المجزوءة الأولى : مجزوءة الوضع البشري
المفهوم: مفهوم التاريخ
المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم
التأطير
الإشكالي
هل تقدم الإنسانية يسير وفق خط متصل
تصاعدي؟ هل كل لاحق هو بالضرورة أكثر تقدما من السابق، ألا يمكن أن تكون فترة
تاريخية سابقة أكثر تقدما على فترة تاريخية متقدمة عليها؟ هل التقدم هو وجهة وغاية
السيرورة التاريخية؟ وهل للتاريخ وجهة وغاية أصلا؟ هل ما يحكم سيرورة الأحداث
وتتابعها هو منطق الضرورة أم أنه منطق الصدفة؟
التاريخ يسير نحو تحقيق غايته:
هذا الموقف يمثله مجموعة من الفلاسفة
من بينهم هيجل وماركس:
ينظر فريدريك
هيجل (1770-1831م) وهو فيلسوف ألماني حداثي، ينظر إلى التاريخ على
أنه يسير وفق خط تصاعدي نحو تحقيق غايته –أي غاية التاريخ-. هذا الخط التصاعدي
يسير بشكل جدلي، ننتقل فيه من القضية، إلى نقيض القضية، ثم إلى التركيب، أي أن
التاريخ يسير عبر الإنتقال من مرحلة تاريخية
أدنى وأقل تقدما (القضية) إلى مرحلة متقدمة تتضمن المرحلة السابقة (النقيض)
ثم إلى مرحلة أخرى تتضمن كلتا المرحلتين وتكون أكثر تقدما منهما (التركيب)،
والتاريخ حسب هيجل ليس سوى تجسيدا وتجل للروح المطلق، أي تحقيقا تدريجيا للكمال
والحرية.
وإذا كان هيجل، ينظر إلى التاريخ على
أنه تجل لقوى الروح المطلق الذي يحكم التاريخ، فإن الفيلسوف الألماني الآخر كارل ماركس (1818-1882)، يعتبر هيجل فيلسوفا ميثاليا، وينتقده في ذلك، ويرى ماركس
أن ما يحكم التاريخ ليس ما هو عقلي ميثالي، وإنما ما هو مادي. ورغم ذلك فماركس
يتفق مع هيجل في كون التاريخ يسير نحو تحقيق غاية معينة، وهي تحقيق الرفاهية
والمساواة للناس دون استثناء. لكن التاريخ يمر عبر مراحل ليصل إلى تلك المرحلة:
المرحلة الأولى المرحلة المشاعية أو نمط الإنتاج المشاعي، والتي كان فيها
الإنسان يعتمد على جهده، وكان يصارع الطبيعة. المرحلة العبودية، أو نمط
الإنتاج العبودي، هذه المرحلة تميزت باستعباد الناس لبعضهم، وهو ما حتم الإنتقال
إلى المرحلة الأخرى، المرحلة الإقطاعية، أو نمط الإنتاج الإقطاعي، هذه
المرحلة تميزت باستغلال الإقطاعيين للأقنان، وهو ما حتم كذلك المرور إلى مرحلة
أخرى. المرحلة الرأسمالية أو نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي تميز باستغلال الرأسماليين
للطبقة البروليتارية (الطبقة العاملة)، ويرى ماركس أن الطبقة العاملة ستقوم بثورة
ضد الرأسماليين لتحقيق المجتمع الإشتراكي (وهي المرحلة الإشتراكية أو نمط
الإنتاج الإشتراكي) الذي يتميز بالعدالة والرفاهية والمساواة، ولكنها ليست المرحلة
الأخيرة، فهناك مرحلة أخرى تنبأ بها ماركس وهي المرحلة الشيوعية، التي
ستنتفي فيها الدولة، لأنه لن تبقى غاية لوجودها.
بهذا يكون التصور الهيجلي و الماركسي
معتقدا في كون التاريخ له سيرورة وغاية وخاضعا للضرورة، وأن كل مرحلة لاحقة هي
أكثر تقدما من المرحلة السابقة، وأن التاريخ سينتهي بانتهاء غايته، وهي تحقيق
المجتمع الشيوعي.
التاريخ لا يخضع للضرورة والحتمية
بعد الأحداث الدامية التي التي عرفها
النصف الثاني من القرن العشرين، والمتمثلة الحربين العالميتين الأولى والثانية،
وما خلفتاه من خراب ودمار جعل العديد من المفكرين يشككون في فكرة التقدم المضطرد
وضرورته في التاريخ.
من بين هؤلاء نجد ريمون آرون، الذي يذهب إلى أن التقدم ليس إلا حكم قيمة، هدفه
الأساسي هو تمجيد حاضر أمة من الأمم، وجعله نموذجا يتوجب على باقي الأمم الإقتداء
به، وتبعا لذلك فهو ليس بمفهوم علمي. يقول آرون : "إن التقدم يتضمن أحكاما
تقديرية، أي إثبات تفوق المجتمعات الحالية على المجتمعات القديمة، لذا لا يجب
مبدئيا أن تصدر المعرفة العلمية حكما قيميا، وبالنتيجة تنتفي فكرة التقدم
تلقائيا".
في طرح مشابه لطرح ريمون آرون، يتقدم
الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس في كتابه العرق والتاريخ بأطروحة مفادها أنه إذا كانت
الإنسانية قد حققت منذ مراحلها الأولى أنواعا من التقدم كانت واضحة وباهرة، فإن
هذا لا يعني أننا سنكون قادرين على ترتيب هذه الأنواع من التقدم، وفق تسلسل منظم
ومتصل، يقول ستراوس: "إنه وقبل خمسين سنة، كان العلماء يستعملون خطاطات ذات
بساطة جذابة لتمثيل أنواع التقدم، مثل عصر نحت الحجر وعصر صقل الحجر وعصر
النحاس... ونظن اليوم أن عصر نحت الحجر وعصر صقله تزامنا، أحيانا، جنبا إلى جنب،
فحين تفوقت التقنية الثانية على الأولى وحجبتها نهائيا، فإن الأمر لم يكن نتيجة
تصور تقني تلقائي انبثق عن المرحلة السابقة".
إذن فهم سيرورة التاريخ البشري، لا يتم
في نظر ستراوس بشكل خطي تصاعدي أي كسلم، وإنما كبنية لها منطقها الخاص الذي ينظم
العلاقة بين عناصرها، إذن فالقول بالتطور والتقدم من شأنه أن يخلق نوعا من التفاضل
على مستوى لحظات التاريخ.
0 تعليقات