إنّ الصحافة الإلكترونية
وعلى الرغم من حداثة نشأتها في العالم العربي، إلا أنّها بدأت تشهد العديد من
المشاكل، ولعلّ من أهمّها تعاظم هشاشة بنية أخلاقيّات المهنة في سياق تراجع صرامة
الهرميّة الإداريّة والتحريريّة. كما أنّ لهذه الهشاشة وجهًا آخر يرتبط أساسًا
بتعدّد مهام العاملين في هذا المجال، ما أفقد العمل الإعلام الإلكتروني جودته
الشاملة، وخلق نوعًا ما من فوضى المُمارسة الإعلاميّة التي تعدّدت أوجهها، وتنامت
أشكال تبعاتها السلبيّة.
النشر الإلكترونيّ هو النشر
الرقمي للكُتب والمقالات الالكترونيّة، وقد أصبح شائعًا في مجال النشر العلميّ،
ويُعرّفه (أحمد بدر في كتابه علم المكتبات والمعلومات) بأنّه: "الاختزان
الرقميّ للمعلومات مع تطويعها وبثّها وتوصيلها وعرضها إلكترونيًّا أو رقميًّا عبر
شبكات الاتصال، وهذه المعلومات قد تكون في شكل نصوص، أو صور، أو رسومات تتمّ
مُعالجتها آليًّا"، بينما النشر التقليديّ للمعلومات يتمّ من خلال طباعة
الكُتب والصُحف والمجلات وتوفيرها للقُرّاء.
وينقسم النشر الإلكترونيّ
إلى نوعين هما: النشر الإلكترونيّ المُوازي (وفيه يكون النشر الالكترونيّ مأخوذًا
عن النصوص المطبوعة والمنشورة ومُوازيًا لها)، والنشر الإلكترونيّ الخالص (وفيه لا
يكون النشر عن نصوصٍ مطبوعة، بل يكون إلكترونيًّا صرفًا).
ومن أسباب اللجوء للنشر الإلكترونيّ:
إمكانية استقبال المُنْتَج المنشور في أيّ وقت؛ والقابلية للتّحويل من وسيط لآخر؛ إلى
جانب الشيوع والانتشار عبر نطاقات واسعة.
ولصناعة النشر الإلكترونيّ
العديد من المُتطلّبات منها: البنية التحتيّة اللازمة؛ والموارد البشرية تكوينًا
وتدريبًا؛ والمناخ العام في المجتمع الفكريّ، الاجتماعيّ، الثقافيّ والسياسيّ؛
وأخيرًا التشريعات اللازمة لتنظيم تلك العملية..
إنّ لكلّ مهنة أخلاقيات لا
تستقيم الأمور بدونها. ويذكر مجاهد الهلالي أنّ: "الأخلاق" هي الأساس أو
الركيزة الأولى التي يُقام عليها بُنيان مهنة العاملين في مؤسسات المعلومات، وأنّ
القواعد والقوانين الخاصة بالأخلاق المهنية أو السلوك المهني تُسهم إسهامًا كبيرًا
في توليد الكرامة المهنية، ومُمارسة الواجبات وفقًا لمبادئ وقواعد مُقنّنة مُتّفق
عليها من قِبل العاملين بالمهنة، وهي تخدم غرضين بالنسبة لأعضاء المهنة؛ فهي من
ناحية تُوفّر حماية أفضل للأعضاء، كما أنّها، من ناحية أخرى، تُوفّر خدمة أفضل
للجمهور المُستفيد من المهنة.
ومن هنا نطرح العديد من
التساؤلات الأخلاقية المهنية: ما هي واجبات العاملين في مجال النشر الإلكترونيّ؟،
وكيف نحفظ حقوق الأشخاص بعد إنشاء وتسجيل أيّ شكل من أشكال النشر الإلكترونيّ؟،
ثمّ ما أهمية الالتزام بأخلاقيات مهنة النشر؟
تكمن أهمية الالتزام
بأخلاقيات مهنة النشر الإلكتروني في عدّة نقاط يُمكن إجمالها فيما يلي:
- إنّ الأخلاق هي أساس نجاح كلّ نشاط إنسانيّ، ومهنة النشر ـ كغيرها؛
تقوى وتزدهر إذا تمّت مُمارستها داخل إطارها الأخلاقي.
- إنّ نجاح النُّظم يعتمد على ما يكون لدى العاملين بها من معرفة،
ومقدرة على المُبادرة، وتحمّل مسئولياتها؛ إذ النُّظم كالحصون، لا يكفي أن يكون
تصميمها حسنًا، كما يقول كارل بوبر، بل ينبغي إمدادها بالجنود الصالحين.
- إنّ الالتزام بأخلاقيات مهنة النشر لا يؤدي إلى نجاحها فقط، وإنّما
يرفع من مصداقية هذه المهنة، وتحقيق رسالة مؤسسة النشر، ويزيد من قيمة المُنْتَج
المنشور، والعكس صحيح.
- الناشر هو أحد أقطاب منظومة المعلومات في المجتمع، وكلّما مارس
مهنته بأخلاقياتها، ازدادت جودة هذه المنظومة، وفي عصر المعلومات، حيث أصبح الكفاح
من أجل تحسين المُحتوى العربي للمعلومات على الانترنت وخارجه ضرورة مُلحّة، ما
يدفعنا إلى ضرورة تحسين كافة أقطاب تلك المنظومة.
- وفي مقابل ما سبق، تسقط المنظومة المعرفية إذا سقطت المنظومة
الأخلاقية، وبما أنّ الناشر هو أحد أقطاب منظومة المعلومات، فإنّ أخلاقه المهنية
تنعكس سلبًا أو إيجابًا على المنظومة ككلّ.
- أيضًا، فإنّ الناشر لا يقلّ مكانةً ـ فيما نعتقد ـ عن المُعلّم؛
لأنّ كليهما يُساعد على نشر العلم النافع، أو هكذا ينبغي أن يكون.
- أخيرًا، فإنّ مهنة الناشر ـ فيما نعتقد ـ تُشبه مهنة الرُّسل عليهم
السلام؛ الذين يقومون بتوصيل محتوى الرسالات من المعلومات إلى الناس، كلّ الناس.
إنّه ينبغي على الناشر
التحلّي بالعديد من الصفات الأخلاقية، سواء كان كاتبًا، أو مؤسسة منوطة بالنشر،
ولعلّ أهم تلك الأخلاقيات: الصّدق؛ والأمانة، والإتقان؛ والإخلاص؛ والحياد؛ والدّقة؛
والموضوعية؛ والنزاهة؛ والسماحة؛ والانتماء؛ والعلم المُستنير.. أيضًا تحليل
الموضوعات وتفسيرها والتعليق عليها؛ والإقرار بالأخطاء؛ وأن يُميّز في مقاله بين
المادة المقتبسة وأفكاره الشخصيّة (احترام الملكيّة الفكريّة للغير)؛ إلى جانب التدقيق
النحويّ والإملائيّ.
لقد حدث أن كتبتُ مقالًا
بعنوان "الفقر الأخلاقي العربي المُعاصر"، جاء في جزئين، نُشِر الأول
على موقع المُثقّف بتاريخ 17/ 4/ 2019م، ثمّ ألحقته بالجزء الثاني، على ذات الموقع بتاريخ 24/ 4/ 2019م. وبتاريخ
16/ 8/ 2019م، أطلّ علينا د محمود محمد علي ـ رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط ـ
بمقال تحت عنوان: الفقر الأخلاقي شعار حروب الجيل الخامس، والمنشور على موقع الحدث
الإخبارية، ويقوم مقاله على (نسخ لصق) من الجزء الأول من مقالتي المذكورة بعد حذف
بعض التفاصيل وإضافة كلمات للعنوان وصدر السطر الأول إلى جانب السطر الأخير، ما
جعلني أكتب مقالًا آخر بعنوان "سؤال للدكتور محمود محمد علي بخصوص مقالته
الفقر الأخلاقي شعار حروب الجيل الخامس"، وأرسلته للنشر على موقع المُثقّف..
لم ينشر المثقف مقالتي على
الفور، بل أرسل المقال للطرف الآخر تحسُّبًا لحدوث خطأ أو التباس، مع توضيح الأمر
له بأنّ نشر مقالي حقًّا شرعيًّا، وقد أجاب الأخير إجابةً مائعة بصدد سؤالي الرئيس
له، وما أن اتّضح الأمر لهيئة التحرير حتى قامت بنشر المقال على الفور..
وفي المُقابل، فإنّ الحدث
الإخبارية لم تُزوّد القراء بعناوين الروابط المُستخدمة في المقال، وكاتبها لم
يتوخّ الدّقة والوضوح في مصطلحاته، كما أنّه لم يتطرّق إلى سُبل الوقاية، بل نسخ
المقال في عُجالة لأجل إتمام الصفقة، وهنا نتساءل: هل تتجرّأ الحدث الإخبارية على
استخدام سياسة استبعاد الأعضاء الذين ثبُتت مُخالفتهم لأخلاقيات ومعايير النشر؟!
إنّ قوانين وأخلاقيات النشر
الإلكترونيّ لا زالت غير واضحة المعالم، وغير مُكتملة، وحُضورها خجولًا للغاية.. وهذا
الواقع المليء بالتحوّلات يفرض على الصحافة الإلكترونيّة وضع قواعد أخلاقيّة صارمة
لكلّ العاملين فيها، وإقرار مُدوّنات سلوك تشمل كلّ الأطراف المُشاركين في إنتاج
مضامينها. وإن كُنّا نميل إلى أنّه لا بدّ لمثل تلك السلوكيّات أن تكون طوعية
وناتجة عن قناعة وليس بإملاء القانون.
محمد عرفات حجازي: باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر
0 تعليقات