محمد عرفات حجازي - باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية / مصر
مع
ازدياد الفضائيات الخاصة بالأطفال، في وقتنا الراهن، تغلغلت شخصيات أفلام الكرتون
في أطعمة الأطفال وألبستهم وألعابهم... ودخولها ليس مجرد رسوم مُلوّنة، بل بما
تحتويه من قيم ومفاهيم وأدوار درامية تحملها هذه المسلسلات. وعلى هذا الأساس، تلعب
الرسوم المتحركة دورًا هامًا في مرحلة الطفولة ومفاهيم التربية، بما لها من آثار
إيجابية (الآثار اللغوية ـ تنمية الحسّ الجمالي ـ حبّ الاطلاع ـ وتعزيز القيم...)،
وآثار سلبية في (الأخلاق ـ الهويّة ـ العقيدة ـ الفطرة ـ هدم القيم...).
بالتأكيد، أنت واحد من
ملايين العشاق لسلسلة الأفلام الكرتونية الكوميدية الشهيرة (توم وجيري)، تلك
السلسلة التي أضحكت الملايين، إن لم يكن المليارات في مختلف بقاع الأرض.
بدأ إنتاج تلك السلسلة في
بداية عام 1940م إلى سنة 1967م، في أمريكا، وفازت بسبع جوائز أوسكار كأفضل فيلم
رسوم متحركة قصير، لتصبح من أشهر البرامج الكرتونية، وهي من تأليف وإخراج وليام
هانا وجوزيف باربيرا.
يُظهر المسلسل الصراع بين
القطّ (توم ـ الحارس الشرعي للمنزل)، وبين الفأر (جيري ـ اللّص الدخيل)، ويتناول
موضوع الحلقات ـ في أغلبها ـ محاولة توم الإمساك بجيري، كوليمة له، لكن جيري ينجح
في الفرار في كل مرة، إما لسرعته وصغر حجمه، أو مراوغته وحيله الذكية في الفرار من
قبضة توم. وخلال ذلك، غالبًا ما يقع توم في مأزق ويصطدم أحيانًا بالكلب (سبايك ـ
حارس الحديقة)، أو يقوم بكسر أثاث المنزل وأدوات المطبخ، ليصطدم بصاحبة المنزل.
ويكمن سبب مُطاردة توم
لجيري، غالبًا، لمحاولة الأخير إفساد منزل سيدة القط، والتهام طعامها الذي تأتمن
عليه توم. ويقوم جيري، بمحاولات أخرى لاستفزاز توم، مثل إنقاذه للفرائس التي يحاول
توم أكلها، مثل البطة الصغيرة، والسمكة الذهبية، وعصفور الكناري، أو العمل على
الوقيعة بينه وبين الكلب، أو القط المتشرد بجوار صناديق القمامة... ورغم قيام توم
ببعض الحِيَل، أحيانًا، للإمساك بجيري، إلا أنّه نادرًا ما يستطيع الإمساك بجيري؛
لمهارة الأخير، أو لمكره وذكائه. وفي أحيان كثيرة، يكون الحظّ هو العامل الأساسي
في فرار جيري.
وتبدو العلاقة بينهما كعلاقة حبّ للمضايقة
والاستفزاز أكثر من الرغبة في التخلّص من الآخر، ومع ذلك، كما ترى، أحيانًا،
يجمعهما الاهتمام والعناية ببعضهما في بعض اللقطات، بل وأحيانًا أخرى، يتحدا معًا
ضد صاحبة المنزل للحصول على محتويات الثلاجة.
وما لا يعرفه البعض، أنّ آخر حلقة لتوم وجيري
تنتهي بإقدامهما على الانتحار. والمُفارقة، أنّ أفلام توم وجيري لم تتوقف عند هذا
الحدّ، بل تمّ إنتاج مجموعة أخرى في بداية عام 1990م باسم Tom& Jerry Kids Show، أو أبناء توم وجيري،
والتي يتوارث فيها الأبناء صراع الآباء.
وعلى مدار ساعات مشاهدتك، تجذبك الموسيقى التي
تلعب دورًا كبيرًا في الحلقات، من خلال إضفاء الإثارة والأحاسيس، وهي توليفة من
موسيقى الجاز، والبوب، والموسيقى الكلاسيكية. والتي عزّزت غياب الحوار بين توم
وجيري؛ إذ نادرًا ما يتكلمان، وعوضًا عن ذلك، يستخدمان الضحكات، وتسمع أصوات الفزع
المصنوعة بآلات موسيقية.
ويحتوي المسلسل على العديد من المشاهد
العنيفة؛ إذ استخدم توم وجيري في صراعهما العديد من الأسلحة، كالعصا، والسكاكين، والطلقات
النارية، والديناميت.. وبرغم شعبية المسلسل، إلا أنّه يُوصف بالعُنف المُفرط، لكن
المدافعين عنه يذكرون بأنّه لا توجد دماء أو طعنات في أي مشهد من المشاهد. ولم تجد
ـ مثلًا ـ الرقابة الفنية في بريطانيا غضاضة من كل تلك المشاهد، ولكنها طالبت، في
الآونة الأخيرة، بحذف مشاهد التدخين من تلك الأفلام، بحجّة ما ينتج عنها من ضرر
على الأطفال.
وكما رأينا، تقوم شخصية توم على أساس أنّه حاد
الطباع، ومُرفّه للغاية؛ أما جيري، فهو انتهازي، ويعتمد على ذاته، بالإضافة إلى
امتلاكه قوة كبيرة مُقارنةً بجسمه الصغير، ويملك ذكاءً حادًا، مما يعطيه ميزةً كبيرةً
على توم. وبرغم انتهاء معظم الحلقات بفوز جيري، إلا أنّه في حلقات أخرى تكون
النتيجة مُغايرة تمامًا ويفوز توم، وأحيانًا تكون النتيجة خسارة الاثنين معًا أو
تصالحهما.
أما الكلب سبايك، فيأتي في بعض الحلقات كارهًا
توم بسبب مطاردته لجيري، ونادرًا ما لعب دور الوسيط بينهما.
والآن، دعني أسألك: ألا تعتقد أن اسم توم
وجيري أصبح مرادفًا للمشاكل والمُلاحقات بين الأطفال مثلًا، فأصبحنا نُشبهّهما بالقطّ
والفأر؟، وهل تأثر أحد أفراد أسرتك بتلك المشاهد العنيفة، وحاول استخدام آلة حادة،
مثلًا، في شجاره مع قرينه؟، ألم تسأل نفسك، ومن قبل، ألم يسألك أطفالك: لماذا توم
وجيري لا يرتديان الملابس إلا أثناء ذهابهما للمصيف؟، وهل أخبروك عن حُبّهم
المُفرط لجيري (رغم كونه لّص) وبُغضهم لتوم (الحارس الشرعي) الشرير؟. وفي مشهد
الحساب الأخروي، طلب توم من جيري التوقيع على وثيقة المُسامحة، ولكن، مَن يطلب
السماح من الآخر: صاحب الأرض، أم اللّص؟، ومن جهة واقعية عربية: ألا تجد وجهًا
للشبه بين توم وجيري، وما يحدث من اليهود في فلسطين؟، ألم تُصوّر لنا كافة وسائل
الإعلام، في أغلب موادها، أنّ اليهود إنما يعتقلون الفلسطينيين، بل ويطلقون عليهم
الرصاص، نظير هجوم الأخيرين عليهم، ورشقهم بالحجارة؟، حتى اقتنع البعض بإمكانية التواجد
اليهودي مع الفلسطينيين في سلام، شريطة عدم اعتداء الأخير على الأول!
ومن منظور فلسفي، فقد عبّر الفيلسوف الألماني
فريدريك نيتشه (1844ـ 1900م)، في العديد من مؤلفاته، عن صراع القيم وقلبها على يد
اليهود؛ إذ رأى أن أخلاق السادة، النابعة من قوة الشخصية، كانت صاحبة السيادة
قديمًا، وبخاصةٍ عند الرومان. أما أخلاق العبيد، الضعفاء، فقد جاءت موجتها مِن
آسيا، ومِن اليهود بصفةٍ خاصة أثناء خضوعهم السياسي؛ لأنّ الخضوع يولّد الضّعة.
وقد رأى نيتشه أنّ الإنسانية قد بلغت آخر مراحل التدهور حينما مجّدت الرحمة
والتضحية، عن ضعف، والتي تمثّلت في قِيم المسيحية. وقد لخّص التاريخ بذلك، الصراع
بين قِيم السادة، وقِيم العبيد، والذي اتّضح مِن خلاله انقلاب القِيم، فأصبح الخير
شرًّا، والعكس بالعكس. وهذا هو جدل الصراع عند نيتشه: صراع ثنائيّ بين قِيم
مُتناقضة ورغبات مُتفاوتة.
ومن جهة واقعية عصرية، ألم تنقلب أغلب القيم
في حياتنا اليومية؟، أوـ لم يتحول الكذب إلى ذكاء؛ والطيبة إلى غباء وعبط؛ والعدل
إلى ضعف؛ والتواضع إلى ذلّة؛ والتكبّر إلى وجاهة؛ والوقاحة إلى شجاعة؛ والأدب إلى
سذاجة؛ والصدق إلى حماقة؟!
وختامًا نقول: لقد تمّ تصوير بعض الموضوعات،
في شتى مجالات الحياة، بأسلوب يُضفي على السلوك المُنحرف هالة من البطولة والذكاء
والشجاعة، أو تقديمه على أنّه ضحية ـ كما تمّ في توم وجيري ـ مما عمل على تغيير
الاتجاهات، ومن ثمّ القيم، نحو هذا السلوك. وعليه، نقترح ضرورة تشجيع صناعة
الكرتون العربية؛ وتوسيع دائرة إعلام الطفل؛ وترشيد أوقات بثّ برامج الأطفال؛ إلى
جانب إحداث مراكز دراسات تنمية الطفل..
0 تعليقات