عالم الأخلاق بين الخلق والإنتاج
بقلم: سلامة عبيد الزريعي
تعددت المواقف والمذاهب
الفكرية وتباينت في نظرتها إلى المبادئ والقواعد التي تحكم الإنسان في أفعاله وتصرفاته،
يربطها البعض بفكرة الإله كمبدأ مطلق، وأن البشر لا حول ولا قوة لهم من إمكانية، ولا
للقدرة الإنسانية على الفعل والإنتاج مهما تعاظمت المبررات، فالله هو الخالق،
والإنسان هو المخلوق بقدراته وإرادته الحرة، وربما المكبلة بقدرة الخالق، فإذا كان
مبدأ الخلق هو الإله والإنتاج هو الإنسان فهل العلاقة منفصلة بينهما وإذا تجلت في
الانفصال ألا يعني عدم ثباتها مطلقا وبالتالي لا يلتقيان ؟
هذا السياق يقودنا مباشرة
إلى التساؤل بدقة أكثر عن الله والإنسان والأخلاق وموقف "باومان" من
ذلك، وهل الإنسان شريك في خلق عالم أخلاقي أم أن الأخلاق هي خلق مقصود، أم علاقة
تشارك وتعاون متبادل ؟
"باومان"، "للأسف"[2]
ليس باحثا متخصصا في التفاسير والشروح النقدية، المتناقضة، فاغلب ما يعرفه، يعتمد
على تنظير آخرين ومفسرين آخرين لا يمكن حصرهم. "يبدو أن أعدادهم تتزايد بلا
نهاية"[3].
تدخل "باومان" لحسم النقاشات الدائرة في هذا المضمارــ الأخلاق، والخلق، والإنتاج ــ ومدى إمكانية التشارك بين الله والإنسان في خلق عالم أخلاقي، مبتدءا بتحليل العلاقة بين الله والإنسان.
1.
الله والإنسان:
يرى "باومان" بأن
العلاقة بين الله والإنسان لا تبدو أبدا متعلقة بالجدال الدائر حول التوحيد وتعدد الآلهة[4]. ففي فكرة الخلق، كما فعل الله الأساسي للمنظومة
التوحيدية، يشغل الإنسان مكانة مركزية...فهو غاية، وأداة اكتمال..وتحقيق...أو
الفاعل المهم في الاكتمال والتحقيق[5]. ــ وهذا معناه، أن النشاط البشري مكون ضروري لعمل الله[6]. فهذا تأكيد على العلاقة التبادلية، التي تقوم على
الاعتماد المتبادل بين الله والإنسان.
وقد وصف هذا الاعتماد
بالقول بأن "النشاط القوي للإنسانية يضفي معنى استرجاعيا على خلق الله للعالم
والبشر، وان لم يكن هذا المعنى غير موجود في الخطة الإلهية الأصلية، ولا سبيل أن
نعلم، ذلك لأنه لم يكن هناك من سبيل إلى معرفة اله الغنوصيين[7] على مدار
قرون قبل ظهور فكرة " الشيء في ذاته" عند كانط... فكان الإله عندهم، مثل اله النور المطلق غير المتناهي"[8].
كان الإله خالقا ومنزها
يعلو البشر جميعا، وهو النور والروح والمطلق والمقدس وليس مدنسا. يتحدث عنه
الإنسان ويصفه، يتصوره ويتخيله في تجلياته، فما هو إلا صورة رسمت عبر الزمن في
الذاكرة والخيال. وما من سبيل لمعرفته سوى في تجلياته.
2.
المقدس والمدنس:
يرتبط المقدس بالإله،
والإنسان بالمدنس، وبما أن الإنسان لم يتمكن من معرفة كيف أن الله خلق العالم
والإنسان، فان الاعتراف بعدم إمكانية المعرفة وضع الإله فوق البشر ورسم خطا بين
المقدس والمدنس، وكأن عبور هذا الخط بمثابة الكفر أو تدنيس المقدسات[9]. ونظرا لارتباط المقدس بالمطلق واللانهائي الذي لا يمكن
الوصول إليه ولعدم ارتباطه بالواقع على خلاف المدنس المرتبط بالإنسان، وبالتالي لا
تجوز المقارنة بينهما. إن الإنسان في "مذهب القبالاء[10]" لم يكن
يستطيع المقاربة بين صفات الله إلا عبر التجليات، والصور، وعلى درجة الخصوص،
التجليات والفيوض، وعبر ما يستطيع الإنسان أن يتمكن من التعلم منها[11].
عندما بدأ اكتشاف
التناقضات التي لا يستطيع التوحيد التخلص منها: وحدانية الإله بين التنوع البارز
لمخلوقاته، وخيرية الله إلى جانب الفوضى الأخلاقية للعالم المخلوق[12]. ولدت أسطورة الخطيئة الأولى التي توجه اللوم للبشر
المطرودين من الجنة على الفوضى الضاربة بالعالم، على العكس مما يواجه البشر بمهمة
إصلاح العالم المحطم واستعادة التناغم بين خلق الله وغايته، وتحويل هذه الرسالة
إلى جزء من مشيئة الله[13].
يعتبر "باومان"
بأن تحطم العالم عبر الفعل الإلهي المعروف باسم "انكمش".. بعد أن كان
متماثلا مع الوجود نفسه .. أي انسحب جزء من الكون، ليفسح المجال لإصلاحه بأيدي
البشر لتصلح ما تشاء من إصلاحه[14]. إن الانكماش والانسحاب على الذات وعلى النور والروح
المطلقة، لا تنتهي أبد فهي فوق البشر، وما ترك لهم في متناول أياديهم وتحت قدراتهم
الإرادية. "فالله وحده هو الذي شرع في خلق العالم، وأما الخلق نفسه، فافترض
منذ البداية، ذلك الاعتماد المتبادل والتعاون بين الخالق ومخلوقاته البشرية"[15].
·
رأي أخر:
يرى بأن الله يخطئ في
المبالغة في تقدير قدرة البشر، وميلهم إلى الخير، وليس الغرض من المعاناة التي
يذوقها البشر أن تكون عقابا من الله وانتقاما لمعصيته، وإنما العكس هو الصحيح، بان
الانكماش وانسحاب الإله وترك مجال الإصلاح للبشر، نتيجته طبيعية هي خلق مساحة خارج
حماية الله وخيريته، كأنها دعوة من الله للبشر للتعاون في استكمال خلق الله، وما هذه
الدعوة إلا ترقية للإنسان إلى مرتبة الخالق المشارك للوجود[16]. وإذا كان انكماش الإله وانسحابه حطم الأغلفة التي
تحتوى على النور، وروح الإله، فان شظايا الأغلفة المادية تبعثرت في أنحاء الأرض،
ووضعت أهل الأرض في وضع جمعها وإصلاحها، بمعنى استرجاع الشذرات الإلهية المبعثرة
ورأب الصدع في توهج شامل للجميع[17].
·
منظور أخر:
يمثل رؤية إصلاحية في
إعادة تشكيل وضع المنفى من كونه عقوبة على الخطايا إلى دعوة للخلاص، خلاص الناس من
خطيئة السقوط من الجنة وجماعة العالم من السقوط. "وفي هذه الحالة فان الإنسان
شريك الله في خلق عالم أخلاقي، وليس نتاجا مقصودا ولا غير مقصود لهذا الخلق، ولا
نتاجا ناجحا ولا عاجزا لهذا الخلق"[18]. هذه الشراكة ــ يمثلها الله ــ وفي هذه الشراكة يمثل الله السلطة الهادية إلى
الطريق، والدافعة إلى الاستمرار في رحلة الدنيا، وأما الإنسان الذي اختاره الله
سلطه هادية فيحظى بفرصة التقدم في الطريق[19].
تكشف العلاقة بين الله
والإنسان، المقدس والمدنس، عن التعاون والشراكة والتبادل بينهما، ورغم تباين الرؤية
حول طبيعة العلاقة فكلاهما يؤكدان على وجود تشاركية بين الداخل والخارج، بين الذات
والموضوع، وهنا يبرز الإغواء والحرية.
3.
الإغواء:
يعتقد "باومان"
بأن أدق تفسير وتعبير لعلاقة الله بالإنسان هو رأى الفيلسوف "ايمانويل لفيناس"[20] فيما يصفه بأنه، الإغواء، مفصلا في أنواعه: "إغواء
المعرفة" / "إغواء الإغواء" / و"غموض المعرفة"/
و"استقلال الأنا"[21].
·
الأول: إغواء المعرفة: وهو إغواء تلك الحال التي قد ينصت فيها المغوي إلى أغنية الحوريات المغويات
من دون التخلى عن العودة[22].
·
الثاني: إغواء الإغواء: وهذا النوع من الإغواء ليس انجذابا إلى هذه اللذة الملموسة أو تلك اللذة
التي يخاطر من اجلها الغاوي بالتخلي عن جسده وروحه، فالغاوي المغوي بإغواء الإغواء
ليس اللذة[23]. وإنما الغموض.
·
الثالث: غموض الموقف: جوهر هذا النوع من الإغواء ليس اللذة، بل هو غموض الموقف الذي تبقى فيه
اللذة إمكانية، ولكن لا تزال اللذات تحتفظ بحريتها في الاختيار فهي لم تستسلم بعد،
إنها تحافظ على مسافتها.
·
الرابع: استقلال الأنا: هذا النوع من الإغواء عبارة عن إغواء في موقف تحرص فيه الأنا على
استقلالها، لكن ذلك الاستقلال لا يلغي إمكانية الفناء على يد الإغواء والارتقاء أو
الاتضاع[24].
4.
الحرية:
تكمن خلاصة الإغواء في أن
الحرية تشكل جوهر جميع أنواع الإغواء، وتربط هذه الحرية بين الداخل والخارج، بين
الذات والموضوع، وتنذر بمخاطر الشر، لكنها تبشر أيضا بإمكانية قهره[25]. وهذا هو
بالتحديد كما يرى "لفيناس" "إغواء الإغواء". وهو ما يتطلع
إليه "باومان" ومن اجله الحرية والتي بفضلها إما أن تقودنا إلى الشر
وإما تجاوزه وتخطيه نحو عالم الخير والأخلاق.
وفي الختام نستنتج: بأن
"الحرية عند "باومان" حالة ممتدة من عدم اليقين. تؤكد إمكانية الخطأ والسقوط. وهذا هو بالضبط إمكانية خلاص العالم عبر مقاومة الشر. تلك المهمة التي تقع على كاهل البشر. تلك الملكة أي الحرية، ترقى بالبشر إلى مرتبة الشركاء المقاسمين لله في خلق عالم أخلاقي، فمن دون الإنسان لن يحدث هذا الخلق[26]"، وعليه فأن عالم الأخلاق محصلة خلق وإنتاج بين الإله والإنسان تلعب بينهما الحرية الإنسانية دورا جوهريا دون انفصام.
سلامة عبيد الزريعي / باحث في الفلسفة
[1] زيجمونت
باومان (1925م ـــ 2017م )، احد علماء الاجتماع والمفكرين الغربيين المعاصرين، عاش
متنقلا قبل أن يستقر في انجلترا منذ العام 1971م عقب إرغامه على الخروج من بولندا
في عملية تطهير نظمها البوليس السري الشيوعي. غادرت عائلته للاتحاد السوفيتي بعد
الغزو الألماني عام 1939م. اتخذ موقف نقدي من الحداثة الغربية... وقد كان أكثر
المنظرين الاجتماعيين، وتميز بإنتاجه الفكري المميز، ناشرا 57 كتابا وأكثر من مائة
مقالا معظمها تتناول تيمات شائعة كالحداثة، وما بعد الحداثة، وحول الاستهلاك،
والثقافة ، والشر، والخوف، والحرية، والرقابة، والأخلاق، وفن الحياة...، وهو من سك
مصطلح الحداثة السائلة لوصف الطبيعة المتقلبة والمتغيرة دوما لحياة ما بعد
الحداثة.
[2] زيجمونت
باومان وستانسواف أوبيرك، عن الله والإنسان، تر، حجاج أبو جبر، الشبكة العربية
للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2018م
[3] المصدر
نفسه
[4] المصدر
نفسه
[5] المصدر
نفسه
[6] المصدر
نفسه
[7] مصطلح
الغنوصية (Gnosticism) مشتق من كلمة يونانية تعني المعرفة أو العرفان،
ويُقصد بها المعرفة الكشفية الإشراقية (الحدسية) التي يكتشف صاحبها المعارف العليا
مباشرة بالحدس دون استدلال وتفكير عقلي، ودون حاجة إلى الوحي ، لذا فهي فلسفة تضع نفسها موضع الدين من حيث
اهتمامها بالإجابة على الأسئلة الثلاثة الأساسية للأديان، وهي: المبدأ (من أين جاء
العالم؟)، الغاية (لماذا يوجد العالم؟)، والمصير (إلى أين نحن ذاهبون؟)، حيث يزعم
أصحابها أنهم يتوصلون عبرها إلى معرفة الحقيقة واكتشاف غاية الحياة وطريق الخلاص،
وذلك عبر الطرق السرية الباطنية. راجع موسوعة السبيل، https://al-sabeel.net
[8] زيجمونت
باومان وستانسواف أوبيرك، عن الله والإنسان، المصدر السابق
[9] المصدر
نفسه
[10] قباله:
تعني "التلقي" أو "الاستقبال"، وهي تطلق على مجموعة من
المعتقدات التراثية اليهودية المعقدة، والقبالة هي التراث الصوفي اليهودي الحلولي،
ذات طابع حلولي كموني غنوصي. وقد سيطر الفكر القبَّالي على التفكير الديني اليهودي
منذ القرن السادس عشر. وأشد أنواع القبَّالاه حلولية وتطرُّفاً القبالاه
اللوريانية، نسبة إلى إسحق لوريا، ومن أهم كتب القبَّالاه كتاب الزوهار. https://www.marefa.org
[11] زيجمونت
باومان وستانسواف أوبيرك، عن الله والإنسان، المصدر السابق
[12] المصدر
نفسه
[13] المصدر
نفسه
[14] المصدر
نفسه
[15] المصدر
نفسه
[16] المصدر
نفسه
[17] المصدر
نفسه
[18] المصدر
نفسه
[19] المصدر
نفسه
[20] إيمانويل
ليفيناسM فيلسوف فرنسي من أصل لتواني (1906-1995)، تمحورت
فلسفته حول سؤال الأخلاق والميتافيزيقا.درّس في عدة جامعات آخرها جامعة السربون
بفرنسا. أصدر عشرات المؤلفات والدراسات والمقالات، من أهمها: "نظرية الحدس في
فينومينولوجيا هوسرل"(1930)، و"الزمان والآخر"(1980)، و"الله
والموت والزمان" (1995)، "قراءات تلمودية جديدة"(1996). وغيرها من
المؤلفات. راجع: مؤسسة مؤمنون بلا حدود،https://www.mominoun.com
[21] زيجمونت
باومان وستانسواف أوبيرك، عن الله والإنسان، المصدر السابق
[22] المصدر
نفسه
[23] المصدر
نفسه
[24] المصدر
نفسه
[25] المصدر
نفسه
[26] المصدر
نفسه
0 تعليقات