المجزوءة الأولى: مجزوءة ما الإنسان؟
المفهوم الأول: مفهوم الرغبة
المحور: الرغبة والحاجة
إعداد الأستاذ مراد الكديوى
تأطير إشكالي
إن النظر للإنسان من حيث هو رغبة. هو إعلان لبعد اخر من
أبعاده الماهوية، التي تكون الرغبة بموجبه مفهوما إشكاليا يقتضي البث الفلسفي فيه
لا من حيث هو معطى مرتبط بالنقص أوالتحقير كما هو الحال في التراث الفلسفي، بل من
حيث هو حقيقة الإنسان وجوهره التي يكون فيها "حيوان راغب" على حد تعبير
"اسبينوزا". غير أن السؤال الفلسفي عن الرغبة لا يمكن أن يتم إلا عبر
محاولة تلمس طبيعتها وماهيتها، ومن تم يصير سؤال الرغبة الأول هو سؤال الماهية: ما
الرغبة؟
تكمن الصوبة في مثل هذا السؤال الجذري في الوصول لحد (مفهوم) تام للرغبة. لذا فإن محاولة
النفاذ لطبيعة الرغبة يقتضي البث في موضوعها وتمييزه عن غيره من الموضوعات التي
تتداخل معه كموضوع الرغبة. وعليه يتوجه الجهد الفلسفي إلى عزل ما يعود للرغبة وما
ينتمي للحاجة. إلا أن هاته العملية لا تقل صعوبة عن الأولى (ماهية الرغبة) وتنبع
هذه الصعوبة من الصور المتعددة التي تظهر بها الرغبة في علاقتها بالحاجة. التي
تتوزع بين القطيعة والتجاوز والإستمرار. وعليه فإن الإشكال الأساسي للرغبة كماهية
إنسانية هو إشكال التمييز على مستوى الموضوع. ويمكن التعبير عنه استفهاميا بالصيغة
التالية:
بأي معنى يمكن فهم وتحديد طبيعة الرغبة انطلاقا من التمييز بين موضوع الرغبة والحاجة؟ وما طبيعة
العلاقة بينهما بموجب هذا التمييز؟
الإشتغال على نص ميلاني كلاين ص 28
أولا: مطلب الفهم
صحيح أن الإنسان حيوان راغب. تشكل الرغبة ماهيته إذ أنه
دائم الرغبة فبمجرد إشباع موضوع رغبته ينتقل انتباهه إلى رغبة أخرى يود إشباعها.
لكن مثل هذا التحديد يسبقه على الأقل شرط منطقي وهو أن الإنسان لا يمكن أن يرغب في
موضوع ما إلا إذا هو حقق حاجياته الضرورية أولا من مأكل ومشرب ومسكن وحفاظ على النوع...
فمن غير المعقول أن يرغب الإنسان في موضوعات دون تحقيق حاجياته الأساسية التي تحفظ
وجوده. وبذلك فإن سؤال الحاجة من الناحية المنطقية متقدم على سؤال الرغبة، والأكثر
من ذلك أن الرغبة تتطور في حضنها بالشكل الذي تكون فيه مجرد إشباع للحاجة. لكن هذه
الأسبقية المنطقية من حيث كيفية الإشباع تفقد أولويتها ويصبح التداخل والغموض أساس
هذه العلاقة الملتبسة. ففي بعض الأحيان تكون الرغبة بعيدة عن الحاجة حيث تحيل
الأولى إلى ماهو نفسي-لا شعوري أو ماهو ثقافي في حين ترتد الحاجة بشكل مستمر إلى
الطبيعة الغريزية البيولوجية التي تتطلب الإشباع الفوري. وفي أحيان أخرى لا تعدو
أن تكون الرغبة مجرد تحقيق للحاجيات البيولوجية. عند هذه النقطة تتخذ علاقة الرغبة
بالحاجة بعدا فلسفيا إشكاليا كلما أردنا سبر ماهية الرغبة إذ نجد أنفسنا مضطرين
للإنطلاق من أرضية الحاجة. وعلى كل حال فقد شكل بحث الرغبة كماهية للوجود الإنساني
على ضوء علاقة الرغبة بالحاجة. المجال الإشكالي لمجزوءة الإنسان التي
تتناول بالسؤال والتحليل والمناقشة أبعاد ومحددات الوجود الإنساني. هذا ويشكل نص
"ميلاني كلاين" التجسيد الإشكالي لماهية الإنسان الراغبة على ضوء
العلاقة بين الرغبة والحاجة. ولعل ذلك يبدو واضحا من خلال التقابلات المفاهيمية
(الرغبة×الحاجة. الإشباع×الإحباط...) التي إذا ما انتظمت في علاقة ترابطية
إستفهامية تصير تعبيرا عن إشكال طبيعة الرغبة كقضية مستنتجة من العلاقة السالفة
(أي الرغبة والحاجة) وعموما فيمكن التعبير إستفهاميا عن هذا الإشكال بالقول:
- هل الرغبة مجرد تعبير عن الحاجيات البيولوجية (كالطعام)، أم أنها تتجاوز ذلك إلى معطيات لاشعورية (كالتخلص من القلق والمعاناة)؟ ثم ما طبيعة العلاقة بينهما؟
- كيف تشكل العلاقة الجدلية بين الرغبة و تحقيقها بين الإحباط والإشباع عبر طرق الإرضاع شخصية الراشد المستقبلية؟
- وما دلالة مثل هذا التحديد المستقبلي لشخصية الراشد عبر الرغبة وكيفية إشباعها؟
ثانيا: مطلب التحليل
تتناول "م. كلاين" الإشكالات أعلاه بالتحليل
من خلال أطروحة صريحة يتحدد مضمونها في كون أن علاقة الطفل بثدي أمه لا تقف عند
حدود الحاجة المتمثلة في طلب الطعام بل تتجاوز ذلك إلى رغبة لا شعورية الغاية منها
التخلص من القلق الإضطهادي والدوافع
التدميرية. وبذلك لا تكون الرغبة مجرد إشباع للحاجة بل هي تجاوز لها. ولا تقف
"م. كلاين" عند بحث طبيعة الرغبة من خلال العلاقة بين الرغبة والحاجة.
بل تتجاوز ذلك إلى القول بأن الرغبة هي التي تشكل ماهية الإنسان فهي بتعبيرها من
تصنع شخصية الراشد عبر الكيفية التي يتم عبرها تحقيق الرغبة بين الإحباط والإشباع وهو
ما توضحه من خلال التقابل بين طريقتي الإرضاع.
ولعل مثل هذا القول يجد ما يسنده من الملاحظات العينية
لتصرفات الطفل أو الراشد. ففي كثير من الأحيان يبكي الطفل ويطلب ثدي أمه لا لكونه
جائع بل يكتفي بإمساكه بين شفتيه الشيىء الذي يؤكد أن طلب الطفل للثدي لا يمكن
اختزاله في معطى الحاجة للطعام، فأساس طلبه هذا هو تحقيق الليبيدو بلغة فرويد حيث
يسعى الطفل للتخلص من قلقه ومعاناته عبر الإمساك بثدي أمه. وعليه يكون هذا الموضوع
الخارجي موضوع رغبة يتجاوز الحاجيات البيولوجية. هذا وإن الرغبة الطفولية في ثدي
الأم لا تنتهي مع مرحلة الطفولة فهي تمتد لحياته المستقبلية إذ تشكل الرغبة الطفولية
شخصية الراشد المستقبلية، ويمكن فهم ذلك من خلال قول "فرويد"
"الطفل أب الرجل الراشد". فمل نحن عليه الآن هو ترسبات للرغبات
الطفولية. وحتى لا نبتعد عن تصور "م. كلاين" فإن هذه الصورة الناضجة
للراشد هي النتيجة الحتمية للكيفية التي يتم عبرها تحقيق الرغبة بين الإحباط الذي
تكون فيه المسافة الزمنية بين طلب الرغبة وتحقيقها طويلة وهو ما تعبر عنه
"كلاين بطريقة الرضاعة الأولى التي تمتاز بكونها أقل ضبط لزمن الإرضاع، وفيها
يواجه الطفل صعوبة في تحقيق رغباته كون الأم عاجزة عن إزالة قلقه ومعاناته. وبين
الإشباع الذي تتقلص فيه المسافة الفاصلة بين طلب الرغبة وتحقيقها وتشكل هذه
الكيفية جوهر الطريقة الثانية عند "كلاين" والتي تكون على نقيض الأولى
أكثر التزام وصرامة بأوقات الرضاعة، وفيها لا يواجه الطفل أي صعوبة في تحقيق
رغباته؛ لأن عناية الأم اتجاه طفلها عناية مبالغ فيها بحيث تحقق رغبته وتقدم ثديها
بمجرد البكاء. إلا أن هذا ينعكس سلبا على طفلها لأنها لا تزيل عنه قلقه ومعاناته
بل تعمقها. لكن بأي معنى يمكن القول بأن الإختلاف بين الإحباط والإشباع أو بين
طرق الإرضاع يشكل الشخصية المستقبلية للراشد حيث تكون صورته تعبيرا عن ماهيته الراغبة
وكيفية تحقيقها؟
يمكن التدليل على ذلك ببيان الإختلاف بين الطريقتين. ففي
الطريقة الأولى رغم أنها تبدو سلبية إلا أنها أكثر ملاءمة للطفل كونها تسمح له
بالتعبير بالبكاء عن قلقه ومعاناته. ومن تم تكون له القدرة على التعبير عن ذاته
ومحاولة إثباتها، ولعل هذا المعطى ينبع بالأساس من كون الطفل يصارع لتحقيق رغبته
بالمزيد من البكاء دون الإعتماد على الأم كوسيلة لتحقيق كل رغباته. فمجموع هاته
الخصائص تشجع الطفل على التكيف السليم مع العالم الخارجي وتطور لديه مفهوم الواقع.
والأكثر من ذلك أن حضور الصراع بين موضوع الرغبة وإشباعها يجعل من هذا الفرد قادر
على ابتكار حلول لمشاكله عبر مواجهة قلقه والإعلاء والأنشطة الإبداعية. أما في
الطريقة الثانية فإن الطفل الذي لم يسمح له بالتعبير عن قلقه ومعاناته بالبكاء
نظرا للإشباع الفوري للأم لرغبة طفلها فهو يؤثر سلبا على شخصيته المستقبلية؛ إذ أن
غياب الصراع بين الرغبة وإشباعها يجعل من شخصيته دائمة الإضطراب فالراشد هنا يعتمد
على الآخرين في تحقيق رغباته وأحيانا حاجاته. ومن تم تكون شخصيته مطبوعة بالضعف
بحيث تفتقر لعنصر الإغناء والإنفتاح والإبتكار والإبداع...ولعل هذا التشكل لشخصية
الراشد على ضوء الكيفية التي يتم عبرها إشباع رغبة الطفل يجد تعبيره عند الراشد
نفسه. فمن هؤلاء من تجده يعتمد على نفسه في تحقيق رغباته ومنهم من تجده يعتمد
اعتمادا كليا على أمه في تحقيق رغبته.
إن أطروحة مثل هذه التي تجعل من الرغبة تجاوز للحاجة
بحيث تصير الرغبة العنصر الماهوي الذي يحدد شخصية الراشد من حيث كيفية الإشباع. لم
تكن لتقوم دون بنية حجاجية تشكل السلم الحجاجي للأطروحة بحي تعطيها مصداقيتها
المنطقية والحجاجية، ولعل أهم الحجج التي اعتمدت عليها "كلاين" نجد حجة
التقابل التي تطبع النص على المستوى المفاهيمي، كالتقابل بين الحاجة والرغبة
التي تسعى من خلاله إلى توضيح طبيعة الرغبة اللاشعورية من جهة وتوضيح طبيعة
العلاقة بينهما (الرغبة والحاجة)، أو التقابل بين الإحباط والإعلاء أو الصراع
وغيابه. إذ أن مجموع هاته التقابلات تعكس الكيفية التي من خلالها يتم تشكيل شخصية
الراشد مستقبليا انطلاقا من التقابل المفاهيمي. هذا التشكل المستقبلي هو ما توضحه
"كلاين" بالإستناد لحجة أخرى أساسية في انتاج المعنى المنطقي للنص وهي حجة
العرض والتفسير. بحيث لا يمكن فهم صورة الراشد المستقبلية على ضوء الرغبة إلا
انطلاقا من طرق الإرضاع، التي تتوزع بين الطريقة الأولى والثانية. فعلى ضوء هاتين
الطريقتين تفسر "كلاين" شخصية الراشد من خلال الخصائص المتضمنة في كل
طريقة والتي تؤدي إلى نتائج مستقبلية. بالإضافة إلى مجموعة من الروابط الحجاجية
اللغوية. كالتأكيد ( كما يتبين أن رغبات الطفل/ وأكرر هذا الأمر/ إن غياب
هذا الصراع...). والنفي (هذه الأم لا تزيل عنه معاناته وآلامه/ لم يسمح لهم
بأن يعبروا...) وتتمثل الوظيفة الأساسية لمثل هذه الروابط في النص على الإعانة في
الإيضاح والتفسير إما بالإثبات أو النفي حتى تتضح معالم الأطروحة.
ثالثا: مطلب المناقشة
"لبست الفلسفة معبد إنها ورشة" هكذا شاء كانغيلام
للفلسفة أن تكون. فهي بهذا المعنى ليست مجال لتقديس الأفكار بل هي مساءلة نقدية
وإخضاع كل الأشياء لمحكمة النقاش. وإذا كان الامر كذلك فإن تصورا مثل تصور
"كلاين" بالرغم مما يتمتع به من قيمة فلسفية وعلمية. كامنة في الأساس في
النظر للرغبة من زاوية علم نفس الطفل. إذ تؤسس قولها على أرضية علمية تنظر من
خلاله للرغبة نظرة سيكولوجية حيث تكون طبيعة الرغبة طبيعة لاشعورية مادامت تتغيا
اللذة عبر التخلص من القلق والمعاناة وتجاوز الحاجة. إلا أنه بالرغم من هاته
القيمة التي تضفي على الإنسان الرغبة كتحديد ماهوي بحيث تجعل من كيفية إشباع
الرغبة الأساس الذي تتشكل داخله شخصية الراشد. إلا أنها لم تكن مجال للإجماع ذلك
أن الرغبة لا تتحدد دائما بالإحالة إلى ما هو سيكولوجي-ذاتي. فهناك مجموعة
الخلفيات خارج الذات كالثقافة هي التي تحدد طبيعة الرغبة وعلاقتها بالحاجة. وعليه
فإن الحدود الفلسفية لتصور "كلاين" كامنة في كونها تتصور الرغبة بمنطق
أحاذي بحيث لم تتجاوز الوجود الذاتي للرغبة وبقيت حبيسة التحليل السيكولوجي دون
الإنفتاح على الثقافة كتمظهر وفاعل أساسي في فهم الرغبة الإنسانية. ولعل إغفال هذا
المعطى من طرف "كلاين" هو الأساس الذي يستند إليه "رالف
لينتون" في تصوره لطبيعة الرغبة وعلاقتها بالحاجة. فالرغبة ذات ارتباط وثيق
بالحاجة، حيث تدخل الرغبة في باب الحاجيات النفسية التي يكون هدفها تحقيق السعادة
وإدخال الرضا على النفس. إلا أن تحقيق هذا المعطى لا يترك للفرد بل تتدخل أساسا
فيه التهيئة الثقافية له، فالكيفية التي يتم عبرها إشباع الرغبات أو الحاجيات
النفسية. تتباين بحسب الإختلاف الثقافي للأفراد. فالرغبة إذن هي ذات طبيعة ثقافية
تتطور في أحضان الحاجة إلا أنها تنفصل عنها للتعبير عن معطيات ثقافية تنفصل عن
الحاجة. كاللباس مثلا؛ فمركب الملابس عند لينتون لا يعبر فقط الحاجيات البيولوجية
المتمثلة في الوقاية من البرد. لأن هاته الحاجة تصبح بدون قيمة في فصل الصيف.
وبذلك فإن هذا المركب يعبر عن الرؤى الثقافية للباس بدل الحاجة فقط. فاللباس تعبير
عن "نشاط الجنس" الذي يحمل مجموعة من الوضائف كالتعبير عن المعتقدات
المتمثلة في الحشمة وكبيت الشهوات الجنسية أو اثارة انتباه الجنس الآخر والحيازة
على اهتمام انتباه الأشخاص وإعجابهم...
إن المعطى الذي يمكن أن نحتفظ به هو أن الرغبة ذات طبيعة
ثقافية عند "رالف لينتون" في حين أنها ذات طبيعة نفسية-لاشعورية عند
"كلاين". هذه الأخيرة تكون الرغبة لديها تجاوز للحاجة، وهو الأمر الذي
نجده عند "رالف لينتون" لكن بصورة تبدو منفصلة عن الحاجة الغريزية
البيولوجية. إلا أنهما ينطلقان من فكرة واحدة وهي لا سبيل لفهم الرغبة بمعزل عن
الحاجة.
رابعا: مطلب التركيب
خلاصة القول أن تلمس ماهية الرغبة كأساس للوجود الإنساني
إشكاليا في تحديد طبيعة الرغبة بين ما هو نفسي-لاشعوري وبين ما هو ثقافي. ولعل هذا
الإشكال ينبع ويتحدد بحسب طبيعة العلاقة التي تقيمها الرغبة والحاجة بين الإستمرار
والقطيعة أو التجاوز. لذا فإن هاته العلاقة تكشف الإحراج الفلسفي في بيان طبيعة
الرغبة أكثر منه في تحديد طبيعة هاته العلاقة. لكن ألا يمكننا تحديد طبيعة ماهية
الرغبة هذه المرة على ضوء سؤال الأصل بدل سؤال الموضوع والتمييز والعلاقة. وهكذا
يصير سؤال الرغبة الأساسي: ما أصل الرغبة هل هو المعطى الذاتي الكامن في الشهوة أو
الإرادة أم أن هاته الرغبة تجد أصلها في المجتمع الذي يخلق الرغبة ويعين كيفية
إشباعها.
0 تعليقات