درس النظرية والتجربة - إشكالية العقلانية العلمية/ معايير علمية النظرية العلمية - ذ. جواد الشوني

فيلوكلوب ديسمبر 29, 2019 ديسمبر 29, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال:
-A A +A

درس النظرية والتجربة

إشكالية العقلانية العلمية/ معايير علمية النظرية العلمية

جواد الشوني/ أستاذ مادة الفلسفة ثانوية يوسف بن تاشفين امسمير، تنغير، المغرب


عادة ما يتم التمييز بين العقلانية الكلاسيكية والعقلانية المعاصرة على أساس أن هذه الأخيرة هي نتاج التحولات العميقة والجذرية التي عرفتها العلوم المعاصرة منذ اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (الهندسات اللاأقليدية والنظرية النسبية ونظرية الكوانطا في الفزياء الذرية). فبماذا تميزت العقلانية المعاصرة عن العقلانية الكلاسيكية؟ وما هو أثر التطور الذي عرفته العلوم على مستوى تصورنا للواقع العلمي ولمفهوم الحقيقة وللعقل ومبادئه الأساسية؟

العقلانية الكلاسيكية

        لقد تبلور التصور المعاصر للعقل على أنقاض الفلسفات العقلانية بمختلف أطيافها؛ حتى تلك التي اعتبرت نقدية مثل فلسفة كانط، ويكمن خطأ تلك الفلسفات في نظر بشلار* في نظرتها السكونية للعقل، إذ تصورته مزودا بمبادئ قبلية وثابته لا تعرف التغير، أي اعتبرته جوهرا وليس مجرد فاعلية دينامية ومتجددة، ويعزز جون المو* ما ذهب إليه بشلار قائلا " بين عقلانيتي ديكارت وكانط شيئا مشتركا هو الاعتقاد في وجود مضمون للعقل، يتمثل في البداهات والطبائع البسيطة عند ديكارت، ومقولات الفهم والأطر القبلية للحدس لدى كانط[1]".
       تقوم العقلانية الكلاسيكية على:
       العقلانية الدوغمائية: القائلة بأن العقل قادر وحده وبشكل مستقل عن التجربة على اكتشاف الروابط الضرورية الثابتة التي تكمن خلف الواقع كله، أي معتمدا في ذلك على ما يحتوي عليه من مبادئ ومفاهيم فطرية.
الفلسفة التجريبية: التي اعتبرت بأن كل ما يحتويه عليه العقل من أفكار يجد أساسه في ما تمدنا به التجربة الحسية من معطيات وبذلك نظرت إلى العقل وكأنه متلق سلبي للمعطيات الحسية.
       ويكمن نقد كانط في اعتباره أن العقلانية الدوغمائية والتي يعتبر ديكارت رائدا لها في أنه لا وجود لأي معرفة ممكنة بالعالم متحررة من التجربة. هذا لا يعني أن كانط ينتصر للتجربة بل إن نقده للموقف التجريبي لا يقل قوة للموقف العقلاني، بحيث أن الإحساس الصرف لا يمكن أن يكون أساسا لفهم أي شيء ويلخص كانط نقده المزدوج في عبارة موجزة كالتالي:
"إن المفاهيم بدون حدوس حسية تبقى فارغة، والحدوس الحسية بدون مفاهيم تظل عمياء[2]".
       قامت العقلانية المعاصرة كما أشرنا سابقا على العقلانية الكلاسيكية بمختلف أطيافها، إذن ما طبيعة العقلانية في العلم المعاصر؟ وما علاقة التجربة بالعقل في تكوين المعرفة العلمية؟ وهل العقل في العلم وحده يكتفي بذاته أم أنه عقل مطبق ينهل من معطيات الواقع ومعطيات التجربة؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن معايير علمية النظرية العلمية؟ وهل معيار النظرية يأخذ طابعه من العقل أم التجربة أم القابلية للإبطال؟

العقلانية المعاصرة

        إن أول ما يجب أن ننتبه إليه هو أن العقل المعاصر عقل منفتح عكس العقل في العقلانية الكلاسيكية الذي يتميز بالثبات والسكون كما يقول جون بيير فرنان*، بحيث يسمح بتغيير منطلقاته وقواعده تبعا للمشكلات التي تواجهه، لكن يبقى واثقا من قدرته على إنشاء منظومات من شأنها أن توحد ظواهر مختلفة. أي أن العقلانية المعاصرة ترفض فكرة وجود عقل مكتمل التكوين وكامل البناء وتعتبر العقل طاقة متجددة ونشاطا لا ينقطع بتطور المعارف. غير أن أن النقاش بين العقل والتجربة لا زال حاضرا، فها هو اينشتاين* ينتقد ويساءل في كتاب” la méthode expérimentale et la philosophie de la physique " الاتجاه الاختباري قائلا " إذا كانت التجربة تمثل منطلق ونهاية معارفنا حول الواقع، فأي دور يتبقى في العلم؟" ويجيب اينشتاين بالقول بأن العقل يمنح النسق الفزيائي بنيته، أما معطيات التجربة وعلاقتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية، هذا القول يوضح أن التجربة يمكن أن ترشدنا في اختيار المفاهيم، على هذا الأساس تصبح النظرية ابداعات حرة للعقل البشري، وهكذا عارض اينشتاين النزعة التجريبية مساهما في بناء عقلانية معاصرة مؤكدا على مطابقة الواقع للنظرية، وبالتالي فمعيار علمية النظرية يتمثل في اتساقها المنطقي وتماسكها الداخلي.
       غير أن رايشنباخ* يرفض أن تقود العقلانية بشتى أنواعها وأشكالها إلى معرفة صحيحة ومعقولة، لأن هذه المذاهب تستند على مصدر العقل كقوة يكتشف بها القوانين العامة للعالم الفزيائي، والحال أم المعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج علمية معقولة تقتضي استخدام العقل مطبقا على الملاحظة، وذا معناه أن الملاحظة التجريبية هي المعيار الوحيد للحقيقة العلمية وعلمية النظرية، وفي نفس السياق يذهب بيير دوهييم* عندما قال في كتابه"النظرية الفزيائية موضوعها وبنيتها" "إن الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفزيائية المعيار الوحيد للحقيقة".
       من خلال ما قلناه سلفا يتبين أن العقلانية العلمية عرفت تحولا جذريا بين عقلانية كلاسيكية منغلقة على نفسها وعقلانية معاصرة منفتحة على مستجدات العلم، ورأينا أيضا أن معيار علمية النظرية يرتبط بالعقل كما رأينا مع اينشتاين؛ أي بالاتساق الداخلي للنظرية، وأيضا يرتبط بالتجربة كما يؤكد على ذلك رايشنباخ وبيير دوهييم، لكن ألا يمكن أن نجد معايير أخرى نحكم بها على علمية النظرية؟
       لعل هذا السؤال هو ما يجيب عنه "كارل بوبر*" في" كتابه منطق الإكتشاف العلمي" عندما تحدث على معيار القابلية للإبطال، بمعنى أن العلماء ينبغي عليهم أثناء اختبار نظرياتهم البحث عما يفندها ويجعلها من ثمة مزيفة، لا عما يؤكدها ويعتبرها يقينية، فالنظرية الجيدة هي تلك التي تحتمل التكذيب والإبطال، أما التي تقدم نفسها كحقيقة مطلقة فهي ليست جديرة بأن تدرج في نطاق العلم فمهما بلغت درجة وقوة ومتانة نظرية ما، فإنه لا بد وأن ينكشف زيفها ذات يوم، فالعلم أساسه التقدم والتجاوز.
       إن حديثنا عن العقلانية العلمية ومعايير علمية النظرية العلمية، جرنا إلى إشكالية العقل والتجربة، لكن ألا يستقيم النقاش إلا بإحضار طرفي النقيض؟ ألا يمكن الحديث عن العقل والتجربة معا؟
       لعل هذا هو ما حاول بشلار أن ينبهنا إليه وهو أن العقلانية العلمية لا تستقيم إلا بالحوار بين العقل والتجربة، فالتجربة في حاجة إلى الفهم والعقل في حاجة إلى التطبيق، فالتجربة بدون قوانين واضحة ومنسجمة لا يمكن أن تشكل موضوع تفكير علمي، والعقل إذا لم يستند إلى حجج ملموسة وتطبيقات في الواقع المباشر لا يمكن أن يقنع نهائيا.

المصادر والمراجع

1-                فلسفة العلم من العقلانية إلى اللاعقلانية، الدكتور كريم موسى؛
2-                العقلانية المعاصرة، سالم يفوت؛
3-                دروس مفصلة في الفلسفة السنة الثانية باكالوريا، بلعيد سكحال؛
4-                دروس الأستاذ "جمال فزة"، مجزوءة المعرفة؛
5-                الكتاب المدرسي منار الفلسفة؛
6-                الكتاب المدرسي مباهج الفلسفة.

الإحالات والهوامش



[1]  الكتاب المدرسي، منار الفلسفة، السنة الثانية من سلك الباكالوريا، مسالك:...العلوم التجريبية والرياضية...، ص 54.
* غاستون باشلار (18841962) واحداً من أهم الفلاسفة الفرنسيين. فقد كرّس جزءاً كبيراً من حياته وعمله لفلسفة العلوم ، وقدّمَ أفكاراً متميزة في مجال الابستمولوجيا.
* جون المو (1905-1971) عالم فزيائي وابستمولوجي فرنسي.
[2]  دروس مفصلة في الفلسفة" السنة الثانية باكالوريا" سعيد بلسكحال. ص 107.
* جون بيير فرنان (4 يناير 1914 - 9 يناير 2007) هو فيلسوف، ومفكر فرنسي معاصر يعود له الفضل في تجديد الدراسة حول اليونان القديمة، بفضل المنهج المقارن والأنتروبولوجيا التاريخية.
*  البيرت أينْشتاين1879 - 1955     عالم فيزياء ألماني المولد،[حيث تخلى عن الجنسية الألمانية لاحقا سويسري وأمريكي الجنسية، من أبوين يهوديين،[ وهو يشتهر بأب النسبية كونه واضع النسبية الخاصة والنسبية العامة الشهيرتين اللتين كانتا اللبنة الأولى للفيزياء النظرية الحديثة، ولقد حاز في عام 1921 على جائزة نوبل في الفيزياء عن ورقة بحثية عن التأثير الكهروضوئي، ضمن ثلاثمائة ورقة علمية أخرى له في تكافؤ المادة والطاقة وميكانيكا الكم وغيرها، وأدت استنتاجاته المبرهنة إلى تفسير العديد من الظواهر العلمية التي فشلت الفيزياء الكلاسيكية في إثباتها. بدأ أينشتاين "بالنسبية الخاصة" التي خالفت نظرية نيوتن في الزمان والمكان لتحل بشكل خاص مشاكل النظرية القديمة فيما يتعلق بالأمواج الكهرومغناطيسية عامة، والضوء خاصة، وذلك ما بين (1902 - 1909) في سويسرا أما "النسبية العامة" فقد طرحها عام 1915 حيث ناقش فيها الجاذبية، وتُمثل الوصف الحالي للجاذبية في الفيزياء الحديثة. تعمم النسبية العامة كل من النسبية الخاصة وقانون الجذب العام لنيوتن، بتقديمها لوصف موحد للجاذبية على أنها خاصية هندسية للزمان والمكان، أو الزمكان.
* هانز رايشنباخ 1891 - 1953 هو فيلسوف وفيزيائي وعالم منطق ألماني، ارتبط اسمه بالوضعية المنطقية، وكان على وفاق مع جماعة ڤيينا، ولو أنه يتحدث عن نفسه كتجريبي منطقي، فهو أحد أعضاء "الجمعية البرلينية للفلسفة التجريبية".
* بيير دوهيم (Pierre Duhem) هو عالم فرنسي عاش ما بين 1861-1916.، يعد بيير دوهيم فيلسوفاً اختص في مجال فلسفة العلوم، إذ أنه أيضاً فيزيائي ورياضياتي ومؤرخ للعلوم.
* كارل پوپر 1902 - 1994    فيلسوف نمساوي-إنكليزي متخصص في فلسفة العلوم. عمل مدرسا في كلية لندن للاقتصاد. يعتبر كارل پوپرأحد أهم وأغزر المؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين كما كتب بشكل موسع عن الفلسفة الاجتماعية والسياسية.

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/