الحركة السفسطائية بين قوة الخطاب وآليات التضليل؛ مساهمة ابستمولوجيا في الخطاب الفلسفي - أمسكور محمد

فيلوكلوب ديسمبر 26, 2019 ديسمبر 26, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A



أمسكور محمد، طالب باحث في سلك الماستر/ أستاذ متدرب مادة الفلسفة جهة سوس ماسة

 تقديم :
 يستهدف هذا المقال التعرض لأهم لحظة أساسية في تاريخ الفكر اليوناني متمثلة في لحظة الفكر السفسطائي كحركة فلسفية قوية الحضور والتأثير في الخطاب الفلسفي. مثلت الحركة السفسطائية مرحلة أساسية أسهمت في بروز فن الخطابة كبداية لتشكيل اسسه النظرية والميتودمعرفية. الا أن ما تعرضت له هذه الحركة خصوصا مع افلاطون، الذي حاول جاهدا تشويه صورتها وتقديم صورة سلبية عن السفسطائيين جعل الباحثين -باستثناء القليل منهم- يذهبون الى اضفاء الحجية الواقعية والفلسفية على ما جاء به الخطاب الافلاطوني الذي عمل على تقزيم والتنقيص من قيمة الخطاب الفلسفي السفسطائي بالرغم من أهميته وقيمته الفلسفية، وتم بذلك تقديمه كخطاب متناقض البنية. ما أقبر واختزل الفلسفة السفسطائية في جلباب أنبياء المعرفة وجعل العديد من الباحثين يقدمونها على أنها حركة تهدف بقوة خطابها الى التلاعب بالألفاظ وممارسة الاغواء الذهني والايقاع بالخصم وتضليله، بناء على آليات حجاجية ذات ابعاد بلاغية. الى حد اننا نجد التلازم الايديولوجي للفلسفة السفسطائية الى صلب الحياة اليومية متجسدا في الخطابات التداولية للافراد، لترتبط بكل ما له صلة وصل بمنطق التلاعب بالخطاب والخداع. ولكل هذه الاعتبارات وغيرها كثير، كان من الضرورة المعرفية والمنهجية، اعتماد مقاربة ابستمولوجية للكشف عن مدى مساهمة الخطاب السفسطائي تاريخيا في ظهور الفلسفة وآلياتها الحجاجية، ودوره الرائد كمحطة تاريخية في تاريخ الفكر اليوناني والفلسفة عموما.

 المحور الأول: جينالوجيا الخطاب والفكر السفيسطائي

 يعود سبب تسمية الحركة السفسطائية الى كلمة "سفسطس" التي تشير في عمقها الدلالي الى المعلم - معلم البيان-. وقد عملت هذه الحركة على تعليم الناس المبادئ التي يؤمنون بها، وتمرينهم على أسلوب الخطابة والمجادلات الكلامية، ما جعل العديد من الفلسفات تنظر اليهم كمغالطين بحكم نزعتهم الشكية التي امتدت حتى الى التشكيك في المعرفة والقول بنسبيتها. ومن اهم هذه الفلسفات نجد الفلسفة السقراطية التي نظرت الى الخطاب السفسطائي نظرة تقصيرية وتم وصفه على بأنه مخالف للقيم السائدة ويعمل على تمزيقها على اعتبار أن فلسفتهم وتعاليمهم مخالفة للفضيلة. ومن جهة أخرى متناقضة مع ما ذهبت اليه الخطابات الفلسفية التي جعلت من السفسطائية حركة تضليلية، نجد أن الخطاب السفسطائي وفلسفة السفسطائيين عموما كانت أكثر اجرائية وواقعية، وقد عمل السفسطائيون على نقل الفلسفة من مستواها المجرد والمرور بها الى بعد أكثر عملي، وتخليصها من التشويه النظري الذي طبعها. ما يزكي القول بأننا في عصرنا الحالي بأننا في حاجة الى فلسفة أكثر عملية تساير الواقع وتطرح قضاياه محل تأمل واندهاش، بدل الابقاء على مواضيع وإن بدت ذات اهمية الا أن الواقع اليوم يفرض ملائمة الدرس الفلسفي للواقع واستحضار مفاهيم بحكم حضورها القوي في حياة الافراد والجماعات أصبحت تفرض ذاتها وتدافع عن حضورها في المتن الفلسفي. ومن منطلق تأصيلي ذهب الخطاب السفسطائي الى إيلاء أهمية بالغة للإنسان في تجاوز تام للخطاب المادي وتشكيل بنيات خطاب فلسفي جديد تمحور حول الانسان، بناء على قوة الحجة بدل حجة القوة في عملية الاقناع والمحاججة.
كما عمل السفسطائيون على جعل العلم والمعرفة حرفة واستثمارها في تعليم وتعلم فن الحياة وضبطها. انطلاقا من الاجزاء وصولا الى نظريات ما جعل خطاباتهم ملتزمة منهجيا. وبالعودة الى أهم رواد الفلسفة السفسطائية نجد بروتاغورس القائل بأن المعرفة نسبية وفي هذا انتصارا لمبادئ المعرفة العلمية التي شدد عليها - نسبية المعرفة- كارل بوبر في حديثه عن العلمية، عندما اشترط النسبية كأساس للمصادقة على المعرفة -القابلية للتكذيب والتزييف - من عدمها، وقد سبقه بروتاغورس الى ذلك بحيث أن اهم المبادئ التي أقيمت عليها الحركة السفسطائية قولها بأن الإنسان مقياس كل شيء. وفي حديثه أيضا عن القيم اشار بروتاغوراس الى أنها -القيم- ذاتية وأنها تختص بفرد ولا تنسحب على الجميع. ونجد نفس الطرح ذهب اليه بيير بورديو في حديثه عن مسألة القيم واعتبر بأن القيم قائمة مع القائمين بها.
كان السبق للسفسطائيين في إثارة الانتباه بمسألة الانسان حيث تم جعله محط اهتمام والتخلص من التفكير المادي الذي كان سائدا مع الفلسفة الكونية، حيث حاول رواد الحركة مساءلة الانسان وجعله موضوعا للتفكير الفلسفي والتأمل.

المحور الثاني: موقف ابستمولوجي من الخطاب المعرفي اليوناني الإغريقي


 مثلت الفلسفة السفسطائية مرحلة أساسية كبداية تأسيس للتفكير الابستمولوجي وتأسيس موقف ابستيمي من المعرفة، تم العمل على نقدها والوقوف عند مشروعياتها وضوابطها وحدودها وآليات انتاجها. بحيث أن الوجود في تغير مستمر في ظل غياب لأي مبدأ للاستقرار والثبات. ما يجعل من التصور المعرفي لجورجياس - أحد رواد الحركة- حول العلوم الأيونية التي اتجهت صوب الطبيعة تصورا شكيا. على اعتبار أن هذه النزعة الشكية تستوطن مستويين؛ مستوى أولي يتجه نحو معرفة العالم، ومستوى ثاني يتمحور حول وحدة المعرفة. وبالرغم من الانتقادات التي وجهت للحركة السوفسطائية إلا أنه لا يمكن القفز عن اسهامات روادها المعرفية والمنهجية في مجال الفلسفة والتي اتصفت بالالتزام المنهجي والصرامة الحجاجية. بحيث يتحدد مستواها المنهجي في انصراف المدرسة السفسطائية الى معالجة أحد الاشكالات المنهجية التي لا زالت موضوع نقاش في عالمنا المعاصر؛ والتي تمثلت أساسا في ثنائية الذات العارفة والعالم المحسوس. ارتسمت معالم التفكر السفسطائي خصوصا في مسألة التغيير والنسبية، ما جعل هذا الفكر - السفسطائي- ممهدا لمباحث منطقية ذات الصلة. بالاستدلالات المنطقية والتصورات؛ مثل مبحث المغالطات والجدل المموه الذي تفطن اليه ارسطو في ما بعد. شكلت السفسطائية مرحلة فاصلة في تاريخ الفلسفة والفكر اليوناني كسابقة في نظرية المعرفة الاغريقية. وقد شقت طريقها نحو البحث في الانسان وتمحورت أغلب اسئلة روادها عن المعرفة- ماذا نعرف ؟ وما هو مقياس المعرفة ؟
خلاصة:
شكل الخطاب السفسطائي بقوة حجاجه اسهاما بارزا وإرثا معرفيا في تاريخ الفلسفة، إذ بدونه لم يكن من الممكن لسقراط أن يجادلهم بناء على منهجه الخاص. وما كان للفلسفة اليونانية أن تزدهر أيضا. الا أنه وبالرغم مما تعرض له السفسطائيين فلا يمكن أن ننكر الحضور القوي لخطابهم الفلسفي في تاريخ الفلسفة والمعرفة عموما. رغم أنه تم اقبار فلسفتهم وعدم الأخذ بها في بناء الدرس الفلسفي ولم يتم تصنيفها كحجة بالسلطة. وتم اختزال اسهاماتهم في خطابات ارثدوكسية/سلفية. ينظر إليها كمغالطات ومجرد جدل، دون التماس النقد والتسلح بما يكفي من اليقظة المنهجية والحذر الابستمولوجي من المساهمات التي قدمتها - كما يحلو لها- كحركة سلبية في تاريخ الفكر اليوناني الفلسفي، وإن بدت تلك الخطابات قطعية وغير ناجحة، يتم التسليم بها نظرا لهوية من قدمها -الحركة السفسطائية- في صورة مشوهة، ما يطرح سؤال الى أي حد يمكن أن نطمئن لهذا الطرح الفلسفي التأريخي؟ ويبقى في اعتقادنا الخاص أن السفسطائيين كحركة فلسفية عملت على الكشف بقوة نصها وخطاباتها وحجاجها الخاصة على مصادر المعرفة ونقدها وتقديم بدائل عنها وكذا آليات انتاجها واعادة انتاجها. هذا دون الحديث عن دورها في تجريد الفلسفة من عباءتها النظرية وألبستها عباءة الواقع العملي؛ أي تجريدها من بعدها النظري الصرف ونقلها الى مواجهة الواقع، وذلك ما تجسد في تعاليمهم حيث سخروا الفكر الفلسفي لخدمة الإنسانية ومواجهة الواقع. ما يجعل العودة الى القول بأننا اليوم في حاجة الى حركة سوسيوسفسطائية أمرا قوي الحجة ليس فقط من باب قوة خطابها ومزلتها المعرفية والمنهجية، وإنما العودة الى الآليات والكيفية التي جعلوا بها خطابهم يتلاءم مع الواقع.
وهذا ما ينقص الخطاب الفلسفي اليوم الذي لازال وفيا للارث النظري التوليتاري دون عميق الرؤية والبحث في امكانية ادراج مفاهيم وقضايا جديدة أصبحت مستعصية على الفهم والتي أصبح المجتمع يعيشها ليس فقط المحلي وإنما الدولي.
 اللائحة البيبليوغرافية:
 المجيدل عبدالله شميت، (2015)،
تطور الفكر الفلسفي من الفلسفة اليونانية الى المعاصرة، دمشق، دار الاعصار العلمي للتوزيع والنشر. توفيق محمد زكرياء،(2009)،
السفسطائيون وسقراط، الحوار المتمدن.  

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/