الدولة والمواطن في فلسفة أرسطو عبد العزيز كريم

فيلوكلوب أكتوبر 27, 2019 أكتوبر 27, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: الدولة والمواطن في فلسفة أرسطو
-A A +A

محاور المقالة

تقديم :
الفصل الأول: الدولة:
المحور الأول: نشأة الدولة عند أفلاطون:
المحور الثاني: نشأة الدولة عند أرسطو:
المحور الثالث: التمييز بين الدولة والحكومة:
1.                  الأمير والمنافقين:
2.                   أسباب فقدان الأمراء لدولهم:
الفصل الثاني: المواطن
المحور الأول: تصنيف طبقات المجتمع:
1.                  العبيد:
2.                   المرأة:
المحور الثاني: المواطن:
1.                  تعريف المواطن:
2.                   فضيلة المواطن الصالح:
المحور الثالث: علاقة المواطن بالدولة:
خاتمة
قائمة المصادر والمراجع

تقديم:

   إن الدراسة الفلسفية لن تكون ذات قيمة أو أهمية، إن لم تحاول أن تسلط الضوء على واقع الإنسان وأن تقف على مشاكله الموضوعية، فتقوم بتحليلها في جميع جوانبها ووجوهها وتكشف حقيقتها وتعوض في أعماقها لتصل إلى أسبابها وتحدد انعكاساتها وتجلياتها، والأهم في ذلك أن تضع لها الحلول المناسبة، فمهما أختلف الناس في أجناسهم وطبقاتهم وتصوراتهم الاجتماعية، فإنهم خضعوا في الماضي، ويخضعون في الحاضر، وسيخضعون في المستقبل إلى سلطان سياسي، ذلك أن السياسة تلعب دورا جوهريا في مسار الإنسان وسعيه نحو السعادة، ولا يخفى على أحد من أهل النظر والفكر الوضعي، الذي آلت الحياة الإنسانية بما فيها القلق والارتباط والخوف، والأزمات التي يتخبط فيها الإنسان المعاصر على جميع الأصعدة والمستويات، وهو وضع يدعو الجميع إلى الاستنفار، وفي مقدمتهم المستغلون بالفلسفة. ومن أهم الموضوعات والمفاهيم التي تعرضت ولا زالت تتعرض للانتكاس موضوع الدولة، وهو جعلنا نعتقد أن جهدا أكاديميا، ولم يتغلغل في كوامن هذا الوضع ليبرز جوانبه، خاصة وأن عصرنا الحالي لن يسمح لنا بتجاوز فكرة الدولة دون التطرق لفكرة الأخلاق الملازمة للممارسة السياسية، وكيف أثر اختلالها على واقع الحياة الإنسانية، فالحروب التي تشتغل الآن بقاع المعمورة تحصد الألاف من بني البشر، وهذه الحروب كلها تحت دعاوي سياسية تداخلت فصولها وتعددت أشكالها، فتحولت السياسة من كونها شرعت للحفاظ على البقاء لتصبح أول من يهدد هذا البقاء ويدفعه نحو الزوال والفناء، ولقد لعبت الفلسفة اليونانية دورا بارزا في تاريخ الفكر الفلسفي عامة، والفكر السياسي والقانوني خاصة، حيث رأست تلك الفلسفة الأساس لمقاربة الطبيعة والمجتمع مقاربة نظرية، وكان فلاسفة اليونان أول من طرحوا قضايا أساسية تتعلق بالدولة والقانون والسياسة، حيث وتقت العلاقة بين الفرد والدولة وأحاطتها بسياج القانون، وداخل هذا الإطار الكبير إطار السياسة سيكوين من المهم تحليل مفهوم الدولة والمواطن، وتقصي العلاقة القائمة بينهما، حيث يثير مفهوم الدولة في القضايا القانونية والسياسية المعاصرة تساؤلات، وقد شكل موضوع الدولة في الفكر اليوناني القديم أهمية كبيرة لذى الباحثين في مجال النظم السياسية والتشريعات القانونية، وإن هذه الأهمية تأتي من نجاح الفكر اليوناني في الكشف عن بعض المفاهيم القانونية والسياسية، مقومات تلك المفاهيم، مما أثرى الفكر البشري بتراتب مازال مصدر الهام لكل من أراد استطلاع أبواب العلم والمعرفة، وقد حاولت في هذا البحث التركيز على الدولة في مفهومها وطبيعة نظامها السياسي ومعرفة من هو المواطن اليوناني وعلاقته بالدولة في الفكر اليوناني القديم عند أرسطو، وذلك من خلال تبيان ومعرفة خواص هذا الفكر وطبيعته السياسية والقانونية التي أصبحت مرجعية بالغة الأهمية على مر العصور، إن الفلسفة السياسية هي فروع الفلسفة كما أنها في الوقت فرعا من فروع العلوم السياسية، ويصنفها أرسطو ضمن العلوم التطبيقية، نظرا لارتباطها بالممارسة العلمية، والفلسفة السياسية هي أيضا إحدى المحاور الأساسية لموضوعات الفكر السياسي.
    تتناول السياسات المتبعة أو التي يجب أن تتبع الملكيات العامة والخاصة وعن القانون، ما هي؟ ولماذا يحتاجها الإنسان وماهي المعايير؟ اعتبار حكومة شرعية، وما هي الحقوق والحريات التي يجب أن تقيد، ولماذا وكيفية إجراء التقييد عليها، كما تعرف الفلسفة السياسية قانون  وتحاول تحديد واجبات المواطن، اتجاه حكومة شرعية، إن كانت تحكمه حكومة شرعية تعود الفلسفة السياسية للرغبة في التفكير في ما تطرحها الحياة السياسية من مشكلات، تستعصي على الفهم والحل، وهي تختلف عن علم السياسة من جهة، أنه إحصاء وترتيب للنظم السياسية، وتختلف عن علم اجتماع السياسي من جهة، ما هو بحث في الأبعاد الاجتماعية للتجربة السياسية، وترجع أهمية هذا البحث إلى أهمية موضوعه الذي يعد من أكثر المجالات التي عنى بها الإنسان المعاصر، فالبحث يهدف إلى استخراج العناصر المفيدة من النظريات القديمة والتي تؤدي عملها في الواقع المعاصر، كما يهدف هذا البحث إلى تحديد القواعد التي بنى عليها أرسطو نظريته في الدولة، ومذهبه السياسي، وماهية المواطن الإغريقي وعلاقته بالدولة، كما يهدف إلى دراسة آرائه واستخراج الكليات التي سار عليها الفيلسوف في بحثه، أما عن سبب اختياري لشخصية أرسطو كنموذج الفكر السياسي اليوناني، فيعود لعدة أسباب منها ما هو موضوعي صرف، ومنها ما هو ذاتي:
الأسباب الموضوعية: تتمثل في شخصية أرسطو ذاته إذ أنه يحتل أهمية بارزة داخل الفكر الفلسفي، ما أهمله فيلسوف  قديم أوحديث أو معاصر، فإن المرور به حتى من قبل خصومه ظل إجباريا، فكل فلسفة أتت بعد أرسطو خاصة، سواء تعلق الأمر بالفلسفة الغربية حديثة كانت أو معاصرة، أو بالفلسفة الإسلامية كذلك، إن أفكارأرسطو تشكل جزءا نابضا بالحيوية في الحضارة بشكلها العام، وهو أكثر الفلاسفة استقطابا للدراسة والاهتمام، فقد أعطى لمن أتوا بعده أداة ضرورية من أدوات الفكر، وكان فيلسوفا جامعا أعجب به كثير من الفلاسفة المعاصرين أمثال: داروين وهيغل واعتبروه مفكرا تأمليا أعمق وأشمل من أفلاطون. فمن أراد أن يتعلم من هذا الفيلسوف العظيم، فعليه أن يقصد المصدر، لا القراءات و لا التعليقات، وأن يقصد المذهل ففيه النقاء والوضوح، فالتجربة علمتني أن حينما نتعمق في دراسة فيلسوف واحد عظيم، فإن السبيل لمعرفة سائر العظماء يعد أفضل وأسرع...، فإن العظماء وحدهم يكشفون لنا عما أمكن تحقيقه، والوصول إليه، وعما لا يزال من الممكن بلوغه بالعمق والاستقلال و السعة واشتداد الفكر، والأهمية الجوهرية، وهذا لا يعني أبدا التقليل من شأن أي من الفلاسفة في أي عصر أو مذهب   ينتمي إليه، وإنما نعني به أن الأصل، يحافظ دوما على أسبقيته وأصالته وثباته، فيعود اختياري هذا إلى أهمية الفكر الفلسفي الأرسطي، وأصالته في الفكر الغربي والعربي والإسلامي على حد السواء، وما قدمه لنا هذا الفيلسوف من أفكار ونظريات أخلاقية وسياسية، تعد اليوم مرجعية أساسية للفكر الأخلاقي والسياسي.
    الأسباب الذاتية: فيعود أهمها إلى أنه لا يمكننا أن نتجاهل إعجابنا بذلك الرجل الفذ، هذا الفيلسوف الذي أبدع في جميع مجالات الفكر بدءا من البيولوجيا والعلوم الطبيعية، وصولا إلى أقصى حدود التجريد مرورا بالمنطق، وعندما اطلعت على آرائه في السياسة والأخلاق فوجدت فيها من أفكار ما يكفي الإنسانية للتوجه نحو الصواب والسير نحو أفضل ما يمكن أن تكون عليه، وإن اعتلى بعض النقص أفكاره هذه، إلا أنها تبقى في مجملها صرب متميز من التفكير يختلف تمام الاختلاف عما ساد في عصره وزمانه، وهو الذي تحمل مسؤولية عظيمة، بأن اقترح للناس طريقا واضحا ومعبدا يسيرون عليه، بينما اختار غيره أن تخلق أفكاره في السماء ورفض تحمل مثل تلك المسؤولية، كذلك اهتمامنا بدراسة الفكر السياسي اليوناني، عند هذا الفيلسوف العظيم انطلاقا من كونه أهم مرجعية سياسية في الفكر القديم والرغبة في التعرف على ما يحمله فكره من نظريات وأفكار راقية ومنطقية لو كانت حاضرة في فكرنا المعاصر لمكنتنا من مواجهة الكثير من المشاكل السياسية، وحلها في أغلب الأحيان. ولا شك في أن كثيرا من الباحثين قد تناولوا سياسة أرسطو، بالبحث والتحليل والمقارنة والجمع والنقد، لكن هذا البحث يهدف إلى تحديد القواعد والسمات الأساسية في سياسة أرسطو، ونظريته في الدولة وتحديد من هو المواطن واستنتاج علاقته بالدولة وأهميته فيها، ومعرفة أطره العامة، التي انتهجها وعمل على التفريغ عليها من خلال بحثه السياسي، أما الإشكالية المركزية التي سنحاول تناولها بالبحث، فيمكن تلخيصها في السؤال التالي: ما العلاقة بين الدولة والمواطن عند أرسطو؟ للإجابة على هذه الإشكالية لا بد أن نمر بجملة من المشكلات الجزئية، والتي تعتبر أساسية من أجل الحصول على إجابة متكاملة مثل التساؤل عن نشأة الدولة قبل أرسطو، ومن شروط قيام الدولة الأرسطية؟ وهل كان لأرسطو منهجا محددا سار عليه في بحثه السياسي؟ وما هي العوامل المتحكمة في سير الدولة؟ وما الذي يملك حق المشاركة في الحكم؟ ومن هو المواطن؟ وما علاقته بالدولة؟ وما أهمية الفكر السياسي الأرسطي في العصر الحالي؟
        إن طبيعة الموضوع وإشكاليته يتمثل بالأساس في تقصي حقائق المذهب الأرسطي ونظريته في الدولة والمواطن، من خلال كتاب "السياسة" التي صحت نسبته لأرسطو رغم الاختلاف حول ترتيبه، وكذلك عدم إتمام أرسطو له، بالإضافة إلى ما اعترى الكتاب من تشويه ونقص بسبب عوامل الزمن والتعامل معه في كثير من الأحيان، فقد اعتمدت على هذا الكتاب بصفة خاصة، بالإضافة إلى مراجع أخرى مثل "الجمهورية" و "الأمير" اللذان يشكلان مرجعيان أساسيان حول السياسة الحقة، لفهم كيفية سير الدولة والقوانين المتحكمة فيها. إن مفهوم الدولة وحده يتسم بكثير من الثراء وأفاقه وتحمل العديد من الإشكاليات التي شغلت فكر الإنسانية، وكذلك مفهوم المواطن الذي تعذر وضع تعريف محدد له، بل إن فلسفة السياسة كان لزاما عليها لحل أحد أعوص مشاكل الإنسان وهي حقيقة الدولة وعلاقة الدولة بالمواطن بها، هذين المفهومين لهما آفاق عويصة، لكن السير نحوهما لا يخلوا من صعوبات لا تقل عن قيمة الموضوع ذاته، ومن أهم هذه الصعوبات تحديد هذين المفهومين، وعلاقة الدولة بالمواطن والسياسة، وكيفية تحديد الخط الفاصل بينهما، أما الصعوبة الثانية، تتمثل في مفهوم الدولة الذي تعرض لكثير من التغيرات والتحولات رغم أنه كان و ما يزال المفهوم الأكثر استعمالا في مجال السياسة، وهناك أيضا صعوبة ثالثة، تتجلى في عمق كتابات أرسطو وتزاحمها بالأفكار في مقابل بعدنا عن زمانه وانقطاع عهدنا عن عهده، وحضارتنا عن حضارته، مما تطلب مني جهد كبير في القراءة والتدبر والنظر، حتى لا نقع في مشكلة التناص في القص والتلصيق، أو في مشكلة الغربة عن النص. شرعت منهجا في هذا البحث بفصل تمهيدي عرضت من خلاله مفهوم الدولة، في حين أجلت مفهوم المواطن إلى الفصل الثاني، وذلك لغياب تعريفات محددة له في الفكر القديم، كما قدمت عرضا تاريخيا، مختصرا لنشأة الدولة عند أرسطو، وكان الهدف من خلال هذا الفصل هو الوقوف على ما يحمله هذا المفهوم، وفي الفصل الأول، عملت على رؤية أرسطو التي ساقها في كتابه "السياسة"، فوجدت داخل هذا البحث الرئيسي قيام نشوء الدولة عند أرسطو، وفي الفصل الثاني، عملت على تقسيم الطبقي لفئات المجتمع عند أرسطو وتحديد ماهية المواطن والتعرف على حقوقه وواجباته ووظائفه داخل الدولة، بالإضافة إلى نوع العلاقة بين المواطن والدولة. وأخيرا تطرقت إلى خاتمة تعد حوصلة لما تم تقديمه في هذا البحث.        


الفصل الأول    الدولة

المحور الأول: نشأة الدولة عند أفلاطون.  

   يفسر أفلاطون المجتمع أو المدينة أو الدولة على أنها ظاهرة طبيعية نشأت من خلال تعدد حاجات الفرد وعجزه عن قضاء هذه الحاجات بمفرده، فالفطرة موجودة في الإنسان هي التي تدفعه إلى الالتماس مساعدة الغير في إشباع هذه الحاجات بتنوعها وكثرتها، فهو بحاجة دائمة إلى اللباس والغذاء والمسكن والأمن، وغيرها من ضرورات الحياة، فلا يوجد إنسان كامل يستطيع أن يلبي كل هذه الحاجات بمفرده لذلك يقول أفلاطون إن الدول تنشأ لعدم استقلال الفرد بسد حاجاته بنفسه وافتقاره لمعونة الآخرين، واما كان كل إنسان محتاجا إلى معونة الغير في سد حاجاته وكان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألف عدد عديد منا من الصحب ومساعدين، في مستقر واحد فننطلق على ذلك المجتمع إسم مدينة أو دولة. بمعنى أفلاطون يرى أن نشأة الدولة تولدت من فكرة أساسية مفادها شعور الأفراد بأن الواحد منهم لا يستطيع أن يكفي نفسه بإشباع حاجاته، لذلك يجمع الناس ليكمل كل فرد فيهم النقص الموجود عند الآخر.
         ويحقق له تلك المنافع التي تتحقق فعل الجماعة لا بفعل الفرد وحده، ومن هنا كان الاجتماع ضرورة لابد منها عند أفلاطون. تبادلت الخدمات بين الأفراد لذى أفلاطون يتضمن مبدأ تقسيم العمل وتوزيع المهام على أفراد المجتمع، فعملية التبادل هذه تتم من خلال إكمال النقص الموجود لدى الفرد بمساعدة الآخر، وهكذا يصبح لكل فرد عمل خاص به، ومن هنا قد نشأت ضرورة التخصص في العمل، هذه الضرورة تختلف باختلاف المواهب والاستعدادات، حيث يختلف كل فرد عن الآخر فيما ميزته به الطبيعة من الاستعدادات فطرية، فهذا يمتاز بالشجاعة، وذلك يمتاز بالدكاء، وذلك يمتاز بالمهارة في العمل، فيختص كل فرد بنوع العمل الذي يتفق مع ميوله الذاتية وفي ذلك يقول أفلاطون: "ينبغي أن نخلص من ذلك إلى أن كل الأشياء تكون أوفر مقدارا وأجود نوعا، وأسهل إنتاجا إذا التزم العامل بما يميل إليه طبعه من الأعمال، وأتمه في وقته الخاص غيرمتشاغل. وهذا يعني أن هذه الضرورة تقوم في نظر أفلاطون على مبدأين: أولهما هو اختلاف الناس في المواهب، وثانيهما مهارة اكتساب العمل، وإقبالهم على أداء العمل الذي يتناسب مع استعداداتهم للذاتي، ومن هنا نشأت فكرة الاجتماع، وكانت ضرورية للأفراد حتى يتمكنوا من مساعدة بعضهم البعض، والتعايش داخل جماعة متماسكة تتكامل فيها الأدوار بفعل الأفراد، وتتم هذه العملية وفق ضرورة طبيعية تسمى حسب أفلاطون المجتمع أو المدينة أو الدولة، لم يفضل أفلاطون أن تكون جانب البحر، لأنه يملئ تجار الجملة والإقطاعيين والمتجولين، من الباعة، وهذا يؤدي إلى تضارب المصالح وقيام النزاعات والحروب ومن أسباب هذه الرؤية الاستراتيجية لموقع أثينا، كانت مركزا تجاريا بحريا وأرادت توسيع نشاطها التجاري والبحري فتقابلت مع اسبرطة التي كانت تقوم على النشاط التجاري والبري، والتي وجدت أن رغبة أثينا في توسيع نشاطها سيؤثر سلبا على نشاطها البري، أما عدد السكان فقد حدده أفلاطون بعدم تجاوز الأربعة وخمسين فردا، في حين يرى أنه لا يكفي أن يكون عدد الحفظة ألف مقاتل في هذه المدينة، وذلك ما رآه في زمانه، وبالقياس مع الأمم المتجاورة، وتطورها يؤدي إلى قيام قوة بحرية عظمى، وهذا الأمر يترتب عنه من جهة أخرى فتح السوق الخارجية وجلب المستثمرين، وتضارب أو ركود البضاعة المحلية التي تحل محلها البضاعة الخارجية المستوردة، كما يؤدي هذا إلى ظهور روح الإمبريالية العدوانية، وتدهور انحطاط الأخلاق يقول أفلاطون: تصبح المدينة بهذه الشروط المفترضة معتمدة على نفسها أو ذات اكتفاء ذاتي، سوف لا يكون هناك شيء يشجع تدفق الأعداد الكبيرة من الأجانب الذين يشتغلون بالتجارة مثل أولئك الذين يتجمعون في العربات الأثينية، وهذا سيكون أساس الوجود الاقتصادي قائم على الزراعة والصناعة، ويفترض أن أفلاطون سيبني أخلاق قومية سلمية خصوصا، وقد قللنا إلى أقل حد ممكن من احتمال اصطباغ روح الجماعة بالنزعة التجارية، وهذا يؤكد أفلاطون على وجوب ثبات الحفاظ على عدد السكان، وذلك من أجل ضمان عدم وقوعه في خلل بناء المدينة وعلاقتها المختلفة، لأن زيادة السكان يؤدي إلى الامتداد الغير السليم لشواطئ الجيران، أي الاعتداء على حقوق الغير، بينما يؤدي تناقص عدد السكان إلى عدم القدرة على الدفاع القومي، أي الضعف وعدم القدرة على مواجهة العدوان بمختلف أشكاله، ولهذا توجب على الحاكم أن يعمل على ضبط عدد السكان، تحديد النسل، رفض الهجرة الداخلية والخارجية، أي الهجرة من دولة إلى أخرى، وفي حالة نقص عدد السكان يعمل على تشجيع عملية التزاوج والتناسل، وهذا على مستوى النوع الرفيع لأفراد الدولة الذين يتميزون بميزات فطرية وذهنية وجسمية وعقلية ورفيعة. 

 المحور الثاني: نشأة الدولة عند أرسطو

     الذين يظنون أن رجل الدولة والملك ورب البيت والولي واحد، هم مخطئون، إذ يتوهمون أن كل واحد من هؤلاء يفترق عن الآخر بالكثرة أو بالقلة، فإن قلت رعيته مثلا عد مولى، وإن كثرت كان رب بيت، وإن تزايدت فوق ذلك اعتبر رجل دولة أو ملك. كأنما لا فرق بين أسرة كبيرة ودولة صغيرة، وكأنما لا فرق بين رجل دولة والملك: فإن استقل المرء بالحكم عد ملكا، لكن بحسب مزاعم مذهب كهدا، وإن حكم تارة وحكم أخرى كان رجل دولة. فالبيت إذن هو أول ما ينشأ عن دينك الائتلافين (ائتلاف العبد والمولى) لقد أحسن هسينس عندما قال في شعره "سيد البيت أولا أنت بالمرأة بعد ذلك يثور الفلاحة"، إذ الثور للفقراء هو بمثابة الخادم، فالائتلاف الذي ينشأ إذن عن دافع طبيعي هو الأسرة. وأول ائتلاف بيوت عدة أقيم لصلات غير الصلات اليومية، هو القرية، والقرية بطبيعتها أشبه شيء بالجالية تتفرع عن أسرة واحدة، يدعو بعضهم أهلها إخوة بالرضاعة وبنين وبني بنين، أما الدولة الكاملة فقد نشأت عن ائتلاف قوى كثيرة، وهي التي تنطوي على عناصر الاكتفاء الذاتي كله. إن صح تعبيرنا فقد تألفت إذن عن رغبة العيش، وتلبث طمعا في طيبه، فالدولة إذن طبيعية، إذا ما كانت الجماعات السابقة طبيعية، لأن الدولة غاية تلك الجماعات، وإنما الطبيعة غاية: إذ كل شيء لمصير كامل، ندعوه طبيعة الشيء، كطبيعة الرجل مثلا وطبيعة الفرس وطبيعة البيت، هذا وإن ما جعلت الغاية نفسها لأجله هو خير الأمور، ومن ثم الاكتفاء الذاتي غاية وأسمى الخيرات، الدولة مقدمة على الأسرة وعلى الفرد، لأن من الضروري أن يتقدم الكل على الجزء، فإن قضي على الجسم فلا رجل ولا يد إلا بالاسم، كأن تقول يد من حجر، فإذا شلت اليد أضحت كأنها من حجر.
         فإذا كانت مهمة الأفراد هي اتحاد فيما بينهم قصد الحفاظ على المدينة أوالدولة، فإن أرسطو يرى في المقابل أن مهمة الدولة لا تكون مقصورة على توفير الحاجات الأساسية للأفراد، بل غايتها القصوى هي توفير أسباب السعادة لهم، وتحقيق الخير والفضيلة للإنسان وغرس الفضيلة في نفوس الأفراد وتعليمهم كيف يكونوا فضلاء، وهي مهمة الدولة الأولى والرئيسية والتي من خلالها اشترط أرسطو لزوم الطاعة للدولة طالما أنها كفلت لمواطنيها حياة خيرة وفاضلة. كذلك تكون الدولة أو المدينة هي الغاية أو القصة التي تتحرك نحو جميع الجماعات السابقة – القرية والأسرة وطبيعة الأشياء أن تتحقق غايتها أو قيمتها، لأن كل شيء عندما يكتمل نموه نسميه بطبيعة الشيء فالساق والأوراق، والفروع في شجرة البرتقال تظهر قبل ظهور الثمرة، لكن البرتقال هو الغاية والقمة، عندما يكتمل تسمى الشجرة بإسمه، كذلك الدولة هي الغاية والهدف النهائي من التجمع البشري، إذا كانت تظهر متأخرة من حيث الزمان على الأسرة والقرية فإن لها الأولوية، لأنها غاية التجمعات السابقة. كل دولة هي بديهية اجتماع وكل اجتماع لا يتألف إلا لخير ما دام الناس أيا كانوا لا يعلمون أبدا شيئا ألا وهم يقصدون إلا ما يظهر لهم أنه خير، فبين إذن أن كل الاجتماعات ترمي إلى خير من نوع ما، وإن أهم الخيرات كلها يجب أن تكون موضوع أهم الاجتماعات، ذلك الذي يشمل الآخر كلها، وهذا هو الذي يسمى بالضبط الدولة أو الاجتماع السياسي.

المحور الثالث: التمييز بين الدولة والحكومة.

     ينبغي التمييز بين الدولة والحكومة رغم أن المفهومين يستخدمان بالتناوب كمترادفات في كثير من الأحيان. فمفهوم الدولة أكثر اتساعا من الحكومة بحيث أن الدولة كيان شامل يتضمن جميع المؤسسات المجال العام، كل أعضاء المجتمع بوصفهم مواطنين، وهو ما يعني أن الحكومة ليست إلا جزءا من الدولة، أي أن الحكومة هي الوسيلة أو الآلية التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة، إلا أن الدولة كيان أكثر ديمومة مقارنة بالحكومة المؤقتة بطبيعتها: بحيث يفترض أن تتعاقب الحكومات، وقد يتعرض الحكم للتغيير أوالتعديل، مع استمرار النظام الأوسع والأكثر استقرارا ودوما الذي تمثله الدولة. نتحدث إذن عن الطرق التي يمكن من خلالها إدارة أنواع الملكيات حيث نجد مهمة الاحتفاظ بالملكيات الوراثية، حيث تعود الناس على أسرة حاكمة أكثر سهولة ويسرا من الاحتفاظ بالملكيات الجديدة، إذ يكفي في هذه الحالة إذ يضطر المرء الاعتدال على المألوفات الوراثية، وبهذه الطريقة يستطيع الأمير، إذا كان مجدا في عمله ومثابرا عليه – أن يحتفظ بمركزه، إلا إذا وجد نفسه أمام ظروف استثنائية أقوى منه فطردته من مركزه. أي أن الملكية الوراثية تمتاز غالبا ما يكون الحكم فيها لفترة طويلة وعادة حتى وفاة الملك وينتقل بالوراثة إلى ولي عهده. أما عن الملكيات الجديدة، فنحن أن الصعوبات والمشاكل كثيرا ما تواجهها، إذ عندما تكون الدولة ليست حديثة النشأة، وإنما عضو في دولة مختلطة، فإن الاضطرابات يكون سببها الأول راجع إلى الصعوبة الطبيعية التي نجدها عادة في الممالك الجديدة جميعا.

الحكومة الملكية:

     ففي رأي أرسطو فإن الحكومة الملكية التي يقف على رأسها فرد متسم بالفضائل كافة، وعلى رأسها فضيلة العدل، لا تلبث إلا أن تنقلب مع مضي الأيام إلى حكومة طغيان يرأسها ديكتاتور باغ طاع يجرد الناس من حقوقهم السياسية الأساسية ومن ممتلكاتهم الفردية.

الحكومة الأرسطوقراطية:

     أما الحكومة الأرسطوقراطية التي عمادها طبقة حاكمة من النبلاء الفضلاء فما أسرع ما يتحول قادتها إلى طبقة من الأوليجارشيين الاحتكاريين الذين لا ميزة لهم إلا عناهم الفاحش وتكديسهم للأموال، وهو الأمر الذي لا يزال يدعوهم إلى مزيد من الطمع والجشع وظلم الرعية.

الحكومة الجمهورية:

     في حين أن الجمهورية التي توسع من حجم الطبقة الحاكمة بقدر الإمكان، مع مراعاة خاصة لمبادئ الحرية والمساواة، فإنها سرعان ما تنقلب مع مرور الزمن إلى دولة ديموقراطية تستند إلى الكثرة الديموقراطية التي تتطرف في دعاوي الحرية والمساواة، بما يقود إلى اختلال النظام العام للدولة وشيوع الفوضى في أرجائها. يشوب فكر أرسطو بعض الاضطرابات البينة في نقطة المفاصلة بين نظام الحكم الملكي ونظام الحكم الجمهوري، غير أنه بفضل الحكومة المختلطة، فالنظام الملكي ربما كان الأفضل، غير أن الفرد الذي يحوز الصفات المثلى المطلوبة لهذا المنصب قلما يوجد في الحياة، ولذلك فمن الأفضل إعطاء الحكم لمجموعة من الأفراد تتكامل في جميعهم هذه الصفات الناذرة الوجود في شخص واحد. أرسطو لم يركز على شكل الحكم بقدر ما ركز على محتواه، فمن ناحية الشكل قسم الحكومات إلى ستة أقسام، ثلاثة منها صالحة،لا تلبث أن تتولد من ثناياها ثلاثة حكومات فاسدة، بحيث تم التقسيم الأرسطي للحكومات في هذا الشكل:
الحكومات الفاسدة
الحكومات الصالحة
1- طغيان حكومة الفرد الواحد الفاسد.
1- ملكية: حكومة الفرد الواحد الصالح.
2- أوليغارشية: حكومة القلة الفاسدة.
2-أرسطوقراطية: حكومة القلة الصالحة.
3- ديموقراطية: حكومة الكثرة الفاسدة.
3-جمهورية: حكومة الكثرة الصالحة.

        في الواقع اهتم أرسطو بشروط الحكم الصالح ومقوماته أكثر مما اهتم بشكله أو بتركيبته الظاهرية، وأهم الشروط التي أوردها في هذا الصدد تتمثل في الآتي:
أ-   أن يكون الحكم قانونيا: بمعنى أن يكون القانون هو السيد الأعلى المطاع، وأن تكون إجراءاته هي التي تحكم سير دولاب الدولة والمجتمع، وأن تطل رغبات أن الحاكم نفسه محكومة بالقانون، وكذلك رغبات الرغبة.
ب- أن ينال الحكم رضا الشعب: فلا بد أن تتجاوب الحكومة مع رغبات الشعب، وأن تنال رضاه ومساندته، وألا تضع الجيش مكان الشعب، أي ألا تعتمد في بقائها واستمرارها على الجيش أكثر من الشعب.
ج- أن يحقق الحكم صالح المجتمع: بمعنى ألا تسخر الحكومة موارد الدولة في استهداف تحقيق مصالح الطبقة الحاكمة وحدها، وإنما تسخرها لصالح رغبات الشعب كله بكامل فئاته وطوائفه وطبقاته.
لا بد من توفر هذه الشروط الثلاثة مجتمعة حتى يعد الحكم مثالا صالحا، ومن ثم فلا يعد حكما دستوريا صالحا، ذلك الذي يتقيد بأحكام القانون، لكنه يفشل في تحقيق صالح الشعب العام، كما لا يعد حكما دستوريا، ذلك الذي يستهدف مصلحة الشعب، لكنه يقوم على الاستبداد، وينتهك مبادئ القانون وأحكام القضاء، أما إذا وجدنا أميرا ما يتعرض للمشاكل والصعوبات التي تعجز عن مواجهتها، مما يجعله مضطرا للجوء إلى جاره القوي، ليطلب منه مساعدته والدفاع عنه بقواته العسكرية، فإن هذه القوات تسمى قوات إضافية، وهي تشبه قوات المرتزقة في عدم جدواها، بمعنى أن الأمير إذا تعرض للضغوط والمشاكل فإنه يلجأ إلى قوى أخرى، ليطلب منه المساعدة والتدخل بالقوات العسكرية لحلها، بينما الأمير الذي يعمل عقله، بالإضافة إلى حسن فطنته هو الذي يتجنب الاعتماد على مثل هذه القوات، بل يعتمد فقط على قواته الخاصة، وهو يفضل أن يخسر المعارك بقواته على أن ينتصر فيها بقوات غيره، واثقا من أن النصر الذي يتحقق بفضل القوات الأجنبية لا يمكن أن يعتبر نصرا، فإن النتيجة التي نود أن نصل إليها هي أن الأمير الذي لا يعتمد على قواته الخاصة يرتكب خطيئة لا تغتفر، إذ أنه يشعر بالطمأنينة والسلامة، وهو في هذه الحالة يعتمد فقط – على حسن حظه، حيث إنه يفتقر إلى الأساليب الصحيحة للدفاع عن نفسه وعن إمارته في أوقات الأزمات، وقد أقر الحكماء دائما أن ليس هناك من هو أضعف ممن يعتمد في قواته على الآخرين.

1- المديح أوالذم

 ما يستحقه الأمير من    كل إنسان يقر ويعترف بأن الصفات المحمودة في الأمير الذي يتصف بجميع الصفات التي ذكرناها والتي ترمز إلى الخير، ولكن لما كان من الصعب – بل من المستحيل - أن يملك الإنسان الواحد هذه الصفات النبيلة، نظرا للطبيعة الإنسانية التي لا تسمح بذلك، كان من الضروري على الأمير أن يتمتع بالحصافة والفطنة، بحيث يتجنب الانزلاق في مهاوي الفضائح المترتبة على تلك المثالب التي قد تؤدي به إلى ضياع دولته ودمارها. بمعنى أن الأمير بصفته إنسان غير قادر على احتواء كل الصفات والقيم المحمودة فعليه أن يكون حذرا في ما يفعله وما يقوله اتجاه رعيته ويطبق المثل القائل لكل مقام مقال حتى لا يسقط في فضائح أقواله وأفعاله. 

2- السخاء والبخل:

     نرى أن السخاء بالمعنى الذي يفهمه معظم الناس قد يؤدي إلى الإيداء والضرر، إذ أن ممارسته، حتى يصبح من طبائع الإنسان، وبالطريقة الصحيحة لا تؤدي إلى أن يعرفه الناس بمعناه الصحيح، وبالتالي يكون الإنسان – الذي يكون السخاء من طبائعه وشيمه – عرضة للإتهام بعكس ذلك، حتى أن الأمير الذي يكون هذا النوع من طبيعته يجد أن جميع إمكانياته تستنزف عن طريق هذه الوسائل، وبالتالي يجد نفسه في نهاية الأمر مضطرا إن أراد الاحتفاظ بشهرته بين الناس بالسخاء – إلى أن يفرض ضرائب باهضة على رعاياه، بالإضافة إلى أنه قد يلجأ في أغلب الأحوال إلى الابتزاز و ألا يتوانى عن كل عمل يؤدي به في النهاية إلى كسب المال، وتبعا لذلك، فإن من الواجب والضروري على الأمير إذا كان غير قادر على ممارسة فضيلة الكرم والسخاء دون أن يجازف بديوع أمره واشتهاره بين الناس، ألا يعرض نفسه – إذا كان به شيء من الحكمة وأعمال العقل إلى الاتهام بمدمة البخل. إن ميكيافيلي يحاول أن يقدم نصيحة للأمير بعدم الاتصاف بالسخاء الزائد وألا يتصف أيضا بالبخل، بل عليه أن يكون معتدلا بينهما، حتى لا يقوم بسخائه بالتفريط في أموال الدولة واستنزاف خزينتها من جهة، وحتى لا يكرهه شعبه بسبب بخله عليهم من جهة أخرى.

3- الرأفة والقسوة:

مع ذلك، فعلى الأمير أن يكون حذرا فطنا، فلا يصدق ما يقال له، كذلك في العمل، ألا يخشى من ظله الخاص به، وأن يسيطر على مجريات الأمور بطريقة أكثر اعتدالا، يكون إطارها حسن التبصر والإنسانية، حتى لا تؤدي به ثقته المفرطة إلى الإهمال وعدم الاهتمام، ويطوح به حياؤه إلى التعصب وعدم التسامح، هنا يطرح السؤال نفسه، الذي مفاده هل من الأفضل أن يكون الأمير محبوبا أكثر من أن يكون مهابا؟ وبطريقة أخرى هل يسعى الأمير إلى أن يخافه الناس من أن يحبوه؟ وإجابة هذا السؤال تتلخص في أنه من الضروري أن يخاف الناس الأمير وأن يحبوه في آن واحد، ومع ذلك، فعلى الأمير أن يحتاط بالوسائل والتدابير التي تفرض على الرعية الخوف منه، بطريقة يتجنب بواسطتها أن يثير- إذا لم يضمن الحب – الكراهية والبغض في قلوب رعيته، إذ أن مهابة الأمير وعدم وجود الكراهية قد يسيران معا جنبا إلى جنب.

4- واجبات على الأمير:

على الأمير ألا يستهدف أو يبغى شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها، وألا يفكر أو يدرس شيئا سواها، حيث أن الحرب هي الفن الوحيد الذي يجب أن يتقنه كل من يصل إلى مرتبة القيادة، ولعل من الشرور التي يؤدي إليها الافتقار إلى السلاح وعدم الاهتمام به أو التدريب على استخدامه، التعرض المهانة والإدلال والاحتقار، وهو أمر بلا شك يحط من قيمة الإنسان وكرامته، وبناء على ذلك، فإن من الواجب على الأمير، ألا يسمح لأفكاره ونزواته بأن تذهب بعيدا عن مراس الحرب وفنون القتال، وعليه أن يكون أكثر اهتماما بها في أيام السلم عنها في أيام الحرب والقتال، حتى يكون على أهبة الاستعداد لمواجهة ما يتعرض طريقة من مشاكل وصعاب. وينبغي على الأمير العاقل اللبيب أن يتبع أساليب مماثلة، وألا يظل عاطلا عن العمل في أوقات السلم، بل يستخدمها، وبكل ما أتي من قوة حتى إذا واجهته المشاكل والصعاب وجد نفسه قادرا على مواجهتها، قادرة على التغلب عليها.
      من خلال هذه الفقرة يحاول ميكيافيللي تنبيه الأمير إلى ضرورة الاهتمام بفن الحرب وتعلم فنون القتال والتدرب على السلاح، حتى يكون مهيبا لأعدائه وليكسب ثقة شعبه لكونه قائدا وليس مجرد أمير يهتم بالأمور السياسية والديبلوماسية، بل وقادرا على قيادة جيشه في المعارك لحماية أرضه، وحتى لا ينقلب ويثور عليه جيشه، ولكي لا يتم احتقاره من طرف شعبه.

5- تجنب الاحتقار والكراهية:

    الأمير يتجنب الأشياء التي تجلب إليه الاحتقار والكراهية، وعندما يحقق النجاح في ذلك اليوم يكون قد قام بدوره خير قيام، ولا يرى خطرا في ارتكاب الرذائل الأخرى، ذكرنا أنه إذ أضحى سلابا نهابا، يغتصب ممتلكات رعاياه نسائهم، فسوف يتعرض الكراهية والبعض من جانب شعبه، وعندما يتجنب الأمير الاعتداء على أملاك عامة الناس وأعراضهم فإنهم يعيشون راضيين قانعين، ولا يواجه إلا مطامح القلة الذين في استطاعته وإمكانه أن يكبح جماحهم، أما بالنسبة إلى حكم رعاياه، فعليه أن يعمل على أن تكون أحكامه غير قابلة للنقد، وأن يتمسك بالقرارات التي يتخذها، ولا يمكن أي إنسان منه، بمعنى ذلك أن يتجنب الأمير الأشياء تحتقره من جانب شعبه، أما إذا استولى على أملاك الناس واغتصاب الرعايا والنساء، فإنه يعتبر حقيرا دنيئا.  وهي العقبة   الكؤود التي تمثل خطرا عليه، وبالتالي يجب عليه أن يدبر أموره والتي تبدو في غاية العظامة، لكي يتمتع بشهرة عظيمة والصيت العظيم.
        وهكذا أن أولئك الأباطرة الذين لم يكن لديهم – بسبب طبيعتهم أو كفاءتهم – السمعة الكافية، والتي تمكنهم من كبح جماح الطرفين، نجد أن مصيرهم كان خرابا. خاصة أن الأباطرة والعديد منهم – رغم معيشتهم النبيلة وما ظهر منهم من قوة الشخصية – قد أدارت لهم الأيام ظهرها وفقدوا سلطانهم، أو تمكن الذين تآمروا عليهم من قتلهم، وحتى نرد على تلك الاعتراضات. 
        سوف نتحدث عن صفات بعض الأباطرة، لكي نبرهن على سبب انهيار سلطانهم، لم يكن مختلفا عما قررناه من قواعد. سنكتفي عن الحديث عن الأباطرة الذين تولو الحكم من عهد ماركوس الفيلسوف حتى عهد مكسيمنيوس، وهم ماركوس وولده كوموروس برتيتكس، جوليانوس، سيفيروس، أنطونيوس....إلخ. أول شيء يجب علينا ملاحظته في حديثنا هذا أنه في الوقت الذي يتحتم على الأمراء الآخرين، فقط الاهتمام بمصالح العظام ومنافعهم، بالإضافة إلى غطرسة الرعية. من يظهر لنا جليا بأن أسباب سقوط الأباطرة حسب الأمير ميكيافللي تتلخص في أمرين إثنين، هما الكراهية والاحتقار.

6- المحافظة على العهود:

    لا شك في أن الصفات المحمودة للأمير - يدركها كل إنسان، أن يكون صادقا في وعوده وعهوده التي يقطعها على نفسه، وأن تكون حياته قائمة على الشرف والنبل والأخلاق الحميدة، لا المكر والدهاء والخديعة.
     في المقابل نجد أن الأمراء الذين استطاعوا القيام بأعمال جليلة وعظيمة، لم يهتموا كثيرا بعهودهم والوفاء بها، وتمكنوا عن طريق المكر والدهاء – من الضحك على عقول الرعايا وإرباكها، واستطاعوا أخيرا التغلب على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص والوفاء رائدهم الذي يقودهم في حياتهم. بكل يسر وبساطة أن الأمير يجب أن يتصف بالصفات الجميلة القائمة على الشرف والنبل والإخلاص والوفاء والتدين والأخلاق الحميدة، أن يتمسك بها لكي تبدوا خيرة في نظر الناس،لذلك فمن الضروري أن يكون متيقظا دائما يجعل عقله مستعدا للتكييف مع الاختلافات التي تطرأ.

7- اختيار الأمير للوزراء:

       هناك طريقة تمكن من اختبار وزيره ومعرفة نواياه إذ كانت طيبة أو شريرة، وهي طريقة لا يعرف الخطأ سبيلا إليها، فإذا رأى الأمير أن وزيره يفكر بنفسه أكثر من تفكيره بأي شيء آخر من أمور الدولة، إنما يعمل على إنجاز مصالحه ومنافعه الخاصة، فإن مثل هذا الرجل لا يكون صالحا للاعتماد عليه، حيث أنه لا يكون وزيرا نافعا، إذ تعهد إليه مهام دولة الآخرين للقيام بها يجب ألا يفكر بنفسه قط، وإنما بالأمير، وألا يكترث بأي شيء إلا فيما يتعلق بالأمير.
       وعلى الأمير بدوره – لكي يحتفظ بولاء وزيره وإخلاصه له أن يفكر به، وأن يغدق عليه المنح والعطايا ومظاهر التكريم، مبديا له العطف ومانحا إياه الشرف والرفعة، وأن يعهده بالمناصب ذات المسؤوليات الجسام التي تبين له الوزير. بمعنى أن الأمير أن يحسم اختياره للوزراء، ويلمح على معرفة الوزير، هل هو يقدم مصالحه الذاتية؟ ولهذا وجب عليه أن يفكر في هذا الموضوع، ويستمع لهم ويسألهم ويستفسر منهم عن كل شيء، لذلك تطرق إلى إبداء وجهات نظرهم السياسية.

أ-الأمير والمنافقين

      نتحدث الآن عن موضوع غاية في الأهمية لا يستطيع الأمراء – إذا لم يكونوا من الذين يتصفون بالعقل والحكمة، أما إذا أساؤوا الاختيار – أن يتجنبوه إلا بصعوبة بالغة، وهذا الموضوع يتعلق بالمنافقين المداهنين الذين تمتلئ بهم قصور الملوك والأمراء، وأننا لا نجد طريقة أفضل للأمير – حتى يقي نفسه من خطر النفاق والمداهنة، لكن هناك شيء غاية في الأهمية يجب أن يدركه الأمير ألا وهو أنه إذا تجرأ كل إنسان على مجابهته بالحقيقة، فإن النتيجة ذلك يفقد احترامهم، وعليه أن يكون حريصا كل الحرص في هذه المجالس، مع جميع مستشاريه، على أن يتصرف بالشكل الذي يجعل هؤلاء المستشارين واثقين تمام الثقة بأنهم كلما عبروا عن آرائهم بصراحة وإخلاص كان الأمير راضيا عنهم تماما.
           وعلى ذلك فلا يجب على الأمير إلا يأنف من النصيحة التي يقدمها له وزراءه ومستشاروه، أي أنه من الضروري أن يقبل النصيحة دائما، وذلك عندما يريد  هو، لا عندما يريد الآخرين، بل عليه إلا يشجع مطلقا محاولات من حوله لإسدائه النصيحة إليه إلا إذا طلبها هو، معنى هذا أن الأمراء يجب أن يكونوا متصفين بالحكمة والدهاء والعقل، وأن يجتنبوا موضوع الذي يتعلق بالمنافقين، والذين امتلأت بهم قصور الملوك، لهذا يجب على الأمير أن يقي نفسه من النفاق والمداهمة، وأن يكون حريصا كل الحرص في مجالس مع جميع مستشاريه، وأن يتصرف تصرفا لائقا لكي يثقوا فيه كل الثقة.

ب- أسباب فقدان الأمراء لدولهم:

     هكذا فإن الأمير المحدث يجني مجدا، من إقامة دولة جديدة وبعث الازدهار والرخاء فيها، والعمل على تحصينها بالقلاع والحصون والأسلحة القوية والقوانين الصالحة والأصدقاء الطيبين والمثل الخيرة، في أن عار الأمير الوارث مزدوجا، لأنه ولد أميرا، وتسبب لافتقاره إلى الحكمة والتبصر- في إضاعة عرشه، ولو قمنا بدراسة أوضاع وأحوال أولئك الحكام الذين فقدوا مراكزهم وعروشهم في إيطاليا في أيامنا هذه، كملك نابولي ودوق ميلان وغيرهما، لوجدنا أن لديهم جميعا عيبا مشتركا، يتعلق بقوتهم العسكرية، على ضوء العوامل التي أفضنا في شرحها، ثم لرأينا بعد ذلك أن بعضهم لم يجني جزاء تصرفاته الحمقى، سوى كراهية شعبه وعدائه. قد يكون هذا الإجراء عند انعدام غيره أمرا طيبا، لكننا نرى أن من الحماقة والغباء إهمال العلاجات الأخرى، وعدم الأخذ بها، والركون إلى هذا العلاج وحده والاعتماد عليه، إذ لا يوجد من يود أن يسقط عرشه ومركزه لاعتقاده أن إنسانا آخر سينقده من سقطته وينتشله، يفقد الأمراء ولايتهم عندما يفكرون في مظاهر الترف أكثر من تفكيرهم بالأسلحة، ولذى فعلى الأمراء الذين احتفظوا بممتلكاتهم مدة طويلة، أن لا يلوموا الحظ لأنهم أضاعوها، بل عليهم أن يلوموا كلهم لأنهم لم يفكروا في أيام الرخاء والسلام بأن الأمور قد تتبدل لاسيما وإن خطأ الناس الشائع أن لا يحسبوا حساب العواصف.
         نستنتج اذن ان دولة أرسطو قد أنصفت رأي الكثرة، ولم تغفل رأي الفئة ذات الخبرة، فلو كانت النخبة الممتازة في الخبرة أقدر على تنفيذ السياسة، إلا أنها ليست صاحبة الرأي المطلق لأن الأكثرية صاحبة المصلحة هي الأقدر على تقدير سياسة النخبة الممتازة استطاع أرسطو أن يوضح رأيه في فصل الديموقراطية في هذه النقطة بتشبيه ملخصه بقوله الذي مفاده أن هناك من الفنون ما لا يمكن الرجوع في تقييم أثارها إلى الفنانين أنفسهم، ذلك لأن الذي يستخدم الشيء هو صاحب الحكم حكم الأفضل عليه، فحكم ساكن البيت أفضل منحكم النبأ، بل أن الضيق أقدر على الحكم على الوليمة على الطاهي. 


            

الفصل الثاني: المواطن

المحور الأول: تصنيف طبقات المجتمع.

     تعتبر الأسرة هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، كما يرى أرسطو، والأسرة تتألف من الزوج والزوجة والأبناء والعبيد، وهذا النمط عاش هو في طوله وعاصرو. والأسرة الكاملة حسب أرسطو هي التي تشمل عبيدا وأحرارا. فأرسطو قسم المجتمع الإغريقي الذي صنفه إلى طبقات وهي كالتالي: الصناع والتجار والجند للحرب الدفاعية والطبقة الفنية والكهنة والحكام والموظفون، هذه الطبقات الموجودة في تقسيم المجتمع الأثيني، لا تملك حق المشاركة في الحكم ولا تحصل كلها على صفة المواطنة، التي حكر فقط على طبقة الأحرار، أما بقية الطبقات فهي مجرد عناصر تكملة المجتمع. ومن بين الطبقات نجد أرسطو قد ذهب إلى اعتبار العبيد والمرأة وأهل الصناعات عناصر جزئية في المجتمع، لا يحق لها المشاركة في الحكم، ولا تمتلك حق الارتقاء إلى طبقة الأحرار أو الانتماء إليها، ولمعرفة سبب هذا التقسيم علينا أولا نتعرف على كل طبقة على حدة.

1. العبيد: Les exlaves

         يذهب أرسطو مذهب أفلاطون في اعتبار الرق نظاما طبيعيا حيث يرى أرسطو أن العبودية أمر مكروه إلا أنه لا مفر منه، والعبيد آلة حية العمل، بالرغم من كونهم عناصر من الأسرة إلا أنهم أدوات حية تستعين بهم الأسرة في تحقيق معاشها، والقيام بالأعمال الصعبة والخسيسة التي لا يليق للرجل الحر أن يقوم بها، وبهذا يكون العبد مجرد آلة منزلية تساعد على تدبير الحياة داخل المنزل، يقول أرسطو العبد تقنية حية والخادم كأداة مقدم على كل الأدوات. وهذا يعني أن العبد هو الأداة الحية التي تساعد الأسرة على تدبير أمورها داخل المنزل، أي أنه أداة مساعدة في الإدارة البيتية، خاصة وأنه يقوم بجميع أعمال التي لا يمكن للسيد أنيقوم بها.
       وهذا يوضح جليا ما هو العبد في ذاته وماذا يمكن أن يكون، فإن هذا الذي بقانون الطبع لا يتعلق بنفسه، بل هو مع كونه إنسانا يتعلق بآخر هو العبد طبعا. لكن العبد إنسان هذه الصفة تتعارض مع اعتبار مجرد آلة حية وتفاوت الناس خلقا وذكاء. أورد أرسطو نظرية كاملة في شأنهم تحدث فيها عمن سماهم العبيد بالطبيعة والعبيد بالقانون، حيث زعم بعض البشر هيآتهم الطبيعية ليكونوا عبيدا، يستخدمون أجسادهم ويعطلون عقولهم وإرادتهم. والعبيد عند أرسطو مجرد آلات للاستخدام، لا منفعة فيهم إلا قدراتهم الجسمية وحدها ومنفعتهم هي شبيهة جدا بمنفعة الحيوان المستأنس، لا فرق يذكر بين العبد والحيوان المستأنس إذ كلاهما آلتان للاستخدام وهؤلاء العبيد بالطبيعة، يعد الرق في حقهم نافعا بمقدار ما هو عادل. أما العبيد بالقانون هم الذين يتم أسرهم في الحرب، وهؤلاء قد يكونون على كفايات عقلية ونفسية عالية مثلهم مثل الاصرار، لكن طالما وقعوا في أسر بحكم القانون، فإن الرق يصبح هنا مبدأ عادلا حقا، لذلك قرر أرسطو أن الذكور الأحرار هم وحدهم الذين يحق لهم شرف المواطنة، وأنهم الذين تقوم على أكتافهم مؤسسة الدولة، ويستقر نظامها العام، لأنهم هم وحدهم الذين تسمح لهم أوقات فراغهم ببحث الأمور السياسية وتأملها وسبر مغوارها ثم الاجتماع لمناقشتها واتخاذ القرارات بشأنها، حسب أرسطو أن العبد يختلف عن العبد في الأعمال التي يقوم بها، فالمهن مراتب منها ما هو ضروري ومنها ما هو أهم، كل حسب الخدمة التي يقوم والمهام التي أوكلت له.

2.  المرأة: Femmes

       لم يكن التشريع الإغريقي يعترف بحقوق المرأة ولطالما اعتبرها مخلوقا نقل قيمته الإنسانية عن قيمة الرجل، فقد كانت مسلوبة الحرية والإرادة ولا تتمثل بآية مكانة اجتماعية، حتى أنها حرمت من التدريبات الأولية للقراءة والكتابة، مما جعلها محرومة من الثقافة العامة. كما وصفت بأنها مصدر الشقاء والبؤس، وسبب الانهيار، يقول سقراط في هذا الصدد، إن وجود المرأة هنا، هو أكبر منشأ ومصدر الأزمة والانهيار في العالم، إن المرأة تشبيه شجرة مسمومة حيث يكون ظاهرها جميل، لكن عندما تأكل العصافير تموت حالا، المرأة لم تحظى بمكانة راقية في الحضارة اليونانية عموما، فقد اعتبرت منزلة من الرجل، لا يحق لها ما يملكه ويحق له، فقليلا ما كانت تذكر النساء في أثينا، ولم يكن يملكن وضعا مستقلا في نظر القانون، ومهما كان سن المرأة فهي تبقى في رعاية الرجل، وكان البيت هو ميدانها، أي أنها لا تملك آية حقوق ولا تتمتع بالحياة، كما يتمتعن بها نظيراتهن في باقي الحضارات، كالحضارة المصرية مثلا، وقد اقتصرت جميع مهامها في الأعمال المنزلية، فقط وتبقى المرأة في رعاية زوجها وهو الوصي عليها والموجه لها، كما توجه هي العبيد وتشرف عليهم، وتراقب أعمالهم ولا تملك هذه المرأة إلا أن تطيع زوجها وسيد البيت. كانت المرأة في المجتمع اليوناني أول عهده بالحضارة محصنة وعفيفة لا تغادر البيت، وتقوم فيه بكل ما يحتاج إليه من رعاية، وكانت محرومة من الثقافة لا تسهم في الحياة العامة بقليل ولا كثير، وكانت محتقرة حتى سموها رجسا من عمل الشيطان، وكان الحجاب شائعا في البيوتات العالية، أما من الوجهة القانونية فقد كانت المرأة عندهم كسقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق، وهي مسلوبة الحرية والمكانة في كل ما يرجع إلى حقوقها المدنية، ولم يعطوها حقها في الميزات، وأبقوها طيلة حياتها خاضعة لسلطة الرجل وكلوا إليه أمر زواجها فهو يستطيع أن يفرض عليها ما يشاء زوجا، وعهدوا إليه بإشراف عليها في إدارة أموالها، فهي لا تستطيع أن تبرم تصرفا دون موافقته وجعلوا الرجل الحق المطلق، بل وضعوا العراقيل في سبيل الوصول إلى هذا الحق، ومن ذلك أن المرأة إذا أرادت أن تذهب إلى المحكمة لطلب الطلاق تربص بها الرجل في الطريق فأسرها وعادها إلى البيت، أما في إسبرطا فقد توسعوا في إعطائها شيئا من الحق والإرث والبائنة(الدولة) وأهلية التعامل، وما كان ذلك عن سماحة منهم واعتراف بأهلية المرأة، وإنما كان لوضع المدينة الحربي حيث كان أهلها في حرب وقتال، فكان الرجال يشتغلون بالحرب دائما ويتركون التصرف في حال غيبتهم للنساء ومن هنا كانت المرأة في إسبرطة أكثر خروجا إلى الشارع وأوسع حرفة من أختها في أثينا وسائر المدن، ومع هذا فقد كان أرسطو يعيب على أهل إسبرطة هذه الحرية والحقوق التي أعطوها للمرأة ويعزو سقوط إسبرطة وانحلالها إلى هذه الحرية والحقوق، تقول سوزان بل: "الصورة التي رسمها أرسطو للمرأة بالغة الأهمية، فقد ترسبت في أعماق الثقافة الغربية، وأصبحت الهادي والمرشد عن النساء بصفة عامة.
     عموما، المرأة تبقى مواطنا غير كامل الحقوق، خاصة وإن حازت على بعض الحقوق القانونية، فيمكن القول بأن نظرة أرسطو للمرأة هي انعكاس للوضعيات الثقافية والاجتماعية التي عاش فيها هذا الفيلسوف العظيم، ذلك أن الإنسان ابن بيئته يؤثر فيها ويتأثر بها، فمجموعة التصورات والأفكار القيمة التي بناها أرسطو حول مكانة المرأة ودورها ووظائفها هي وليدة مجتمعه.

 المحور الثاني: المواطن: Citoyen   

     يميز أرسطو حقوق المواطن وواجباته، ويحدد بالضبط من هو المواطن، حيث نجد صعوبة كبيرة في هده المهمة، والتي إن بدت لنا بديهية بحكم ما نعرفه نحن عن المواطنة عندما، فإنها ليست كذلك بالنسبة لأرسطو على اعتبار أن المواطنة ذاتها عنده أكثر تعقيدا وعلى ذلك يشرع أرسطو في مقدمة الكتاب الثالث من "كتاب السياسة"، في تعريف المواطن وتحديد المعنى المطلق، وليس معناها بالنسبة إلى كل شكل من أشكال نظم الحكم المختلفة مثل الديموقراطية والديماغوجية.

أ- تعريف المواطن:

       المواطن ليس سوى الشخص الذي يتمتع بحق المشاركة في الوظائف القضائية وكافة المناصب الأخرى، وطالما أن الدساتير تختلف من دستور لآخر، فالمواطنون الذين ينتمون إلى شكل من دستور يختلف بالضرورة من مواطن غلى آخر، يبدو أن المواطن من هذه الناحية أنه ذلك الشخص الذي يتمتع بحقوق المشاركة في المجالس القضائية والهيئات الأخرى. نبحث أولا من الذي يسمى مواطنا وماذا يعني هذا الإسم؟ وما الذي يجب أن ندعوه مواطنا وغالبا ما يكون موضوع جدل من حيث أن لا يتفقوا على كون المواطن شخص واحد، فضبط هذا المفهوم لم يكن بالمهمة اليسيرة، وهذا دليل يوحي بأن موضوع المواطن يدين في مباحث أرسطو.
       يقول أرسطو في كتابه " السياسة " أن المواطن ليس هو مواطنا بمحل الإقامة وحده، فمحل الإقامة والمداعاة القضائية يمكن أن يكونا لأناس ليسوا مواطنين وكل ما في الأمر أنه في بعض الدول يحدد تمتع القاطنين بهذا الحق فيفرض عليهم مثلا أن يختاروا كفيلا، وهذا تضييق في الحق الذي يخولونه.
      من هذا القبيل، فالأولاد الذين لم يبلغوا سن القيد المدني والشيوخ الذين حذفت أسماؤهم منه وهم في وضع مشابه تقريبا فإن هؤلاء هم على التحقيق مواطنون، لكنه لا يمكن أن يعطوا هذه الصفة على الإطلاق، ينبغي أن يضاف إلى ذلك أنهم مواطنون ناقصون، وإلى هؤلاء أنهم مواطنون متقاعدون، إن السمة المميزة للمواطن الحق على الوجه الآثم ، إنها هي التمتع بوظائف القاضي والحاكم ومع ذلك فإن وظائف الحكم يمكن أن تكون تارة مؤقتة بحيث لا يشغلها الفرد بعينه تبعا لأي شكل آخر وتارة عامة وبلا حدود كوظائف القاضي وعضو الجمعية العمومية. 
       يجحد أن تلك الإدارات حقيقية، وأنه تخول بعض السلطة للأفراد الذين يتمتعون بها، لكنه قد يظهر لنا هزوءا، ألا تخول سلطة ما أولئك الذين يملكون مسألة السيادة على أني لا أكاد أعلق على هذا من الأهمية، بل هذا هو مسألة ألفاظ، هذا المعنى لفظ " الإدارة العامة "، فأسمي مواطنين كل أولئك الذين يوصفون عادة بهذا الوصف. ينبغي أن يكون حدنا للمواطن معدلا على هذا الوجه في أي موضع آخر غير الديموقراطية، لا يوجد الحق العام وغير المحدود في أن يكون المرأ عضوا في الجمعية العمومية، وفي أن يكون قاضيا، بل على نقيض من ذلك تلك السلطات، خاصة لأنه يمكن أن يوسع لجميع طبقات المواطنين، أو يضيف على بعضها أهلية المداولة في أعمال الدولة وأهلية القضاء، وهذه الأهلية عينها يمكن أن تنطبق على جميع الأشياء أو يقتصر فيها على بعضها، حينئذ نجد أن المواطن هو الفرد الذي يمكن أن يكون له في الجمعية العمومية، وفي المحكمة صوت في المداولة أيا كان مع ذلك شكل التي هو عضو فيها، ففي اللغة المستعملة المواطن هو الفرد المولود لأب مواطن ولأم مواطنة، هذين الشرطين لا يكفي غير أنه من هذا التعريف الذي يظن بأنه بسيط، بقدر ما هو جمهوري تنشأ صعوبة أخرى، وهي أن يعلم هل كان الجد الثالث أو الرابع مواطنا، فالمواطنون كانوا يتمتعون بالحقوق الواردة في تعريفنا، لأن ولاة امرئ لأب مواطن ولأم مواطنة هي شرط لا يمكن عقلا أن يطلب من الساكنين الأول، المؤسسين للمدينة.
       وقد يكون مشكوكا فيه على وجه أقوم حق أولئك الذين لم يصيروا مواطنين إلا على إثر الثورة، كما فعل كليتسين بعد طرد الطغاة من أثينا، هذه المسألة الحقة هي أن يعلم لأنهم مواطنون، بل يكونونهم بالحق أو بالباطل، هذا الوجه يمكن أن يتسأل أيضا هل يكون المرء مواطنا حينما يكونه بغير حق، باعتبار أن عدم الحق هذا يساوي الخطأ المبين، فالمواطن عندنا هو فرد مخول سلطة ما، وحسبه أن يتمتع بهذه السلطة ليكونوا مواطنا كما قلنا حتى المواطنون الذين جعلهم كذلك في الواقع، من هذا المنطلق، وحسب أرسطو أن المواطن هو الفرد الذي تكون له المشاركة السياسية، والذي ينحدر من جماعة مواطنين، يتبين أن أرسطو حاول أن يعرف المواطنة من جهة بحثه للواقعي للمواطن اليوناني. لكن أرسطو يوضح في كتابه "السياسة"، أن المواطن يتجاوز المعطى العرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتأسيسا على ما سبق يكون عدد المواطنين محدودا جدا، حيث يكون مواطنا من توفرت فيه الشروط التالية:
- الجنسية حيث يكون مولودا لأب مواطن ولأم مواطنة. 
- الجنس حيث أن المواطنة قاصرة فقط على الذكور دون الإناث.

ب- فضيلة المواطن الصالح:

       تتبع المسألة هي التي تعرف هناك تماثل بين فضيلة الفرد على حدة وفضيلة المواطن أو هما تختلفان إحداهما على الأخرى، لعلاج هذا البحث بطريقة منظمة ينبغي بديا أن نحدد ما معنى المواطن؟ يشرع أرسطو في حديته عن فضيلة المواطن الصالح في مقابلتها بفضيلة الرجل الصالح من خلال مثال يتحدث فيه عن الملاحة على ظهر السفينة، وأنهم ليسوا شيئا واحدا، كذلك نقول أن المواطن هو أحد الشركاء، لكن البحارة متباينون في حدقهم هذا جدافا والآخر مساعدا وذلك ربانا، بالرغم من هذه التسميات والوظائف التي ترتب بالمعنى الخاص، لكنهم جميعا يشتركون مع ذلك في تحصيل غاية مشتركة، وهي سلامة سفينتهم التي يقومون بها والتي يسعى كل واحد منهم إليها على السواء، إنه من الاستحالة أن تتألف الدولة من عناصر متباينة، وذلك بفعل فضيلة جميع المواطنين، كما أنه لا يمكن أن تكون وحدة وظيفة في الجوقات، حيث عمل أحدهم رئيس والآخر تبعي، إذ يمكن أن تجتمع له هذه الفضيلة المزدوجة للمواطن الطيب والرجل الطيب، إذا كانت فضيلة الحاكم الطيب مماثلة لفضيلة الرجل الخير، وإذا كان المرء، لا يزال مواطنا حتى مع طاعته للرئيس فإن فضيلة المواطن على العموم لا يمكن أن تكون من ثم مماثلة على الإطلاق لفضيلة الرجل الخير، بل تكون فقط فضيلة مواطن ما، مادامت فضيلة المواطنين ليست البثة مماثلة لفضيلة الحاكم الذي يحكمهم، فبهذا الكمال المزدوج الآمرة والطاعة تتعلق عادة الفضيلة العليا للمواطن، لكن إذا كانت الآمرة يجب أن تكون الرجل الخير وأن معرفة الطاعة ومعرفة الآمرة، هما الملكتان الضروريتان للمواطن ففي الحق لا يمكن أن يقال إنهما تكونان خليقتين بالتساوي في الثناء،ينبغي التسليم بهاتين النقطتين:
بديا، أن الإنسان الذي يطيع وذلك الذي يأمر لا ينبغي أن يتعلما كلاهما أشياء بعينها.
ثانيا، إن المواطن أن يجمع بين الملكتين ليعرف الاستمتاع بالسلطان ثارة والاستسلام للطاعة ثارة أخرى، فلتسلم أيضا بأنها فضيلة للمواطن العادي، وعندئذ لن تكون مخطئا، وعلى آية حال فسنبحث هذا الموضوع بتفصيل أكبر في وقت آخر إن شئنا. المواطن الصالح لابد أن يتفرغ للحياة الفضيلة، التي تتمثل في الأعمال اليدوية والشاقة والمتعبة.


المحور الثالث: علاقة المواطن بالدولة.

       يناقش أرسطو في الكتاب الثالث من كتاب السياسة طبيعة الدولة، فيرى أن وظيفة رجل الدولة أو السياسي والمشرع تعني بصفة كاملة بالدولة كهدف وموضوع، وأن الدولة شيء مركب من عناصر مختلفة، شأنها أي شيء آخر يحمل صفة الكل، لكن يتألف من أجزاء، وعلى ذلك يشرع أرسطو في مقدمة الكتاب الثالث من كتاب السياسة في توضيح علاقة المواطن بالدولة، ذكرنا سابقا على أن أرسطو هو أول فيلسوف يأخذ بصراحة بنظرية التطور العائلي، في تفسير نشأة الدولة، فهو يذهب إلى أن الدولة ظهرت نتيجة لتطور تاريخي من الأسرة التي هي النواة الأولى في المجتمع، وقد نشأت الأسرة نتيجة الحاجات الضرورية، التي يشعر بها المرء وأهمها رأيه الحاجة إلى التناسل لبقاء النوع، هذا يعني أن الدولة هي الغاية الطبيعية رأي الاجتماع إنساني يبدأ حتما بالأسرة لينتهي، فهي غاية كل المراحل السابقة، فالأسرة ثم القرية وصولا إلى المدينة وهي الإطار البشري والقضاء العمراني للدولة. إن العلاقة بين الدولة والفرد حسب أرسطو هي أن الدولة صورة والفرد هيولي، وأن وظيفة الدولة وتربية الأفراد على الفضيلة، وتهيئة الأسباب لهم ليكونوا فاضلين، وبدون ذلك لا يكون الإنسان إنسانا، إنما يكون وحشا ضاريا، النواة الأساسية لتكوين دولة هي الإنسان، نجد الدولة هي التي أصبحت الهدف والغاية في ذاتها، ولا شك أن هذه العلاقة الجدلية دليل على ما هي طرفيها وتطابقها في القيمة وأهلية الأسرة، وإن سبقت الدولة في التاريخ، فالدولة سبقت الفرد والدولة في التاريخ، فالدولة سبقت الفرد والدولة في الفكر، لأن الدولة هي الغاية والغاية تسبق الوسائل في الفكر كما تقدم، فالدولة من حيث صورة سابقة على الأسرة، من حيث هي هيولىي، وإذا كانت الأشياء نشرح بغاياتها فالأسرة تشرح بالدولة لا بالعكس، هذا الطرح يتعارض في مجمله من حيث المبدأ مع ما يقرره أصحاب نظريات العقد الاجتماعي، الذين يرون الدولة شكلا طارئا من أشكال التنظيم فرضته الحاجة، وما هو إلا وسيلة لحماية الفرد وضمان بقائه. الأمر أعمق من ذلك وأكثر تعقيدا، إذ أنه يتصل بالفطرة الإنسانية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالجماعة البشرية المنظمة الهادفة إلى مصلحة البقاء، إضافة إلى ذلك دليل واضح على الطبية السياسية للإنسان: "وليست علاقة الجزء علاقة ميكانيكية، بل هي عضوية، فالدولة لها  حياة خاصة وأعضائها لها حياة كذلك"، لعل هذا ما دفع بأريسطو إلى الربط المباشر والجازم بين المواطنة والأشياء بالشأن السياسي. أما عن العناصر التي تشكل من خلالها هذه السلطة فهي: الناخبون والمنتخبون وطريقة تعينهم أو كيفية الوصول إلى السلطة التي إما أن تأخذ من جميع المواطنين، رغما أن تأخذ من فئة: كانت تقام بالنظر إلى الدخل أو إلى أمر آخر من هذا النوع، كما أن طريقة تعيين الحكام يمكن أن تتم بالقرعة أو الانتخاب سواء من جميع أو جزء من المواطن. 
       أما فيما يخص السلطة القضائية أو مجلس القضاء فيتناولها أرسطو من نواحي ثلاث: الهيئة التي تتألف منها، والقضاء التي تعالجها، وطريقة تأليفها، هل تتألف من جميع المواطنين أو من البعض منهم، وكم هي أنواع المحاكم؟ وكيف تتألف هل عن طريق القرعة أم الانتخابات؟ ففي ما يخص أنواع المحاكم عنده هي المحاكم السياسية، وهي تلك التي تتناول القضايا ذات الطابع الدستوري العام، والمنوط بها ضبط السلوك السياسي للمواطنين والحكام معا، وحتى لا يختل النظام العام، وتموج الدولة بالقلاقل والثورات. إن قضاة هذه المحاكم يمكن أن يتم تعيينهم إما عن طريق القرعة وإما بالانتخاب، وذلك متى ما حازوا الأهلية للحكم في الاختصاصات المطلوبة، ومتى ما بدا أن هؤلاء القضاة يمثلون عموم الشعب، فالنظام هنا يكون ديموقراطي الهوى، متى ما انحدر القضاة من طبقة بعينها، فالنظام يكون هنا أوليغارشيرالمنزع، ومتى اختير القضاة من خلال المواطنين الممتازين، كان النظام أرستوقراطيا فاضلا، بمعنى أن أرسطو تناول هذا الموضوع بشكل عمومي فضفاض طغت عليه اهتماماته الأساسية من تقسيم منطقي طابع لأنواع الحكومات. 

المواطن والسلطات السياسية:

       يرتبط مفهوم الدولة عند أرسطو بمفهوم المواطن ولا يضاح مفهوم الدولة بجميع أبعادها، لقد سئم أرسطو من تهميش المواطن في اليونان، وضياع حقوقه السياسية، فأراد استرجاعها عبر إقحامه في تأسيس المجالس الاستشارية والقضائية، وتجاوز مفهوم العدالة الأفلاطونية، القائم على أساس الشعور الأخلاقي إلى مستوى الممارسة السياسية لحق الاشتراك في إنتاج القوانين والسلطات، يقول ناقد الحكم الشعبي وأساليب الممارسة القائمة على التضليل وأغلوطة المفهوم العرفي للمواطن: وقد اعتاد أولياء الأمر لإنشاء هذا الصنف من أصناف الحكم الشعبي، ولتعزيز الشعب فيه، أن يضموا إلى تلك الطبقة أوفر عدد ممكن من المؤهلين، وأن يحصوا في عداد المواطنين، لا الأهليين منهم حسب، بل الأنفال والهجناء أيضا، وأبناء أي مواطن كان، أي أبناء الأب مثلا أو الأم، وإن كان أحدهما مواطنا، بمعنى أن المواطن في اليونان همش وضاعت منه حقوقه، لذلك سعى نحو الإنصاف والعدل والمساواة، وناضل من أجل الاعتراف بحقه في المشاركة واتخاذ القرار على الدوام.
       لكل سلطة حيزا خاصا يبين من خلاله أرسطو صلاحياتها ومهامها، فالسلطة الاستشارية مهمتها البث في الحرب والسلام، وعقد المعاهدات وحلها، وتصدر القوانين، وتصدر حكم الإعدام والنفي والمصادرة، وتنظر في محاسبة الحكام، أما السلطة التنفيذية يناط بها أمر إدارة أمور الدولة اليومية، وهي سلطة ذات وظائف كثيرة، متشعبة بمستوى تشعب حاجات الدولة ومهامها، معناه أن هذه السلطة مهمتها تختلف باختلاف طبيعة الشكل الدستوري للدولة.  

 خاتمة:

    لقد كانت الرحلة مع مفهوم الدولة وعلاقته بالمواطن عند أرسطو ممتعة جدا، ووجه المتعة في الأولى أنك تتعامل مع مفهوم ينبض بالحيوية ويشع بالفاعلية تستطيع أن تصادفه، كفى  كل جزء من تفاصيل حياتك العامة بل هو جزء كبير من كينونتك، أما وجه المتعة في الثانية هو أن ترى هذا المفهوم وهو يولد ولادة عسيرة حقا، لكنها مشوقة تجعلك ترى وبوضوح كيف تولد الأفكار خاصة مع مفكرين عظماء من شاكلة ارسطو. تعتبر السياسة الأرسطية فلسفية قوية متحفظة بالكثير من رونقها، ويمكن اتخاذ قواعدها كأساس للبناء عليها من جديد في زمننا هذا، ومن أهم مميزاتها أنها بنيت على نسق منطقي متكامل، فلم تكن بعض شذرات متفرقات أو مجرد على أراء لمباحث شيء لا رابط بينهما، كذلك لاحظت أنه لم في سياسة أرسطو شيء من التلصيق، وإنما بني من هبة السياسة على أفكار محددة منها فكرة المجتمع، وضرورة تقسيم الحكومات والاختلاف الطبقي، ومساواة الحقوق والواجبات، وكل هذه الأفكار مردها إلى مبدأ محدد، بني أرسطو مذهبه على مبدأ العلية والضرورة. لم تكن نظرة أرسطو للسياسة كنظرة باقي الفلاسفة بحثا عن المطلق وعن الأحسن دون إضافة، لكنه كان يبحث عن الأحسن المضاف والأحسن الجزئي الذي يناسب مجتمعا محددا، فأرسطو يرفض وضع دستور ثابت، ولكنه يتحدث عن دستور يناسب فئة ما يضعونه بأنفسهم وتوافق عليه أغلبيتهم ليعملوا به، رغم أنه فيلسوف كلي باحث بمنهج كيفي، إلا أنه يدرك أن السياسة علم عملي يستخلص من وقائع الباس الجزئية. يمكن استخلاص بعض القواعد التي بني عليها أرسطو فلسفته السياسية ونظريته في الدولة تتمثل في:
1- الدولة مجتمع فطري: حيث أنشأ أرسطو مذهبه السياسي على الأخلاق تمسك به في كامل نظرياته السياسية، فهو يرى في كتابه السياسة أن خير الإنسان، إنما يخدم السياسة، فالعلوم كلها تخدم السياسة في حين تخدم السياسة الإنسان، وهذا المجتمع السياسي طبيعي وليس مجتمعا سياسيا متكلفا غير الفطرة لكون الإنسان مدني بطبعه، وبذلك جعل أرسطو أول المدنيات الإنسانية الأسرة، بل إن وجود الأسرة يتفق مع الوجود الإنساني، فقد كان مذهب أرسطو في تدبير شؤون المنزل وسياسته بمعناه الخاص والعائلة بالمعنى العام تتويجا لفلسفته.
2- التفاوت بين الأفراد:أقرت ظاهرة التفاوت بين أفرادها وكل محاولة لطمس هذا التفاوت هي محاولة فاشلة، حيث راعى أرسطو أثناء بحثه السياسي النظر إلى واقع الجماعة الإنسانية، فانتقد نظرية أفلاطون على أساس أنها أغفلت من جهة مبدأ تكافؤ الفرص على الوجه الصحيح بين أفراد المجتمع، والتعاون حسب أرسطو مرده إلى الفعل والعاطفة معا، والناس متفاوتون في المهارات والكفاءات لذى يجب أن يتميز كل منهم بتفاوت هذا كما أنهم متفاوتون في نزعاتهم وميولهم، فمن المستحيل أن يرضوا كلهم بدرجة واحدة، بالإضافة إلى النزعة الإنسانية الخاصة بحب التملك، ومن هنا كان التفوق بين الأفراد ضرورة طبيعية ناتجة عن الطبيعة في حد ذاتها.
 3- التوظيف الطبيعي للتفاوت:حسب أرسطو لابد لكل فرد أن يضطلع من المهام ما يناسب طبيعته (مهاراته وقدراته التي منحته إياها الطبيعة)، فتكون مهمته مهمة طبيعية، فمن الطبيعي أن يقود الرجل وتدبر المرأة المنزل، وكذلك هو الأمر بالنسبة للوظائف فيجب أن توزع توزيعا طبيعيا حسب الكفاءات، فإذا حصل خلل في هذا التوظيف، نتيجة التفاوت بين الناس أفقيا ورأسيا في زمن واحد كذلك كأن أرسطو يرفض نظام ثابت ودستور موحد ليكون الصورة المثلى، بل لا بد حسبه من وضع ذلك الدستور باشتراك الناس في وضعه، وينبغي مراعاة هذا التفاوت أثناء صياغة الدستور.
 4- البقاء للأوسط: يقارن أرسطو بين أنظمة الحكم وأنواع الحكومات، فيرى أنها تحمل الخير كما أنها تحمل الشر، لذى يعمد إلى دمج هذه النظم ليخلص في النهاية إلى نتيجة تعبر عن حكومة جلها نسبيا، وهذه الحكومة حسب أرسطو هي التي تحمل مبدأ الوسطية (اعتماده مبدأ الوسط بين الوسطين)، فخير الأمور الوسط، حيث لا يمكن للحكومة النخبوية أو الفردية أن تحقق ذلك الكمال المنشود، كما لا يمكن الغوغائية والشعبية أيضا أن تحقق ما فشلت فيه الحكومات الأخرى، فهو يجعل السلطة لصالح طبقة وسطى بوليتية تعمل على الموازنة بين شجع الثراء وقحة الفقر، حيث يوزع أرسطو شعار الحكمة الدائمة التي تقول أن خير الأمور الوسط، فالاعتدال في كل شيء هو أساس النجاح وهذا الاعتدال لا يكون إلا بالاعتماد على الطبقة الوسطى، التي تحقق الموازنة بين الأثرياء وجشعهم وبين الفقراء ولا مبالاتهم، فالدولة هي التي تضمن الحل تحت لوائها حقوق المواطن، ولا تكون جمهورية إلا وسط بين الطرفين بين أرستقراطية المال وبين ديمقراطية، وهذا يعني أن أرسطو يضع ضابطا لتلك الوسطية لا بد من مراعاته وهو المساواة بين الحقوق والواجبات ما بين ذات وذات.
 5- الانسجام الشعبي مع الدستور: من الممكن أن تقوم الدول تحكم أفراد غير منسجمين سواء كان عدم الانسجام نتيجة للعرق والثقافة أو غير ذلك، لكن الأهم حدوث تلك التوافق بين أفراد الشعب والدستور الحاكم لهم، فلا بد أن يضع الشعب الدستور لا أن يملي عليه لأن ذلك لأن دافع لقيام الثورات وحدود الانقلابات، حيث يرفض وضع دستور ثابت محددا بعينه لما رآه من تغيرات وتحولات تطال كل شيء عبر الزمان والمكان، مراعيا في ذلك اختلاف النوازع والميول الإنسانية.
 6- علاقة المواطن بالدولة: إن الهدف من إقامة الدولة هو تنظيم لا الاجتماع البشري وحمايته، حيث أصبحت الدولة هدفا وغاية في ذاتها، والعلاقة والدولة حسب أرسطو هي الدولة صورة والفرد هيولي كما ذكرت سابقا- وأنن وظيفة الدولة تربية أفرادها على الفضيلة، وتهييئهم منذ الصغر ليكونوا فاضلين، كما أن انتماء الأفراد للدولة هو الذي يعطي له معنى الإنسان الحقيقي، ويسمح له بتحقيق طبيعته الحقيقية، وتقوم الدولة بدورها على تحقيق كيانها الطبيعي ومنحه مجموعة من الحقوق والواجبات التي تكفل له صفة المواطنة والعيش داخل المدينة، من بين هذه الحقوق يركز أرسطو على ضرورة المشاركة في المناصب السياسية والوظائف القضائية.
 7- السياسة علم تطبيقي: يقدم أرسطو مذهبه السياسي بناء على الواقع لا التفكير النظري، فعلم السياسة علم عملي، فلا غرابة أن يكون موضوعه ونظرياته مستمدة من الواقع وهؤلاء الذين يحاولون البحث في مجالات السياسة من جانب نظري لا يمكن أن يؤدي بهم إلى نتائج صحيحة أو على الأقل قابلة للتطبيق.
8- أهمية الفكر السياسي الأرسطي: لقد حظي المعلم الأول بمكانة عظيمة في تاريخ الفكر الفلسفي السياسي سواء الغربي أو العربي الإسلامي، حيث تعلقت به قلوب الفلاسفة المسلمين الذين نعت بعضهم، المشائين تيمنا وتشبها بتلاميذ أرسطو، حتى لم يجد بعض مؤرخي الفكر عضاضة من القول أن الفلسفة الإسلامية ليست إلا امتداد للفلسفة اليونانية.
      كما تعد فكرة المواطنة امتدادا لما جاء به أرسطو في كتابه السياسة، حيث اعتبرها طريقة لفهم العلاقة بين الفرد ونظام الحكم، لتكون المواطنة في نهاية التحليل الأرسطي هي وظيفة لنظام الحكم، وهذا التحليل الذي قدمه أرسطو كان بمثابة الطريق المعبد الذي سار عليه فلاسفة عصر التنوير والنهضة الأوروبية حيث انطلقوا مما قدمه أرسطو وصاغوه في قالب - جديد للمفهوم- مفهوم المواطنة يقوم على أساس نظرية العقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة، يكون قانون هو من يحكم العلاقة بينهم وأن يكون للفرد كينونته المستقلة، وما هذا إلا ترجمة أو إعادة صياغة للفكر القديم في قالب جديد مستوحى من أفكار أرسطية بحثة.

                 قائمة المصادر والمراجع
       المصدر:
 1 - أرسطو: السياسة، تر: أحمد لطفي السيد، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، دط، 1979.

      المراجع:

  2 - أفلاطون: الجمهورية، تر: حنا خباز، المطبعة المصرية، القاهرة، دط، 1929.
 3 - أرسطو: السياسيات، تر: الأب أوغسطين بربارة البولسي، اللجنة الدولية ترجمة الروائع الإنسانية (الأونسكو)، بيروت، 1957.
4 - إمام عبد الفتاح إمام: أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي القاهرة، ط1، دت.
5 - مجلة الشاهد: نوتوهارا في كتابه العرب وجهه نظر يابانية.
6 - ميكيافياللي: الأمير، تر: جمال إبراهيم، دط: الحرية، 2012.
7 - محمد وقيع الله أحمد: مدخل الفلسفة السياسية.
8 - أرسطو،السياسة، تر: الأب أوغسطين، بربارة البولسي.
9 - باسمة كيال : تطور المرأة عبر التاريخ، مؤسسة عزالدين للطباعة والنشر، بيروت، 1979.
10 - يسرى الأيوبي: المرأة عبر الزمن، ج1، اللجنة الأسبقية لوسائل الإعلام، لبنان، 1969.
11 - مصطفى السباعي: المرأة بين الفقه والقانون، تطور حقوق المرأة عبر التاريخ.
12 - إمام عبد الفتاح إمام: الأخلاق والسياسة:دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، دط، 2002. 
   

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/