المقال: أهمية تدريس الفلسفة للأطفال
الكاتب: د. زهير الخويلدي
" الطفل الفيلسوف هو مستقبل البشرية حيث تنقله الفلسفة من الطفل الموضوع إلى الطفل الذات وتجعله يفكر قبل أن يفعل"
لئن كانت الفلسفة حكرا على الراشد
والرجل والسوي والمتحضر وفق الوصفة الإغريقية للتفلسف فإن عصر الأنوار قلب الموازين
وجعل رسالة الفيلسوف تصل إلى الغريب والمرأة وغير السوي وتتيح للإنسان في بعده الكوني
أن يتعلم التفكير الفلسفي ويتأمل في الوجود ويغوص في ذاته ويتدبر به حياته.
بعد ذلك تمخض عن ثورة مابعد الحداثة
الكثير من الممارسات الجديدة للتفلسف تنبهت إلى الفيلسوف الصغير وأهمية تدريس الفلسفة
للأطفال وبينت أن الطفل الفلسفي أكثر ذكاء من الشاب وأكثر جرأة على إثارة الإشكاليات
وطرح الأسئلة الشائكة من الكهل وأكثر حكمة وتدبيرا وبراءة أصلية من الشيخ الحكيم.
فإلى مدى تصح مثل هذا الادعاءات؟ وهل
يجوز رفع الوصاية على الطفولة والقول بالأهلية الفلسفية لها؟ وماذا يمكن أن يفيد تعليم
الفلسفة للأطفال طالما أنها تلاقي العديد من الصعوبات عندما يتم تعليمها للكبار؟ كيف
تساهم الفلسفة في تعليم الإنسان الصغير؟ وماهي المهارات التي تساعد الطفل على الحصول
عليها؟ وماهي الراهنية المرجوة من ذلك؟ وهل توجد مخاطر من هذا التدريب على التفلسف
في سن مبكرة؟ وكيف يمكن مواجهتها؟ ألا تساعد الفلسفة على نبض روح التعصب وتنسيب الموقف
المعرفي من العالم؟
من المعلوم أن الطفل يولد صفحة بيضاء
على حد قول جون لوك ومثلما يسهل تعليمه عدة لغات في سنواته الأولى يمكن تعليمه أصول
التفكير المنطقي وإرشاده إلى المناهج المعرفية والقضايا العلمية العامة والانتقال بعالم
الطفولة من مجرد عالم منظور من طرف الآخر إلى ذات ناظرة في الكون ومتسائلة عنه.
إذا كان سقراط قد دعا إلى ضرورة الاعتناء
بالمولود الجديد ووضعه على محك التجربة وتدريبه على السلوك وإذا كان ديكارت قد جعل
الشك المنجي مواجهة شاملة مع الطفولة وصرح بأن مأساة الإنسان أنه ولد طفلا فإن نيتشه
نظر إلى الطفل اللاعب على أنه المعبر عن الفكر الحر والقادر على خلق العالم وقيمه.
المهارة الأولى التي يكتسبها الطفل
من تعلمه للتفلسف هو امتلاك اللغة الفلسفية واشتغاله على المعاني والمفاهيم وتمكنه
من التفريق بين اللغة العادية والكلام المتداول واللغة المعرفية والعلمية التي يجدها
في النصوص ويكتب بها في الأوراق ويبدأ في التعامل معها بنوع من الهيبة والاحترام والتقدير
والتبجيل وإنتاج خطاب خاص به من خلال الكلمات التي ينتقيها وفق ميولاته وذوقه ويسمي
بها الظواهر الموجودة.
المهارة الثانية التي يمتلكها الطفل
الفيلسوف هي التمكن من التفكيك والهدم والإلغاء للأشياء الموضوعة أمامه وبعد ذلك الانتقال
إلى مرحلة البناء والتشييد والتركيب والتأليف والتأسيس لأشياء جديدة وعوالم مغايرة
وتشكيل عالم خيالي يسمح له برؤية التجارب التي يجريها كل يوم بصورة واضحة ومنظمة ويعمل
على تمثل الكون وفق مرآته الخاصة وضمن العلاقات التي يسطرها مع نفسه والآخرين والعالم
الخارجي.
المهارة الثالثة التي يشرع في الحصول
عليها هي تدشينه لرحلة البحث عن الحقيقة من خلال شحذ ملكة الفهم لديه وتفعليه لمسلكية
إنتاج المعنى دون الاكتفاء بالتلقي السلبي والاستقبلال الانفعالي والتأثر بالأجوبة
المتراكمة حوله وتمسكه بطزاجة الأسئلة التي يوقعها بنفسه والإشكاليات التي يحرص على
طرحها لوحده.
المهارة الرابعة التي ينخرط فيها دون
أن يشرع ويبدأ في مراكمتها تتمثل في امتلاكه لأدوات بدئية للتحرر من الموجود والقطع
مع السائد والاستقلالية عن الاكراهات والارتحال نحو المنشود والهجرة إلى المجهول والمغامرة
بالذهاب من المعتاد والمألوف إلى الغامض والملغز والإقدام على السفر والتجول في الطبيعة.
المهارة الخامسة هي اقتداره على استخدام
أدوات التفكير الفلسفي بعد تمرسه على التعبير واستثمراه لأحوال الدهشة والتعجب والاستفهام
والاستغراب والشك والحيرة الوجودية التي يمر بها لحظة صعوبة الإدراك واكتشافه الوقوع
في الأخطاء وحرصه على تفادي تجارب التيه وتجنب تكرار هذه السخافات.
لكن كيف تصبح الفلسفة التي يتعلمها
الأطفال فن بناء القدرة على التصور والاستنباط والتحليل والنقد؟
لا خوف على إدخال الفلسفة إلى المدرسة
بعد الاستقرار الذي حصل لها في المعهد والجامعات والكليات ولا يمكن الانزعاج من تعليم
الأطفال المبادئ الأولى للأنساق الفلسفية والسماح لهم باستعمال عقلوهم في التفكير والاستطلاع
والمقارنة والتمييز والتحديد ومساعدتهم على ممارسة التجربة التفسيرية للأحداث.
تمنح الفلسفة الطفل لكي يعيش في مغامرة
الفكر ويتخلي عن تلقي المعلومات ومعرفة الأشياء بثقة تامة وامتلاكها على وجه اليقين
ويعول على إدخال الفلسفة إلى المدرسة لكي يطلع على المعارف المتراكمة والمعلومات الحيوية
التي يقدر على تقاسمها مع غيره والاستفادة منها في حياته اليومية وتغييرها للأفضل.
لم يعد مدرس الفلسفة يمثل المحور المركزي
في العملية البيداغوجية بل يكتفي بإعادة توزيع السلطة والمعرفة والإيثار بالتساوي على
المتعلمين والمريدين للحكمة ويقتصر على مساعدة الأطفال على امتلاك الثقافة الفلسفية
والتفكير بأنفسهم دون وصاية وهيمنة من غيرهم ويوفر لهم أجوبة مؤقتة وظرفية عن التساؤلات
المحيرة التي بذلوا جهود لطرحها ويجعلهم يسعون إلى تغيير قناعاتهم ونظرتهم بأنفسهم.
تساعد الفلسفة الأطفال على البحث والتجريب
والتشكيل والإنشاء وتخليص التجارب التي يقومون بها وتقديم وسائل إدراكية وتصور واضح
للأشياء وتخزين مواقف محددة في الذاكرة يستعملونها في إصدار أحكام مطابقة وإبداء آراء
رصينة وتدعمهم في عملية التصحيح الذاتي للأخطاء وحيازة قدرة على الفهم.
خلاصة القول أن تعليم الفلسفة للأطفال
هو تكريس للحق العالمي في التفلسف الذي ينبغي أن يحصل عليه كل إنسان مهما كان بلده
وثقافته ودون تمييز على أساس جنسه أو لونه أو دينه أو عرقه أو لغته أو عمره.
كما يتضمن برنامج تدريس الفلسفة للأطفال
في المدرسة من حيث المبدأ ومن جهة الطموح أرضية تربوية منفتحة وخلفية أخلاقية متحررة
ومشروع ثوري تنويري ويعتمد على اللين والرفق والسلم والإصلاح التدريجي ويرتقي إلى تقريب
المفاهيم والأفكار والتصورات إلى الأذهان وشحذ الهمم والإرادة نحو الحق. فمتى نرى الفلسفة
قريبة المنال من الطفل؟ ولماذا لا يتم إدراجها في مناهج التعليم في المدرسة العمومية؟
ألا تساعد الفلسفة الطفل على احترام الاختلافات واكتساب القدرة على صناعة مستقبله بنفسه
متفتح الذهن؟
المراجع:
L’enfant philosophe, avenir de l’humanité, Jacque lévine et autres,
Ateliers AGSAS de réflexion sur la condition humain, ARCH, ESF, 2008.
Frédéric Lenoir, Philosopher, méditer avec les enfants, édition
Albin Michel,2016.
Michel Tozzi, Faire philosopher les enfants constats, questions
vives , enjeux et propositions, dans revue Diogène 2008-4 N°224 pages 60 à 73/
د زهير
الخويلدي/ كاتب فلسفي
0 تعليقات