عسكري المُرور وصافرة إنذاره - محمد عرفات حجازي

فيلوكلوب أكتوبر 27, 2019 أكتوبر 27, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: عسكري المُرور وصافرة إنذاره - محمد عرفات حجازي
-A A +A


عسكري المُرور وصافرة إنذاره
محمد عرفات حجازي[*]

   ها هي أمي ـ رحمها الله ـ تُنادينا صبيحة الجمعة: هيّا سنذهب إلى منزل خالك.. يا لسعادتي؛ سأذهب إلى خالي.. سأشاهد القطار يمُرّ مُسرعًا بالقرب من منزله.. سأشاهد التلفاز ـ الذي طالما حرمنا منه أبي ـ رحمه الله ـ أيام الدراسة.. سأشاهد مسلسل سرّ الأرض، وأشاهد فيلمًا لإسماعيل يس أو محمود شكوكو في العشية، وأشاهد مصارعة المُحترفين، ثُمّ المسلسل اليومي المسائي ربما لن أعيش في جلباب أبي، أو ذئاب الجبل، أو يوميات ونيس، زيزنيا.. أيًّا ما كان، لتبدأ الرحلة.
   هناك، وعلى مقربةٍ من الوصول يقف عسكري المُرور الذي لا يكلُّ من إطلاق صافرته ليرمي له كلُّ سائق خمسة قروش أو عشرة معدنيّة، أستغرب الأمر ونمضي في طريقنا.. مساءً، نعود إلى المنزل برفقة أبي لأرى مُجدّدًا عسكري المُرور نفسه أو شخصيّة أخرى ولكن بنفس التفاصيل اللاهثة وراء القروش المعدنية..
   مرّت السنوات ليبقى المشهد بِرُمّته يُطاردني، وتتبدّل فيه العملة المعدنية إلى عُملة ورقية.. وكُلّما مضت السنون زادت المبالغ المدفوعة.. لقد حاولت الاستفسار في طفولتي، ولكن لم أفهم الدرس جيدًا: يفعلون هكذا تجنُّبًا للمُخالفات!
   خلال تواجدي في بعض الدول العربية بعد العام 2011م بدأ قائدي السيارات يسيرون في الاتجاه المُخالف وبلا لوحات معدنية: يبدو أن العسكري وصافرته ـ فقد هيبته! ما الأمر؟
   إنّ قيادتي للسيارة تعني ضرورة حصولي على رخصة قيادة، والتي من لوازمها إلمامي بإشارات المرور وعملية السير والاتجاهات والسرعة عمومًا، فلماذا العسكري وصافرته؟ ولماذا النقود؟ ولماذا تمايلت هيبته ثمّ عادت سريعًا؟
   إنّه بصافرته يعلنها على الملأ: أنا فاسد ومُرتشي، وإن لم تدفع سأحرّر لك مُخالفة.. إنّها السيادة في مُقابل القهر والجُبن.. هي نداءٌ للعبيد لدفع المعلوم وإلاّ... هي الميراث الفاسد الذي وجدنا أباءنا له فاعلون.. هي إيقاظ لضميرنا وأخلاقنا الفاسدة: أن استمر في فسادك حتى وإن لم تكن كذلك فافعل.. إنّها رسالة لأبنائنا: أن افعلوا ـ غدًا مثلما رأيتم أباءكم وذويكم يفعلون.. هي انتكاسة القيم التي نُربِّي عليها أبناءنا..
   لا ليست رشوة بل هي المحسوبية أو قُل الإكرامية ـ هكذا نتلوّن بأفعالنا القبيحة كالحرباء كي لا نلقى لومًا من أحد.. لم يجرؤ أحد على الإقلاع عن تلك العادة العلنيّة بل ورثناها وورّثناها، وهذا هو الخداع.. هو قلب تراتب القيم: لقد برّرنا لأنفسنا أنّنا قد خدعنا العسكري فلن يُحرّر لنا المُخالفة.. وقد خدعنا العسكري ـ هو الآخر؛ وأوهمنا أنّه الواجب، ففعلناه ونحن صاغرون..
   إنّ تلك الصافرة هي الكوجيتو الديكارتي ولكن بدلالة عسكري المرور: أنا أصفّر إذن أنا موجود.. وبين فكرة الشكّ الديكارتي والإخضاع العسكري المروري تتمظهر فلسفةٌ من نوع خاص، بل ومع استمرارها أصبحت غير قابلة للطعن أو التشكيك..
   لقد بقي يُراودني الحنين إلى منزل خالي.. إلى نداء أمي.. ليوقظني التساؤل: ألم يأن لنا الاعتراف علنًا وبقوة تلك الصافرة الجرئية ـ مثلما انتكسنا علنًا: كُلّنا ـ وبإنصاف أغلبنا ـ فاسدون..


[*] باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/