذ طابع التنوع والتعددية. ففي مقاطعة جبلية لا يرى المراقبون الذين يتموضعون في أماكن مختلفة الأشياء ذاتها: فما هو خفي بالنسبة لبعضهم يبدو واضحا للعيان بالنسبة للآخرين، والعكس صحيح أيضا. ومع ذلك فهناك ما بين القمم زوايا تختفي عن أعين الجميع، فهناك دائما زوايا غامضة والواضح فيها بالنسبة للجميع أنها غامضة وغير مرئية. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر ينسحب على المنهاج الخفي. ولذلك فإن تحديد الجوانب الخفية يخضع لتعريف الجهة التي تقدمه في الغالب. وعندما يأخذ المرء بالنصوص الرسمية يمكنه الكشف عن معطيات تربوية تنتسب إلى المنهاج الخفي وذلك عند الأخذ بالمعنى العام للكلمة. وبالتالي من يكشف عن مناطق خفية في المنهاج سيصاب بخيبة أمل كبيرة، وذلك عندما يكشف غموض هذا الجانب الخفي للرأي العام حيث سيجد إجابة من نوع هذا ليس اكتشافا، فنحن نعرف ذلك منذ أمد بعيد. فهناك دائما في داخل المنهاج لحقيقي جانب يتحقق من تلقاء نفسه وهذا لا يعني أبدا أنه خفي عن الأنظار.
خامسا: مكمن الخفاء في المنهاج الخفي؟
هل المنهاج الخفي خفي على المتعلمين؟ أم على المعلمين؟ أم على العالم الخارجي للمدرسة؟ فطبيعة العلاقات التربوية القائمة في المدرسة تؤدي إلى إخفاء جانب من المنهاج عن التلاميذ ؛ لأنهم غير قادرين على إدراك هذا الجانب أو لأنهم لا يرغبون بمعرفته، أو لأنهم يعارضون مشروعا تربويا يتسم بالوضوح، أو لأن الروتين المدرسي يسمح بالتعليم دون أن يطرح التلاميذ أسئلة ذات معنى حول غايات العمل التربوي. فمن جهة هناك غياب للرقابة وجهل بالعمليات التي تجري في داخل المدرسة. وهنا يمكن الاعتماد على التحليل المنهاجي للكشف عن الجوانب الخفية في الغامض واللامتعين وفي علاقات القوة ولاسيما في روابط العنف الرمزي.
لقد أشار كل من بورديو وباسرون (Bourdieu et Passeron) إلى أهمية دراسة الغامض والعفوي والاعتباطي والعشوائي في العلاقات التربوية القائمة في المدرسة بوصفها رموزا لمنهجية خفية في داخل المؤسسة المدرسية. وهذا يعني أن المنهاج الخفي ليس خفيا إلا لمن لا يريد أن يرى. والشيء الذي يؤدي إلى التشويش والغموض في تحليل خفايا المنهاج هو الاعتقاد أن كل ما هو خفي مخجل ومعيب وسلبي وأن المعنيين بالعملية التربوية يرغبون في نقل هذا الجانب وتأصيله في عملهم التربوي([27]).
ففي الحياة الاجتماعية لا تقوم التربية أيضا بدور استثنائي، وبالتالي فإن الشفافية ليست إلا قيمة برغماتية: فالقيم توظف في خدمة استراتيجيات نفعية لبعض الفئات الاجتماعية وهي تتعارض مع قيم الآخرين. إذ كيف يمكن إخفاء الحقيقة عبر نزعة انتهازية؟ وهنا يجب على الباحث السوسيولوجي أن يعترف بأن الأخلاق التي تبثها التربية ليست سوى أخلاق جماعة ما محددة، وأن من يدافع عنها ويبثها يعمل على بناء تصورات للحقيقة تتناسب واتجاهاتهم الفكرية والإيديولوجية.
فليس هناك منهاج خفي مرة واحدة بالنسبة للجميع. وهنا نجد أن العلوم الإنسانية تفعل فعلها في الكشف عن هذه الظاهرة وتحليلها، وهناك اليوم عدد من المفكرين والمربين الذين يعملون في هذا الاتجاه نفسه. وبالتالي فإن الاستراتيجيات والممارسات الخفية ما زالت قائمة في صور متعددة. وهنا يمكن الحديث عن رهانات متعددة: ففي المستوى الماكروسوسيولوجي على سبيل المثال فيما يتعلق بالإعلان عن وظائف دينية في المدرسة؛ وفي المستوى المدرسي نجد هذه الرهانات حول جدل العلاقة بين الضبط والاستقلال بين الحرية والسلطة، ما بين الوحدة والتنوع؛ كما نجد في مستوى الصف المدرسي إشكالية العلاقة التربوية حول مسألة السلطة والتقييم والتعامل وروتين العمل المدرسي. فالخفي هنا ليس ظلا لتعينات واضحة، وبالتالي فإن هناك نشاطا في اتجاه الكشف عن ملابساته في نسق علاقته بالاجتماعي واليومي. ويبقى علينا في هذا السياق أن نختبر الفرضية التي تعلن عن منهاج ليس غامضا فحسب، بل خفي غير قابل للكشف حتى بالنسبة للمتخصص في أمور المناهج. وإذا كان هناك في حقيقة الأمر منهاج كهذا فإن علماء اجتماع التربية الأكثر كفاءة لن يكون في مقدورهم أن يتحدثوا عنه.
سادسا: الأبعاد الأيديولوجية والطبقية للمنهاج الخفي:
لا يمكن للخفايا المدرسية أن تكون خفية لاعتبارات المصادفة العابرة والحوادث العفوية، فالخفي خفي لأنه يراد له أن يكون كذلك وفقا لغايات مرسومة وأهداف معلومة. فالتخفي لا يأتي بمحض المصادفة العابرة ولا يجري على نحو عفوي؛ بل يحتاج إلى التخطيط والجهد والتنظيم، ووفقا لهذا التصور فإن ما يدور في المدرسة أمر يتصف بالتدبير والتنظيم ويرتسم في صورة مخططات تربوية رأسمالية في جوهرها تتسم بدرجة عليا من العبقرية والذكاء.
وإذا كان الخفي خفيا بفعل فاعل وإرادة مريد، فهناك بالضرورة إرادة اجتماعية محددة تعمل على بناء التنظيمات الخفية والتخطيط لها في المدرسة وفي مختلف المؤسسات التربوية وذلك لأغراض مجتمعية سياسية أو اجتماعية طبقية. ومن البداهة المنطقية أن ينتسب المنهاج الخفي إلى طبقة اجتماعية غالبا ما تسود وتهيمن وتمتلك القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي الطبقة التي تنظم وتخطط وترتب وتحدد غايات التربية ومراميها في مجتمع محدد.
فالتعليم كان وما زال يوجه طبقيا عبر التاريخ، ولم يكن التعليم قط خارج دائرة الأيديولوجيا والسياسة، بل كان وما زال يشكل نظاما أيديولوجيا وُضع في خدمة الدولة والطبقة والأيديولوجيا. ومن هنا يمكن القول بأن ما يجري في المؤسسات التعليمية يجري بإرادة طبقية سياسية في آن واحد. فالتعليم كان وما زال وسيبقى ربما في خدمة الطبقات الاجتماعية التي تسود وتهيمن وتحكم، وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن التعليم محكوم بإرادة الطبقة والمنهاج الخفي قد يكون عصب التنظيم الطبقي في المدرسة، وبالتالي فإن كل ما يجري في المدرسة من تنظيمات خفية يعود بالضرورة إلى ممارسة طبقية أيديولوجية.
لقد أدت الطبقات الاجتماعية تاريخيا دورا حيويا في توجيه المدرسة توجيها يضمن مصالح الطبقات العليا ويعزز من هيمنتها وسيطرتها، ولم تكن المدرسة في أي يوم من الأيام خارج السيطرة الطبقية للطبقات التي تهيمن وتسود عبر التاريخ الإنساني. ومن أجل هذه الغاية كانت هذه الطبقات تبدع أساليب تربوية في غاية الذكاء والدهاء والغموض.
فهناك أسرار عميقة للفعل التربوي لا يمتلكها غير المتخصصين جدا في مجال النظرية التربوية ولاسيما في جوانبها الخفية وأساليبها المضمرة. ويمكن لنا في هذا المسار الكشف عن مستويين أساسيين من أساليب المخاتلة الطبقية والسلطوية: يكمن المستوى الأول في الكشف عن خفايا الأهداف التربوية المضمرة، في حين يكمن المستوى الثاني في عملية نقل المعرفة إلى التلاميذ والذي يتمثل فيما يطلق عليه الباحثون المنهاج الخفي. فهناك منهاج خفي، وأهداف خفية، ومضامين مضمرة للمناهج التربوية القائمة، وهي خفايا تجسد مجال اللعبة الأيديولوجية للفئات والطبقات الاجتماعية التي تتسلط وتهيمن.
كان التعليم والمعرفة من أخطر ما يمكن لرجال الإقطاع أن يواجهوه في العصور الوسطى وكان الشعار السائد هو: علّم حرفا تخسر عبدا. وكان الإقطاعيون ومن قبلهم الأسياد يدقون ناقوس الخطر عندما يتبادر إليهم أن الفلاحين يحاولون أن يتعلموا شيئا ما. وكان هؤلاء الإقطاعيون يدركون إلى حد كبير أن امتيازاتهم ووجودهم مرهونة إلى حد كبير بمدى جهل الناس، فكانوا يشيعون مبدأهم المقدس بين الناس وهو: الجهلاء وحدهم يدخلون ملكوت السماء بصفاء. فالأنظمة العبودية لا تقوم على أساس المعرفة، والمعرفة لا تنمو في أجواء العبودية، فالعلاقة بين المعرفة والعبودية كالعلاقة بين النور والظلام يبدد أحدهما الآخر. لقد استطاعت الإيديولوجية الإقطاعية أن تسود بصورة مطلقة، وأن تعلي من شأن مبدأ الجهل كقانون سماوي مقدس، حتى إن الناس في العصور الوسطى كانوا يفاخرون بجهلهم، ويحاولون أن يمتنعوا عن أي شكل من أشكال المعرفة من أجل المحافظة على طابع القدسية لوجودهم.
وعندما تحولت المعرفة إلى حاجة ضرورية للمجتمعات الإنسانية، ولاسيما في المرحلة الرأسمالية، حيث تطلب قيامها وجود طبقة واسعة من العلماء والفنيين والمهرة والعمال المؤهلين، عندها بدأت إشكالية جديدة وجوهرية قوامها: كيف يمكن المحافظة على المواقع الطبقية للطبقات الاجتماعية في مجتمع متعلم؟ فالمتعلمون والمتنورون يرفضون الاستغلال والعبودية والقهر، والعقل لا يمكنه أن يلجم نفسه عندما يشعر بتعرضه لمحاولات الاغتيال والإبادة. ومن أجل الخروج من هذه الإشكالية، استطاعت الرأسمالية بطبقاتها البرجوازية الصاعدة، أن تجد الدواء في الداء، أي في التعليم نفسه، وقوام ذلك أن هذه الطبقة تمكنت من وضع أسس ومبادئ تربوية تجعل من التعليم إمكانية متجددة وفاعلة في دفع الناس إلى دائرة عبودية جديدة، وقهر جديد، يتمثل في إيجاد فعالية الاغتراب التربوي والثقافي التي عملت وما زالت قائمة على تدجين البشر في خدمة الطبقات القائمة.
ومن أهم الأساليب المخاتلة لهذه اللعبة الأيديولوجية الجديدة توظيف العلم نفسه والتعليم بكامل إمكاناته في سبيل إعادة إنتاج علاقات القوة. ومن هذا المنطلق بدأ التعليم يؤدي دورا طبقيا في المجتمعات الطبقية يعمل على تكريس امتيازات الطبقة التي تسود علميا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
سابعا: المنهاج الخفي معادلة طبقية:
والكشف عن الأبعاد الخفية للمنهاج الخفي في المدارس الحديثة يرتهن بإدراك معمق وتاريخي للأصول الأيديولوجية للمدرسة بوصفها مؤسسة رأسمالية. فالمدرسة بوظائفها الأساسية تأخذ صورة مؤسسة رأسمالية حيث تؤدي وظائف أيديولوجية وطبقية غاية في الأهمية والخطورة؛ وهنا تبين الدراسات المعمقة في ميدان المدرسة وتطورها أن المدرسة الحديثة تطورت تاريخيا على منوال تطور الحياة الرأسمالية، والمدرسة وفقا لهذا التصور لا تعدو أن تكون تصميما رأسماليا ليبراليا بامتياز.
فمنذ بداية الثورة الصناعية انتشرت المدارس مع ضرورات التطور الرأسمالي، وصممت لتستجيب لاحتياجات الطبقة الرأسمالية الصناعية إبان القرن التاسع عشر. وهي في جوهرها آنذاك لا تتعدى كونها مؤسسة منتجة للقيم الرأسمالية ومنتجة لليد العاملة المؤهلة للإنتاج الرأسمالي الصناعي المتنامي([28]). ومنذ البداية استطاع النظام الرأسمالي أن يحدد هدفين أساسيين للمدرسة:
1- إنتاج أناس لأداء أدوار رأسمالية تسويقية في خدمة النظام الرأسمالي.
2- إنتاج طبقة عمالية بروليتارية قادرة على الوفاء بمتطلبات النظام الرأسمالي.
في الحالة الأولى يتم إخضاع المدرسة لمنطق الرأسمال: تعليم الأفراد وفقا لمتطلبات الحياة الرأسمالية المتغيرة عبر الزمان والمكان. وفي الحالة الثانية العمل على إنتاج طبقة عاملة وتزويدها بالقدرة على إعادة إنتاج نفسه.
وهنا يمكن التمييز بين ثلاث مراحل من مستويات الصراع الطبقي على المدرسة:
في المرحلة الأولى: تم تأسيس المدرسة من قبل البرجوازية كمؤسسة تربوية منفصلة عن وظيفة الإنتاج الرأسمالي لأداء أدوار أيديولوجية ضد الإقطاع والبروليتاريا في آن واحد، حيث قامت بتحويل المدرسة إلى أداة أيديولوجية من أجل فرض هيمنة الثقافة البرجوازية في مجال العمل والحياة والإنتاج. والمدرسة في هذه المرحلة مطالبة - إضافة إلى بث المعرفة العلمية - بالعمل على بناء " مواطنين صالحين " يتمثلون الأخلاق البرجوازية، ويقاومون احتمال وجود ثقافة عمالية مستقلة. فالنظام المدرسي لم يوجد، على حد تعبير جاك هالاك Jacques Hallak "من أجل تلبية احتياجات المجتمع إلى اليد العاملة فحسب وإنما من أجل تطبيع أطفال المدارس وإعدادهم لقبول النظام السياسي والاقتصادي القائم على أسس اللامساواة الاجتماعية" ([29]). فالنظام المدرسي القائم أصبح بديلا للكنيسة في تعزيزه لأنظمة الاجتماعية القائمة. إن المدرسة، وفقا لمنظور هالاك، تقوم بدور مزدوج؛ فهي تقوم بتلبية احتياجات النظام الرأسمالي لليد العاملة من جهة، وإضفاء الشرعية على البنية الطبقية من جهة أخرى: إن الرأسماليين يرون في اتساع النظام التعليمي امتدادا لسلطتهم ونفوذهم([30])
وفي المرحلة الثانية، عهد إلى المدرسة عملية تزويد النظام الرأسمالي باليد العاملة المؤهلة والكفاءات والخبرات العلمية الضرورية من أجل الصناعة ونمو المؤسسات الرأسمالية. وفي هذه المرحلة لم تعد وظيفة المدرسة قاصرة على بث القيم البرجوازية حيث أصبحت معنية منذ اللحظة - إضافة إلى الوظيفية القيمية - بتحويل معارف علمية ضرورية من أجل الإنتاج والعملية الإنتاجية. وهنا نجد أن المدرسة بدأت تؤدي دورا اقتصاديا واضحا. ووفقا لهذا الدور بدأت المدرسة تعنى بعملية التأهيل العلمي، وهي وفقا لهذا الدور بدأت تمنح وفقا لمتطلبات الحياة الرأسمالية حقوقا جديدة للعمال عبر تحديد سقف الرواتب حسب مستوى التحصيل العلمي.
وفي المرحلة الثالثة، بدأت عملية دمج المدرسة في العملية الإنتاجية وتحويلها إلى مؤسسة رأسمالية ترتبط جوهريا بعجلة الإنتاج الرأسمالي والصناعي، حيث بدأت المؤسسات الرأسمالية نشاطا واسعا لدمج المدرسة كليا في نسق الحياة الوظيفية للمجتمع الرأسمالي الصناعي وتلبية احتياجاته التربوية والاستهلاكية. وبعبارة أخرى تجري عمليات مجتمعية لتحويل المدرسة إلى مدرسة رأسمالية بوظائفها وبنيتها وأدوارها التربوية، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه رأسملة المدرسة.
ثامنا: مكانة المنهاج الخفي في السياسيات التربوية:
يميز الباحثون في مجال العملية التربوية بين منظومتين من الأهداف التربوية العامة في السياسات التربوية: فهناك أهداف رسمية معلنة، وهناك أهداف خفيّة مضمرة؛ وتتمثل الأهداف الصريحة بقضايا إعداد الإنسان الحر المتكامل، والإنسان الصالح، وإعداد الإنسان للدفاع عن الوطن، وغير ذلك من أهداف مرسومة في لوائح سياسية وتربوية تحدد للتربية مسارها المعلن وللأنظمة التربوية القائمة غاياتها المحددة.
ولكن الأهداف التربوية المضمرة والخفية غالبا ما توضع لخدمة النظام السياسي والاجتماعي القائم، حيث تكمن وظيفتها في الحفاظ على ما يسمى بالاستقرار الاجتماعي، والضبط الأخلاقي والهيمنة الأيديولوجية وبث القيم الطبقية وغرس الطاعة والانضباط في نفوس المتعلمين والدارسين. وهذا يعني أن الأهداف الخفية هي منظومة تربوية في خدمة الطبقة التي تسود وتهيمين في المجتمع. ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الأهداف الوسيلية التي ترسخ معالم المنهاج الخفي:
1- تمجيد رموز السلطة في مختلف المستويات.
2- التأكيد على قيم الطاعة والخضوع للحكام والطبقة التي تسود.
3- توظيف الطاقة الرمزية في تمجيد السلطة (الصور، المقولات، الخطب التربوية والمدرسية).
4- التأكيد على نمط علاقة الخضوع الهرمي بين المعلمين والمتعلمين والإدارة.
5- توظيف المنهاج والخطاب المدرسي بصورة عامة بمنظومة من المقولات والنصوص التي – تمجد الحاكم بصورة مباشرة أ غير مباشرة.
6- توظيف الإمكانات المدرسية من أجل رفض قيم الثورة التمرد الاعتراض النقد.
7- اعتماد طرق التلقين في التدريس والتعليم بوصفها أكثر الطرق فعالية في قتل إمكانية العقل والتفكير، وبناء روح المذلة والاستكانة والانصياع في نفوس المتعلمين. ويمكن لنا أن نقول إن هنا النظام السياسي القائم - أيا كان - يبدع في إنتاج عدد كبير من الوسائل التي تكون قادرة على تصفية إمكانات العقل والتفكير والنقد عند الأطفال والناشئة.
تاسعا: أساطير مدرسية زائفة: المعرفة و المساواة والعدالة والحرية.
تُقدم المدرسة، أو تُقدم نفسها بوصفها مملكة المعرفة والعدالة الاجتماعية وينبوع الحق المساواة، ورمز القيم الإنسانية. إنها وفقا للصورة الملائكية التي تقدم فيها جنة الله على الأرض يتساوى فيها المظلومون والظالمون، والقاهرون والمقهورون. هذه الأساطير المنسوجة حول المدرسة بوصفها عقلا ومعرفة وعدلا ومساواة هي أساطير تربوية برجوازية فرضتها الرأسمالية وروجت لها منذ بداية التأسيس. والسؤال لماذا تروج هذه الأساطير الزائفة عن المدرسة؟
ما نراه أن هذه الأساطير الزائفة تشكل نقطة البداية في نسيج المنهج الرأسمالي الخفي. لماذا؟
ببساطة لأن الناس لو عرفوا الدور الطبقي للمدرسة وأدركوا أهدافها الحقيقة لرفضوها وحاربوها وامتنعوا عنها.
وهذا الأمر قد يشكل كارثة تربوية كبيرة تهدد كيان المجتمع الرأسمالي ووظائفه. ولذلك ومن أجل التغطية على الدور الحقيقي الخفي للمدرسة فرضت الرأسمالية أساطيرها الزائفة للتغطية على الأدوار الحقيقية المطلوبة للمدرسة. وبعبارة أخرى لقد تمّ إخفاء الوظائف الحيوية الأيديولوجية للمدرسة (التقسيم الطبقي، الأيديولوجيا الرأسمالية، إنتاج طبقة من العمال الفنين والمهنيين، تعزيز القيم الرأسمالية، تعزيز الهيمنة الطبقية) عبر أساطير منظمة للمدرسة تضفي عليها قيم الحق والخير والجمال والعدالة.
لن أنسى أبدا هذه الصدمة التي نشاهد آثارها على وجوه الطلاب في كل مرة نشرح لهم فيها الوظائف الطبقية للمدرسة والأيديولوجية، حيث يصابون في كل مرة بحالة من الذهول والصدمة والاندهاش والتعجب والاستغراب ولاسيما عندما يأخذون علما بأن المدرسة تعزز التقسيم الطبقي في المجتمع وتعزز الأقوياء وتضعف الضعفاء. وعلى الرغم من طابع الإذعان الكبير عند الطلاب وخضوعهم لمبدأ الطاعة والانصياع والقبول فإنهم يعبرون عن رفضهم الفكرة واستهجانها وينظرون إلي بعيون الشك والريبة وكأنني ارتكبت جرما أخلاقيا لا يغتفر. وهذا يعبر عن مدى تجذّر الأساطير البرجوازية للمدرسة في عقولهم وتصوراتهم. وصدمتهم كبيرة وكبيرة جدا؛ لأن المدرسة تمثل لهم الملجأ الإنساني الأخير ضد القهر والظلم واللامساواة في المجتمع، لا بل هي بالنسبة إليهم مملكة العدالة والحق والخير.
عاشرا: المخادعات الأيديولوجية: لماذا التخفي؟
لا يكون التخفي عبثا تربويا، فالتخفي قد يكون أكثر الأدوات فتكا وتأثيرا وقدرة على تمرير المقاصد وتحقيق الغايات في الحياة التربوية. وهذا ليس غريبا، فمما لا ريب فيه أن التخفي كان دائما وأبدا أداة فاعلة في الحرب والسياسة والثقافة وهو أكثر تأثيرا وفعلا في الحياة التربوية والمدرسية.
وباختصار تبدأ اللحظة الأيديولوجية الخفيّة الأولى في تقديم المدرسة نموذجا للعدالة الاجتماعية وذلك للتستر على دورها الأيديولوجي الطبقي.
وهذا يستوي في المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية. وهنا تجب الإشارة - كما ذكرنا آنفا- إلى أن المدرسة بآلياتها البرجوازية بقيت مدرسة رأسمالية في ظل المجتمعات الاشتراكية أو الماركسية. ومن أجل التعبير عن التورية الزائفة التي تستخدمها الرأسمالية في المدرسة يمكن أن نحيل القارئ إلى أحد الأفلام الفرنسية الساخرة عام 1959 للمخرج الفرنسي المعروف "هنري فيرني" Henri Verneuil وعنوانه "البقرة والسجين " La Vache et le prisonnier، حيث تقمص الممثل الفرنسي فرناندل Fernandel دور أحد سجناء الحرب الذين كانت ألمانيا النازية تقوم بتشغيلهم في المزارع مقابل أجر يدفعه صاحب المزرعة إلى الجيش الألماني، وقد فكر هذا السجين في الهروب حيث يستحيل الهرب، ولكنه في النهاية اهتدى إلى فكرة عبقرية مجنونة تبدو من مقتضيات المستحيل، ووفقا لهذه الفكرة المجنونة أخذ السجين بقرة كان يرعاها واسمها "مارجريت" -وهي إحدى بقرات المزرعة التي يعمل بها-، وعلق في رقبتها جرساً يضج بالرنين، ثم سار بها عبر المراعي المفتوحة التي لا تحتاج نقاط المراقبة فيها لأدنى جهد حتى ترصد من يعبرها؛ وطوال رحلته إلى الأراضي الفرنسية لم يشكّ أي جندي ألماني في أن صاحب البقرة سجين هارب؛ حيث كان يجري الاعتقاد أنه عامل في إحدى المزارع القريبة يرعى بقرته، وإلا فلماذا لم ينزع الجرس من رقبة البقرة حتى لا يفتضح أمر هروبه؟! ولماذا لم يسلك طريقًا بعيدًا عن السهول المكشوفة؟! لكن الجرس والسهول المكشوفة لم تكن في الحقيقة إلا معلومات تعلن عن نفسها، وهذا النوع من المعلومات إن لم يكن مضللا فإنه لا يكاد يقول شيئا يساعد على الربط بين ما يعلن من قول أو من فعل وبين ما يراد بهذا وذاك! ([31]).
وتلكم هي حال المدرسة، فهي تقرع الأجراس بأنها مدرسة العدالة والحرية والقيم والمساواة وذلك من أجل تضليل روادها ومنتسبيها وإخفاء الوظائف الحقيقية لها التي تكمن في تلبية متطلبات الأنظمة الرأسمالية أو الاشتراكية. لقد لاحظنا أن السجين لما يكن له ليحصل على حريته لولا قدرته على إبداع نوع من التضليل الهادف للتغطية على أهدافه الحقيقة في الهرب، وتلك هي حال المدرسة التي تضع في الخفاء وظائفها الأيديولوجية من أجل أداء دورها الطبقي والأيديولوجي.
حادي عشر: الأبعاد الأيديولوجية:
لا يمكن للخفي أن يبقى خفيا إلى الأبد حيث استطاعت طليعة من المفكرين النقديين بعبقريتهم النقدية الكشف عن الخفايا الإيديولوجية للنظام المدرسي، فكشفوا الحجب المضمرة وأسقطوا الأقنعة بمعاول النقد السوسيولوجي، وقاموا بتعرية الأدوار الرأسمالية والبرجوازية للمدرسة والأنظمة التعليمية في مختلف أنحاء العالم، ومن ثم استطاعوا بجهودهم العلمية النقدية الهائلة أن يؤسسوا نوعا من الأدب الفكري التربوي الكاشف عن ملابسات الوظائف الخفية للحياة المدرسية.
لقد بدأت سهام النقد توجه إلى المدرسة من كل حدب وصوب، بوصفها جهازا إيديولوجيا يسعى إلى تكريس التفاوت بين التلاميذ وفقا لمعايير الانتماء الاجتماعي والطبقي السائد في المجتمع. فالمدرسة على حد تعبير بورديو Bourdieu »تترجم اللامساواة الاجتماعية إلى صيغتها المدرسية عبر صيرورة من العمليات والأوليات المختلفة«[32]. وهي في عرف بودلو Boudelot أداة في خدمة البرجوازية تعمل على دفع أطفال العمال إلى الإخفاق واتخاذ مواقعهم في مراكز الاستغلال الاجتماعي، وهي إضافة إلى ذلك كله تسهم في معاودة إنتاج العلاقات البرجوازية القائمة([33]).
وقد برزت أسماء مهمة في مجال علم الاجتماع وعلم الاجتماع التربوي النقدي من أهمها: إيفان إليتش، وبيير وبرديو، وجورج سنيدر، وباول فرايري، وبول كليزك، وبودلو واستبابليه، وبودون، وغيرهم كثير.
ويعد كتاب بيير بورديو Bourdieu. P وجان كلود باسرون J. C. Passeron «معاودة الإنتاج L a reproduction» من أكثر الكتب أهمية وخطورة التي كرست للكشف عن الوظائف البرجوازية الخفية للمدرسة، حيث يتناول الكتاب العلاقة العميقة التي تقوم بين النظام التعليمي والنظام الاجتماعي التي تتجلى في صيغة إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة وتكريس البنية الاجتماعية للنظام الاجتماعي القائم([34]). يقول بورديو " إن بنية النظام المدرسي ووظيفته تعملان على ترجمة اللامساواة من مستواها الاجتماعي، بشكل مستمر ووفقا لرموز متعددة، إلى اللامساواة في المستوى المدرسي"([35]). وليس للمدرسة من مهمة "سوى تعزيز وتأكيد قيم الطبقة الاجتماعية السائدة والعمل على إعادة إنتاج العلاقات الطبقية القائمة ثم إعطائها طابع الشرعية في آن واحد"([36]).
ويعد كتاب الورثة Les Héritiers من الأعمال السوسيولوجية المهمة التي سجلها بورديو وزميله باسرون Passeron، وهو يبين تأثير الانتماء الاجتماعي الثقافي في عملية التحصيل المدرسي والاجتماعي في فرنسا([37]). ويذهب هذا المذهب المفكر الفرنسي جورج سندير Synders في كتابه «المدرسة والطبقة وصراع الطبقات Ecole Classe et Lutte des Classes" حيث يحاول في عمله هذا أن يبين انعكاس الوضع الاجتماعي للطلاب والتلاميذ على وضعيتهم المدرسية ([38]). ومن الأعمال المهمة التي أغنت السوسيولوجيا التربوية في فرنسا تبرز الأعمال المشتركة التي قام بها كل من بودلو Baudelot واستابليه Estabelet ولاسيما كتابهما الشهير «المدرسة الرأسمالية في فرنسا L'école capitaliste En france" الذي أخذ صدى عالميا، حيث يتناول فيه الباحثان وضعية المدرسة الفرنسية بوصفها أداة أيديولوجية توظف في خدمة الطبقات الاجتماعية البرجوازية وتعمل على تعزيز هيمنة وسلطة هذه الطبقة على حساب الطبقات الاجتماعية الشعبية([39]). فهما يعتقدان أن المدرسة في فرنسا ليست سوى آلة برجوازية في خدمة الطبقة البرجوازية الفرنسية ؛ لأن وظيفتها تكمن في دفع أطفال العمال إلى الإخفاق المدرسي، وإلى مواقعهم الاجتماعية المحددة لضمان عملية استغلالهم وتكريسها. وهما يريان أن المدرسة الرأسمالية تعمل على ترجمة التباين الاجتماعي القائم بين الأفراد في المجتمع إلى تباين مدرسي يتجلى في المستويات المختلفة للنتائج المدرسية. وفي المحصلة يرى الكاتبان أن المدرسة تعمل على إعادة إنتاج علاقة الإنتاج الرأسمالية وتعزيزهها([40]).
وتجدر الإشارة أيضا إلى العمل الذي قام به رايموند بودون Boudon R بعنوان «تفاوت الحظوظ L’inégalité des chances " وهي دراسة تسعى، كما يعلن بودون نفسه، إلى دراسة الحراك الاجتماعي في المجتمعات الصناعية المعاصرة ودور المدرسة في توجيه الحراك الاجتماعي وفقا لاعتبارات طبقية([41]).
وفي بريطانيا استطاع باسيل برنشتاين Basil Brenstein أن يبحث مسألة العلاقة بين اللغة والطبقات الاجتماعية بطريقة عبقرية كاشفة لتأثير الانتماء الطبقي في بنية اللغة والتفكير عند الأطفال والتلاميذ، ولقد أدرج برنشتاين خلاصة أفكاره في كتابه المعروف «اللغة والطبقات الاجتماعية Langage et classes sociales" . ويبين برنشتاين في كتابه هذا أن اللغة العمالية التي تسود الوسط العمالي لغة تتباين عن تلك التي تسود في أوساط الفئات المتوسطة، وأن ذلك يؤدي إلى التباين في مستوى النجاح المدرسي ؛ لأن لغة المدرسة أكثر تجانسا مع اللغة التي تسود في وسط الطبقة الوسطى([42]).
ويعد كل من بودلو Baudelot واستابليه Establet وبيير بوردديو Bourdieu Pierre وباسرون Passeron وبرنشتاين Bernstien من أبرز ممثلي الاتجاه النقدي في المنهج الخفي[43]. وهم يذهبون في جملة ما يذهبون إليه، إلى أن الطبقة البرجوازية هي التي تقوم بتحديد معايير وسمات الثقافة المدرسية بما ينسجم مع ضرورات الهيمنة البرجوازية على المستوى الاجتماعي والثقافي. فالطبقة البرجوازية، كما يعتقد إيفان إليتش، ترى في توسع وهيمنة الثقافة المدرسية نوعا من الاتساع في هيمنتها وسيطرتها. والمدرسة وفقا لذلك ليست سوى إحدى الأدوات الثقافية لسيطرة الطبقة التي تهيمن وتسود، وأنها ليست، في نهاية الأمر، سوى مؤسسة برجوازية تسعى لتكريس التباين الطبقي وتعزيزه.
ثاني عشر: استراتيجيات خفية: إقصاء واحتواء.
من حيث الصورة الكلية تبدو المدرسة وكأنها محكومة بقيم العدالة والمساواة، وأن وظيفتها الأساسية التعليم ونقل المعرفة إلى الجميع وفقا لمواهبهم وقدراتهم. ولكنها في جوهرها تقوم بوظائف أيديولوجية حيوية تدفع بفئات من الطلاب إلى النجاح وبفئات أخرى إلى الإخفاق والفشل. ومن حيث المبدأ يمكن القول بأن المدرسة أشبه بمصنع متناهي القدرة والدقة على التصنيف والفرز الاجتماعي فهي قادرة وفقا لآليات عملها على أن تجعل الأقوياء أكثر قوة والضعفاء أكثر ضعفا. الجميع يدخل إلى المدرسة ولكن بعضهم يخرج منها مكللا بالغار، في حين يخرج معظمهم منها موسوما الهزيمة: فأبناء الطبقات الغنية الميسورة البرجوازية يحصدون العلم والمعرفة والقوة والاقتدار، أما أبناء الفقراء والفلاحين والعمال فإنهم يحصدون خيبة الأمل وقليلا من المعرفة التي تؤهلهم لدور العمال والعاطلين عن العمل.
عندما يدخل الأطفال اليوم إلى المدرسة فإنهم يجدون أنهم أصبحوا جزءا من بنية تنظيمية ذات معايير أساسية ثابتة لا تكاد تتغير، وتتلخص في فصل يقوده مدرس بالغ وعدد من التابعين الصغار الذين يجلسون عادة في صفوف ثابتة تتجه إلى الأمام ويمثلون معا الوحدة الأساسية لمدرسة عصر التصنيع، وعندما ينتقلون بعد عام آخر من فصل إلى فصل أعلى فإنهم يظلون ثابتين داخل نفس الإطار التنظيمي. ومن هنا فإنهم لا يجنون أي خبرة بأي شكل آخر من أشكال التنظيم، ولا يمرون بمشكلة التحول من شكل تنظيمي إلى آخر، ومن ثم لا يحصلون عل أي تدريب على تعدد الأدوار([44]).
فالتجربة الثقافية الغنية، لأطفال الفئات الاجتماعية الميسورة، التي تتميز بوفرة المثيرات الثقافية، من كتب وفيديو وتلفزيون ومستوى تعليمي مرتفع لذويهم ومن رحلات ترفيهية، ونشاطات علمية، هذه التجربة لا تجعل من وسطهم الثقافي هذا متجانسا مع ثقافة المدرسة فحسب، وإنما تجعل منه وسطا ثقافيا متطورا وغنيا بالقياس إلى الثقافة المدرسية، على المستوى المعرفي والتربوي، ومن البداهة بمكان أن يكون النجاح المدرسي نتاجا عفويا لتجربتهم الثقافية.
وعلى خلاف ذلك، فالتجربة الثقافية لأطفال الأوساط الثقافية والاجتماعية المتواضعة، لا تجعل من الثقافة المدرسية ثقافة مغايرة لثقافتهم فحسب، وإنما تجعل منها ثقافة منافية ومتناقضة مع ثقافتهم وتجربتهم الثقافية. وفي الوقت، الذي يجد فيه أطفال الفئات البرجوازية في المدرسة امتدادا واستمرارا لأجوائهم العائلية، فإن هذه المدرسة تبدو لأطفال الفئات الاجتماعية الفقيرة كعالم غريب، يتناقض مع معاييرهم وأنماط حياتهم الثقافية والاجتماعية. وهذا ما تذهب إليه بوركيير إفلين Burquiere عندما تقول:
»إن أطفال الفئات البرجوازية يأتون إلى المدرسة وهم مسلحون بمعاييرها وقيمها، أما أبناء الفئات الفقيرة فإنهم يأتون إليها وهم مجردون من هذه الأسلحة بحكم ثقافتهم المرجعية (...) إن زادهم الثقافي الضحل، وفقا للمعايير المدرسة، لا يسمح لهم بالدخول في منافسة عادلة مع الآخرين على صعيد النجاح والتفوق المدرسيين»([45]).
ثالث عشر: مواقف راديكالية: إلغاء المدرسة.
وكان لهذه الانتقادات الموجهة ضد المدرسة أن تشكل مخاض ولادة اتجاه فكري جديد ينادي بإلغاء المؤسسة المدرسية والمؤسسات التربوية الأخرى. ويعدّ المفكر التربوي ايفان ايليتش Ivan Illich من أبرز دعاة وممثلي ذلك الاتجاه. ينطلق ايليتش، وغيره من الداعين إلى إلغاء المؤسسات المدرسية في هجومهم على المدرسة، من الأطروحة التي تقول إن الثقافة التي تبثها المدرسة ثقافة شكلية لا صلة لها بالحياة الاجتماعية والواقع الاجتماعي، الذي يعيشه أطفال المدارس. ويذهب ايليتش بعيدا في تصوراته ليعلن من جديد أن "المجتمع الذي يخلو من المدرسة سيخلو من العقبات التي تقف في وجه أبناء الفئات الاجتماعية المهيضة (....) أن الدعوة إلى مشروع تربوي متكافئ عادل ما هي إلا حماقة وهراء برجوازيان" [46].
لقد تحولت المدرسة، كما يرى إيفان إليتش، في كتابه مجتمع من غير مدرسة Une societé école إلى مؤسسة تربوية تعمل، في كل المجتمعات الإنسانية ومن غير استثناء، على تطويع الإنسان وتجعل منه كائنا مسلوب الإرادة مستلب الحرية، فهي أداة العبودية والقهر في المجتمعات الإنسانية المعاصرة. لقد تحولت المدرسة إلى رمز للسلطة السياسية، وإلى أداة أيديولوجية تغرس في الأطفال وعيا مشوها وفكرا أيديولوجيا معتوها يخدم الطبقات المستغلة في المجتمع([47]). فالمدارس ونظام التعليم الأمريكي - كما يرى إليتش - ليست سوى مؤسسات للقهر لا تنتج الإبداع والخيال، وتفرض الخضوع والاستغلال وتجعل الطلاب يقبلون مطواعية مصالح واهتمامات ذوي السلطة الأقوياء. فالمنهاج الخفي Hidden Curiculum يؤدي هنا دورا كبيرا في بناء مهارات الانصياع وأخلاق الخضوع، فالتلاميذ والمعلمين ليس لهم سيطرة أو رأي في موضوع الدراسة وأسلوب التدريس، فهم في سياق نظام سلطوي يجب عليه الخضوع كليا للنظام القائم والانصياع لغاياته ([48]).
فالمنهاج الخفي Hidden Curriculum يؤدي هنا دورا كبيرا في بناء مهارات الانصياع وأخلاق الخضوع، فالتلاميذ والمعلمون ليس لهم سيطرة أو رأي في موضوع الدراسة وأسلوب التدريس فهم في سياق نظام سلطوي يجب عليه الخضوع كليا للنظام القائم والانصياع لغاياته([49]). فالرسالة التي تحملها المدرسة مختلفة جدا عن الأهداف التي تحددها، وهذه الرسالة الخفية تأخذ مكانها في نفوس الأطفال، وتنفذ إلى أعماق الشخصية الإنسانية وتهدف هذه الرسالة في نهاية الأمر إلى استلاب شخصية الطلاب والتلاميذ وقمعهم وتشكيلهم على الصورة التي تريدها ثقافة المجتمع السائدة، وهي غالبا ثقافة التسلط والإكراه.
رابع عشر: آليات الترويض والقهر في المنهاج الخفي: تقاسيم الزمان والمكان.
جزء كبير مما يتعلمه التلميذ ليس له علاقة بمحتويات الدروس، وإنما يقصد بطلب الطاعة المطلقة وجعل التلميذ يستهلك استهلاكا سلبيا كل التحيزات الدينية والقيمية والأيديولوجية التي يزخر بها أي مجتمع، ولا تهدف المدارس الرسمية إلى تحقيق المساواة في قدرة الأفراد بل تهدف إلى ترسيخ اللامساواة في هذه القدرات([50]). لذلك لابد من الحذر من المنهاج الخفي وهو غرس قيم الطاعة والخضوع والمذلة في نفوس الناشئة والذي يقتل روح الإبداع في النفس العربية ([51]). فالمدرسة أداة لإعادة إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته واختناقاته لمصلحة النخبة المهيمنة ([52]).
يمثل ما يجري في دائرة الحياة المدرسية من طقوس علائقية ومشكلات وعلاقات في الفصل الدراسي وخارجه، بدءا من الحفلات المدرسية والطوابير، والأنشطة والرياضة والرحلات، أحد الوجوه الخفية لفعالية تربوية على غاية من الأهمية والخطورة.
يصف الباحث الأمريكي جاكسون Jackson الوجه الخفي للحياة المدرسية ودوره في تطبيع التلاميذ وتطويعهم لمعايير التسلط بطريقة مملة. فحين يدخل الطفل الصغير إلى المدرسة، فهو يدخل بيئة أصبح على ألفة كبيرة بها، وهو يحفظ تعاليمها وقواعدها حتى وإن لم يطقها، ويعرف جيدا أن عليه اتباع قواعد محددة: لا صوت عاليا خلال جلوسه، ليس له أن يقاطع أحدا إلا بإذن، أن يرفع يده إن كان لديه سؤال، أن يستجيب لمجرد إشارة المعلم بقلمه([53]).ومن الواضح تماما أن هذه القواعد تهدف إلى تدجين الطفل وتعويده على الخضوع والانصياع. فحتى حركات العيون التي يجب ألا تفارق ورقة الامتحان هي مقوم من مقومات التطبيع، وحظوة مبرمجة نحو وضعية الامتحان والانصياع لإكراهات المجتمع الطبقية والاجتماعية.
قد تبدو هذه العمليات بسيطة جدا بالنسبة للمتأمل العادي، ولكن التحليل العلمي يبين أن هذه الأواليات والأساليب والعمليات تنفذ إلى عمق الشخصية الإنسانية وتبرمجها بصورة شمولية. فالطفل الذي لا يعرف المدرسة لا يعرف قانونية الخضوع والامتثال والانصياع كالذي خبر الحياة في هذه المدارس.
فالرسالة التي تحملها المدرسة مختلفة جدا عن الأهداف الواضحة التي تحددها، وهذه الرسالة الخفية تأخذ مكانها في نفوس الأطفال وتنفذ إلى أعماق الشخصية الإنسانية، وهي تهدف في نهاية الأمر إلى استلاب شخصية الطلاب والتلاميذ وقمعهم وتشكيلهم على الصورة الثقافية التي تريدها الطبقة التي تسود في المجتمع، وهي غالبا ثقافة التسلط والإكراه.. فالمدرسة الرأسمالية تقسّم وتمعن في التقسيم، إنها تقسم الناس والهواء والزمان والمكان. والتقسيم هنا يعني الفصل والامتهان وتوليد حالة من التمايز والاغتراب بين التلاميذ في عقولهم وأمكنتهم ووجودهم ونظرتهم إلى الحياة. إنها تجزئ وتفصل وتفكك وتدمر الكليات إلى أجزائها، وهي تطحن الأفراد وتحولهم إلى مادة أولية في دورة الإنتاج الرأسمالي التي لا تتوقف عند حدود مرسومة أو نقاط معلومة.
ومن أهم عناصر المنهاج الخفي قهر المكان بوصفه لغة صامتة، فالإنسان يوجد مع المكان الذي يعيش فيه لأنه يشكل وعاء يحتوي ذكرياته المؤلمة منها والسارة، والمكان يأخذ طابعا رمزيا له دلالات مختلفة في شعور الفرد، فالمكان بجماله وقبحه، واتساعه وضيقه، يعبر عن لحظات وجودية بالنسبة للأطفال. فالمكان المتسع والجميل الشامخ يبعث في نفس المتعلم نوعا من الاحترام لذاته، وعلى خلاف ذلك فالمكان القذر والضيق والقبيح يعطي التلاميذ إحساسا بالدونية. فالمدرسة الجميلة تسجل عند الأطفال انطباعا أنهم جديرون بالاحترام([54]).
ولا ينفصل قهر المكان عن قهر الزمان وتقسيماته، حيث يتميز الزمن المدرسي برتابته وتقاسيمه ويشكل نوعا من القضاء الذي يجب على الطفل أن يخضع له. فالطفل مكره على أن يأتي المدرسة في أوقات محددة، والعام الدراسي يبدأ وينتهي في وقت محدد، وتمضي السنوات والأيام، وفي هذا الانتظام رسالة مضمره وغاية مدرسية خفية قوامها تشكيل الأطفال على إيقاعات تحددها الثقافة السائدة في المجتمع، فالنظام يقتضي تراتبية في الزمن، وتنسيق الزمن يشكل بعدا من أبعاد التسلط للقوانين.
وتخطيط الزمن وتنظيمه يعبر عن طبيعة حياة الطبقة السائدة في المجتمع، وأصحاب الياقات البيضاء، فالزمن مخطط منظم عند أفراد هذه الطبقة، ولذلك فإن تخطيط الزمن وتنظيمه في المدرسة يتوافق مع الصورة الثقافية لمفهوم الزمن لدى الطبقة السائدة في المجتمع. فأبناء الطبقات الوسطى يدركون الزمن، ويتمثلونه في وسطهم السابق للمدرسة على نحو ما هو في المدرسة ولكن أطفال العمال والفلاحين، وصغار الكسبة، يرون في تقاسيم الزمن المدرسي ورتابته صورة تتنافى مع مفهوم طبقتهم للزمن ودورته. لذلك فإن التوافق في صورة الزمن يؤدي إلى النجاح والتفوق، وهذا يعني أن الزمن هنا بأنساقه ورتابته يمارس دورا قهريا ضد أبناء الفئات الاجتماعية المدحورة.
ويضاف إلى ذلك أن الأوامر والنواهي، وأنماط السلوك والقواعد المنظمة، والإيماءات والإيحاءات، تشكل نموذجا ثقافيا للطبقة السائدة، وهذا يعني أن هذه النماذج تشكل دورا ترويضيا يكره الأطفال على قبول هذه القيم، وهذه الرموز كخطوة أولى إلى قبول النظام الثقافي السائد على نحو قهري.
خامس عشر: التفاعلات الطبقية: رسائل خفية.
النظام التفاعلي داخل المؤسسات المدرسية يمارس دورا كبيرا في توضيح الرسالة الخفية للمدرسة. ويتعلق هذا المستوى بالطريقة التي يعامل بها المعلمون طلابهم، والطريقة التي ينظر فيها التلاميذ إلى المعلمين تمارس دورا كبيرا في تأدية الرسالة الخفية للمدرسة، يقول الدكتور عبد السميع سيد أحمد في هذا الخصوص إن الطريقة التي يعامل بها المعلمون طلابهم: "تكون في كثير من الأحيان أكبر من تأثير الطبقة التي ينتمون إليها أو أكبر من الخلفية الأسرية لهم"([55]).
فالأوامر والنواهي، وأنماط السلوك والقواعد المنظمة، والإيماءات والإيحاءات، تشكل نموذجا ثقافيا للطبقة السائدة، وهذا يعني أن هذه النماذج تشكل دورا ترويضيا يكره الأطفال على قبول هذه القيم، وهذه الرموز تعتبر كخطوة أولى إلى قبول النظام الثقافي السائد على نحو قهري. فنظرات الازدراء والاحتكار التي يوجهها المعلمون إلى أبناء الطبقات الفقيرة، تساهم بشكل كبير في توليد مشاعر الدونية والقهر وتبخيس الذات عند أبناء هذه الطبقة، وعلى خلاف ذلك فإن كلمات التشجيع وابتسامات الرضا، وعبارات التقدير والثناء التي يحيط بها المعلمون أبناء الطبقات المشيدة تؤدي دورا حيويا وقاطعا في تأكيد مشاعر التفوق والقوة وتقدير الذات والنجاح عند أبناء هذه الفئة الاجتماعية، وفي النهاية فإن المدرسة تعمل في منظومة خفائها على الترويض والتطبيع ولا توجد أمام الطلاب سوى عدة خيارات أهمها الخضوع والمسايرة، أو الثورة، فبعض الأطفال يسايرون ما هو قائم في المدرسة، فيؤدي ما هو مطلوب منه، ويتمثل دوره جيدا، ويتحول إلى نموذج مثالي، فهو يحترم السلطة ويرفع راية الخضوع ويتحلى بالصبر، ويكبت رغباته، وهم تلاميذ نظاميون مؤدبون مهذبون، وعلى خلاف ذلك هناك فئات من الأطفال تقابل القهر الخفي للمدرسة بالتمرد والهروب والعنف وهذا ما يدفع بهم إلى دائرة الإخفاق والفشل.
يصف شارلز سيلبرمان، عبر أبحاثه التي أجراها حول وضعية التعليم العام في المدارس الأمريكية، أن هذه المدارس عبر المنهاج الخفي تعمل على توليد الضبط الاجتماعي وتفرض نظاما من الصمت، ويخيم عليها جو الرهبة والضغط ويحيط بالتعليم فيها جو من التسلط والخوف([56]).
سادس عشر: التسلط والقهر:
إن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تعمل المدرسة ويسعى المجتمع إلى تبني تربية تعتمد القهر وتسعى إلى بناء الإنسان المستلب؟ ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يمكن القول بداية بأن المدرسة لا تعمل ولا تعلم إلا ما ثبتت شرعيته الاجتماعية، وهي بالتالي تتبنى الغايات والأهداف والسياسات والمناهج التي ارتضتها السلطات الاجتماعية والسياسية القائمة بعد طول تجريب واختبار([57]). ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم غائية القهر في العمل التربوي بصورة عامة وفي العمل المدرسي بصورة خاصة. فالعنف في إطار هذه الرؤية يستمد غائيته ومشروعيته من عمق الوضعية الاجتماعية السلطوية القائمة، لذا كثيرا ما يتردد على ألسنة المفكرين الثوريين أنه لا يمكن للمدرسة في مجتمع عبودي قائم على القهر أن تكون مدرسة ديمقراطية([58]).
إذ ليس للمدرسة من مهمة -على حد تعبير بورديو وباسرون في كتابهما معاودة الإنتاج- " سوى تعزيز وتأكيد قيم الطبقة الاجتماعية السائدة والعمل على إعادة إنتاج العلاقات الطبقية القائمة ثم إعطائها طابع الشرعية في آن واحد[59] . وغني عن البيان أن القيمة المحورية للطبقة السائدة -أيا كان شكلها وديدنها- هي قيم العلاقات العمودية بين أصحاب الحول والقوة وبين أهل الضعف والخشية. فالسلطة هي جوهر القيم الأساسية التي تعمل الطبقات المهيمنة على تسييدها، لأن امتلاك الأدوات والقدرات الخاصة للعملية التربوية، يضمن استمرارية الفعل الثقافي، وإعادة إنتاجه، وهنا يجب القول إن تأثير الفعل التربوي يختلف عن منظومة الفعاليات الاجتماعية الأخرى.
رؤية إجمالية: نحو وعي تربوي بالأدوار الأيديولوجية والطبقية للمدرسة:
حاولنا في هذه الدراسة أن نضع منهجا جديدا للتعريف بالمنهاج الخفي وتحديد أبعاده الفاصلة عن المنهاج الشكلي من جهة وبينه وبين المنهاج الواقعي من جهة أخرى. واستطعنا بذلك تجاوز بعض الاختزالات المنهجية التي تعيد المنهاج الخفي إلى المنهاج الواقعي. ولم نقف في منهجيتنا هذه على تخوم التعريف والوصف بل تجاوزنا ذلك إلى تحليل نقدي عميق لمختلف الوظائف الأيديولوجية والطبقية للمنهاج الخفي.
وقد بينت ملاحظاتنا أن المنهاج الخفي يؤدي دوره الحيوي في إقصاء أبناء الفئات الاجتماعية المهمشة، عبر أواليات الإخفاق، وتنمية أحاسيس الدونية والقصور لديهم، وتوليد عملية إخفاقهم المدرسي باستمرار. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن كثيرا مما يتعلمه التلميذ في المدرسة قد لا يرتبط جوهريا بمحتويات الدروس والمقررات(المنهج المعلن) بل يرتبط بعملية ترويض الطالب على قيم ومعايير محددة تتمثل في قيم الطاعة، واستهلاك التحيزات الاجتماعية والقيمية والأيديولوجية السائدة في المجتمع وفقا للمنهاج الخفي والمستتر المعتمد. ووفقا لهذه الرؤية فإن المدرسة وفقا لمناهجها الخفية لا تهدف إلى تحقيق المساواة بين التلاميذ والطلاب بل تهدف إلى ترسيخ مبدأ اللاتكافؤ بينهم([60]) . وهنا لابد من الحذر من المنهاج الخفي بما يغرسه من قيم سلبية تتمثل في قيم الطاعة والخضوع وإضعاف روح الإبداع في نفوس الطلاب، حيث تكون المدرسة أداة لإعادة إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته واختناقاته لمصلحة النخبة المهيمنة ([61]) . ومن أجل الكشف عن المناحي الأيديولوجية الخفية الكامنة في أصل المنهاج الخفي، تناول البحث مختلف التعريفات والدراسات الأجنبية والعربية في هذا الميدان، وتأسيسا على نتائج هذه الدراسات تمّ التأسيس لرؤية نقدية تتجاوز حدود المنهج التقليدي في تناول ظاهرة المنهاج الخفي، حيث تم الفصل بين ثلاثية المنهاج الخفي التي تتمثل في المنهاج الرسمي، والمنهاج الواقعي، والمنهاج الخفي، حيث قدم المنهاج الخفي بوصفه معادلة اجتماعية طبقية، أريد لها أن تكون خفية وذلك من أجل تحقيق أهداف اجتماعية تربوية بعيدة المدى في دائرة المؤسسات التربوية.
ووفقا لهذا التوجه قامت الدراسة بتحليل نقدي للمنهاج الخفي وفقا للدراسات النقدية في علم الاجتماع التربوي التي تناولت الأسس الطبقية والأيديولوجية للوظيفة المدرسية في مجتمعات برجوازية. وعبر هذا التحليل النقدي استطاعت الدراسة أن ترسم الحدود الأيديولوجية والطبقية للمنهاج الخفي في المدرسة بوصفه مضمونا مشبعا بالمعطيات والمضامين الأيديولوجية للطبقات الاجتماعية السائدة في المجتمع.
لقد مثل بحثنا هذا في مدار المنهاج الخفي محاولة علمية متواضعة للكشف عن مجاهل هذه الظاهرة وأبعادها بمنهجية أردناها أن تكون مغايرة، وحاولنا أن نقدم تصورا مستجدا عن كيفية منهجية جديدة للكشف عن مستجدات هذه الظاهرة والفصل بين أبعادها المختلفة.
وقد شكلت الدراسات والأبحاث والمقولات والتصورات حول المنهاج الخفي مادتنا العلمية، حيث استطعنا، عبر إخضاعها للدراسة والنقد، أن نكتشف معالم جديدة ومضامين أيديولوجية عميقة الدلالة في تضاريس مفهوم المنهاج الخفي. وبعد التعريف بهذا المنهج وتجلياته المختلفة، جاء التركيز في نهاية الأمر على المضامين الأيديولوجية في سياق نقدي تاريخي للوظيفة التربوية للمدرسة.
لقد بينت دراستنا في نهاية الأمر أن المنهاج الخفي نتاج متكامل من الفعاليات الوظيفية الغائية التي تحكمها معايير أيديولوجية وطبقية، وقد بينت أيضا أن المنهاج الخفي ليس مجرد تراكمات تربوية غير محسوبة، كما تقول معظم الدراسات، بل هو تنظيم تربوي بالغ التنظيم والتحديد، إنه بعبارة واحدة منظم للوظيفة الطبقية الأيديولوجية في المدرسة.
وفي ضوء ما قدمناه من حقائق وتحليل في مضامين المنهاج الخفي يلاحظ أن المناهج بمفهومها الشمولي لم تدخل إلى مدارسنا في البلدان العربية وما زال دخولها محدودا ونادرا إلى حد كبير. والتعليم العربي ينطلق من المقررات لا أكثر من ذلك وذلك يؤدي إلى تجزؤ المعرفة وانشطارها (الحطاب، 1989). وما نريد قوله هنا إن النظام الخفي الذي يعزز سلطة الطبقات والتقسيم الاجتماعي ويولد تربية الانصياع والعبودية والإكراه الذي يتحدث عنه باولو فرايري قائم في نظامنا التربوي ولكنه أشبه "بفيروس" غير معروف من أصحاب الإدارة وأصحاب القرار في الأنظمة التربوية العربية. وما يبدو من أن هذه الأنظمة التربوية العربية مع ذلك تؤدي وظائفها في خدمة التسلط والإكراه والعبودية والتدجين الطبقي والجمود يعود إلى قيمة واحدة مفادها أن فيروس التربية الخفي (تعزيز التسلط) المتوغل في عمق التربية العربية والثقافة العربية عموما أعد من أجل مجتمعات قائمة على التسلط والتباين، وعلى هذا الأساس تكون هذه الأنظمة فاعلة ومفيدة في نظام طبقي يقوم على التفاوت الطبقي والاجتماعي، حيث تكون فيه قيمة التسلط والإكراه هي القيمة العليا في نظامه التربوي.
فالمناهج التربوية العربية مشبعة بالرموز والمفاهيم والقيم التي تعبر عن حياة الطبقة الاجتماعية التي تسيطر، وهي تمثل سعيا منهجيا منظما لتدجين الأجيال المتعاقبة من الأطفال، وذلك على صورة القيم والمعايير التي تعبر عن الطبقة الاجتماعية السائدة وتكرس حقوق الطبقة التي تحكم وتسيطر[62]. وعلى هذا الأساس يتمثل الطفل عن طريق هذه المناهج كل ما يتنافى مع أسباب وجوده بوصفه منتميا إلى الطبقات المقهورة في إطار الحياة الاجتماعية. فمناهج المدرسة لا تعنيه ولا تعبر عن قضاياه بل تكرس فيه خضوعه المقدس لسادة النظام وسدنة القهر، وفي هذا الخضوع المقدس الشامل لرموز التسلط يكمن جوهر الاغتراب ولحمته.
[2] - Gordon, David, The Concept of the Hidden Curriculum, Journal of Philosophy of Education,Vol.16,No2, 1982.
[4] - فتحي حسن ملكاوي، التفكير المنهجي وضرورته، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 28. 2008. الموقع الإلكتروني : http://www.eiiit.org/eiiit/eiiit_article_read.asp?articleID=436&catID=256&adad=277
[5]- مجموعة من المؤلفين، معجم علوم التربية، سلسلة علوم التربية، دار الخطابي للطباعة والنشر، 1994.
[6]- مصطفى حسن، الفلسفة والمؤسسة التربوية: أسئلة التحول في المجتمع العربي المعاصر، نحو رؤية سوسيولوجية نقدية، فكر ونقد، السنة الثانية، عدد12، أكتوبر/تشرين الأول، 1998، صص (115-125)، ص122.
[7] - يعقوب أحمد الشراح، المناهج الخفية، الطبعة الأولى، مطابع القبس ،الكويت، 2004، ص 115.
[8]- بنعيسى احسينات، حول مقاربة المنهاج الدراسي في مجال التربية والتعليم، 2008 ، وطن، موقع إليكتروني :
http://www.watan.com/index.php?name=News&file=article&sid=6422
[10]- عبد الرحمن بن صالح المشيقح، الثبات والتغير في منهج مدرسة المستقبل، ورقة عمل مقدمة لندوة مدرسة المستقبل، كلية التربية - جامعة الملك سعود، في 22-23 أكتوبر، 2002.
[12] - يعقوب أحمد الشراح، المناهج الخفية، الطبعة الأولى، مطابع القبس ،الكويت، 2004، ص 117.
[14] - Jackson, Philip, Life in the Classroom , New York: Holt Rinehart and Winston, 1968.
[15] - علي وطفة، علم الاجتماع المدرسي، بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها الاجتماعية، مكتبة الطالب الجامعي، الكويت، 2003.
[16]- Henry, Jules, Cultural Against Man, New York: Vintage Books. 1963.
[17] - Kollberg, Lawrance, The Moral Atmosphere of the School, in Overly (ed.), The Unstudied Curriculum and It's Impact on Children, 1970.
[18] - شوكت، محمد؛ محمد، مصطفى عبد السميع، مقياس المنهج المستتر، مكتبة الصفحات الذهبية للنشر والتوزيع. الرياض ، 1993، ص 3 .
[19] - المسلم، بسامة خالد، ، المنهج الخفي: معناه ومكوناته ومخاطره، المجلة التربوية، العدد التاسع والثلاثون، 1996، ص 82.
[20]- محافظة، سامح، ، المنهاج الخفي: مراجعة نقدية تحليلية للأدبيات، شئون اجتماعية، العدد التاسع والثلاثون، السنة العاشرة، جمعية الاجتماعيين العرب،1993، ص 176.
[21] - فلاته، إبراهيم محمود حسين، (1984)، المنهج المستتر ودوره في العملية التربوية في المدرسة الابتدائية، مطابع بهادر، مكة المكرمة، 1984، ص 19.
[22]- عبد السميع سيد أحمد، علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية،1993، ص 21.
[23] - يعقوب أحمد الشراح، المناهج الخفية، الطبعة الأولى، مطابع القبس ،الكويت، 2004، ص 117.
[26] - P. Dominicé, L'histoire de vie comme processus de formation, Paris, L'Harmattan, 1990.
[27] -P. Bourdieu, Le sens pratique, Paris, Ed. de Minuit. 1980.
[28] - حتى في المجتمعات الماركسية بقيت الوظيفة الأيديولوجية للمدرسة حيث مارست دورها المطلوب في بث الأيديولوجيا الماركسية وتعزيزها وفقا لنفس الآليات والاعتبارات الأيديولوجية للرأسمالية.
[30]- J. Hallak , A qui profite l'école? même source, 1974, P 120.
[31] - سيف الدين عبد الفتاح، حسن نافعة، العولمة: محاضرات الموسم الثقافي لقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة 1999-2000،القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،2000.
[33] - Baudelot (C. ) et Establet (R. ), L'école capitaliste en France, Paris, Maspero, 1971.
[34]- Bourdieu (P. ) et Passeron (J. C.)k La Reproduction: pour une théorie du système d'enseignement, Minuit, Paris,1970.
[35]- P. Bourdieu &(J. C. ) Passeron, La reproduction, Paris. Minuit, 1970, (P. 192).
[36]- P. Bourdieu &(J. C. ) . La reproduction , Passeron, même source, P. 246.
[38]- Synders George: Ecole classe et lutte des Classes, Paris, P. U. F. , Paris, 1974.
[39]- Snyders (G. ), Ecole classe et lutte des classes, P. U. F, Paris, 1982.
[40] - Baudelot (C. ) et Establet (R. ), L'école capitaliste en France, Paris, Maspero, 1971.
[41]- Boudon Raymonde, L’inégalité des chances: la mobilité sociale, dans les sociétés industrielles, Paris, Armod Colin, Paris, 1974.
[42]- Brenstien Basil, Langage et Classes sociales, Minuit, Paris, 1975.
[43]-Snyders(G. ), Ecole classe et lutte des classes, P. U. F. ,Paris, 1882.
[44] - آلفين توفلر، صدمة المستقبل أو المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمد علي ناصيف، نهضة مصر، القاهرة، 1990، ص330.
[45] Burguiere Evelyne, Culture et classes sociales: Inégalités ou différences culturelles, dans C. R. E. S. A. S. l'handicap socio-culturel en question, les Editions E. S. F. , Paris, 1981. (P 103)
[46] - Illiche Ivan, Une société sans école, Seuil, Paris, 1971 ,P. 26.
[47]- Illich Ivan , Une société sans école, même source , P26.
[48]- حمدي علي أحمد، علم اجتماع التربية، دار المعرفة الجامعية، السكندرية، 1995. ص 197.
[49]- حمدي علي أحمد، علم اجتماع التربية، المرجع نفسه، ص 197.
[50]- -خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، المستقبل العربي، عدد 174، آب/ أغسطس، 1993? (صص 67-86)، ص 70.
[51] - انظر : خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة، المرجع السابق، (صص 67-86).
[52] - خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة،المرجع السابق ، ص 83.
[58] -Regarde: Illiche Ivan, Une societé sans école, Seuil, Paris, 1971.
[59] -P. Bourdieu &(J. C.) Passeron, La reproduction,.Minuit, Paris, 970, p246.
[60] خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، المستقبل العربي، عدد 174، آب/ أغسطس، 1993. (صص 67-86)، ص 70.
[62] - سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية، عالم المعرفة، عدد 198، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو/حزيران، 1995، ص206.
0 تعليقات