المجزوءة: مجزوءة الفلسفة
المحور الثاني: محطات من تاريخ الفلسفة
ثالثا: الفلسفة المعاصرة
إعداد: الأستاذ مراد الكديوى
المحاور:
تقديم
الشروط
التاريخية لانبثاق الفلسفة المعاصرة
1 - استقلال العلوم عن الفلسفة
2 - تعقد مفهوم الواقع
3 - الحربين العالميتين الأولى والثانية وأزمة
القيم والمصير الإنساني
4 - الثورة التقنية وإشكال تطبيقات العلم
في طبيعة
العلاقة بين الفلسفة والعلم
1 - علاقة الفلسفة بالعلم علاقة انفصال
2 - علاقة الفلسفة بالعلم علاقة اتصال
3 - علاقة الفلسفة بالعلم علاقة استغلال
مدخل عام
" إن السؤال: ما العلم؟ ليس له جواب علمي " " ادغار موران"
تظهر الفلسفة المعاصرة كتفكير في الإنسان و العلم. فهي
تفكير في الإنسان و قضاياه عبر الإستشكال حول مصيره و قيمه خصوصا في ظل تطور
التقنية وما تمارسه من استيلاب و استعباد للإنسان. وهي من ناحية أخرى تفكير في
العلم عبر التساؤل النقدي حول مبادئه و فروضه و نتائجه بموجب استقلال العلوم عن
الفلسفة. فطرحت في هذا السياق طبيعة العلاقة بين الفلسفة و العلم. الإستشكال حول
هذه العلاقة جعل أوجهها متعددة بين الإتصال و الإنفصال وبين الإستغلال و التوجيه.
وقبل الخوض في طبيعة العلاقة بين الفلسفة و العلم. فإنه
يتحتم علينا الوقوف عند الشروط الشروط الأساسية التي أدت إلى انبثاق شيء اسمه
الفلسفة المعاصرة و الذي يتخذ من الإنسان و العلم موضوعا له. وعليه فلا يمكننا
الحديث عن الفلسفة المعاصرة بدون الشروط التالية:
1 - استقلال العلوم عن الفلسفة
كانت الفلسفة في الماضي القريب أم العلوم غير أن هذه
الأخيرة صارت وحيدة بعد أن فقدت أبناءها، بسبب استقلال العلوم عنها. الشيء الذي
جعل الفلسفة في مواجهة سؤال جوهري هو: ماذا تبقى للفلسفة بعد استقلال العلوم عنها؟
يبدو أن الفلسفة بعد رشد أطفالها (العلوم) قد أشرفت على
النهاية و الموت. لكن هيهات أن تموت الفلسفة بوجود كائن استفهامي كالإنسان. إن
الفلسفة لا تنفك أن تطارد أبناءها في بيوتها الجديدة، لكن هذه المرة بالنقد و
التساؤل ضمن ما يسمى بالإبستيمولوجيا. لكن كيف يكون استقلال العلوم تمهيدا للفلسفة
المعاصرة؟
إنه كذلك ما دام يدور حول العلم. هذا الأخير الذي يشكل
الحلقة الإرتكازية لبحث الفلسفة المعاصرة. فاستقلال العلوم زوّد الفلسفة بموضوع
جديد يقوم على الدراسة النقدية لمبادئ العلم و فروضه و نتائجه، و التساؤل القيمي
حول العلم. و بذلك يكون تأسيسا للفلسفة المعاصرة عبر مفهوم الإيبستيمولوجيا.
2 - تعقد مفهوم الواقع
في الفيزياء المعاصرة فبعدما كان الواقع بسيطا ذو طبيعة
مادية يمكن ملاحظته، وتحصيل معرفة يقينية حوله. أصبح هذا الواقع موسوما بالشك و
الإلتباس و التعقيد. نتيجة الطبيعة الإفتراضية التخمينية التي تقوم على تدخل ذات
الباحث. خلاصة القول أنه لم يبقى لنا من معرفة الأمور الأكثر يقينية التي كنا نعتقد فيها إلا الإفتراض و
النسبية. لم تعد هناك حقيقة مطلقة فكل شيء موشوم بالنسبية.
إن
مفاهيم من قبيل الإفتراض و النسبية في تصورنا للحقيقة يشكل مسلمة من مسلمات
الفلسفة المعاصرة التي ظهرت كشك و هده لليقينيات في مختلف موضوعات التفكير سواء
منها الأخلاقية أو السياسية أو العلمية...و بذلك يكون تعقد مفهوم الواقع المدخل
لفهم الفلسفة المعاصرة.
3 - الحربين العالميتين الأولى والثانية وأزمة القيم والمصير الإنساني
غالبا
ما كان الإنسان يتفاخر بكونه كائن عاقل يتميز عن باقي الأنواع الحيوانية التي
تشاركه في الجنس. غير أن الحرب كشفت عن الطابع الحيواني فيه، فهذا الكائن العاقل
أصبح يهدد وجوده ( مثال القنبلة النووية) مما أنذر بأنه يعاني أزمة على مستوى
القيم ينبغي البث فيها ومن تم تأمل المصير الإنساني و تناهيه. لكن كيف أسس هذا
الشرط للفلسفة المعاصرة؟
إن هدم التعالي الإنساني الذي قعد له التحليل النفسي حين
كشف أن الإنسان محكوم برغباته الحيوانية المكبوتة نزع عن الإنسان قداسته حيث أصبح
مثله مثل أي موضوع في الطبيعة يمكن دراسته. و بذلك ظهرت الفلسفة المعاصرة كمساءلة
قيمية للإنسان و إستشكال حول مصيره بين الحتمية التي تضعه بالتساوي مع موضوعات
الطبيعة الفارغة من الوعي و بين الحرية التي تجعله متفردا و بالتالي يسعى إلى
استعادة ذلك التعالي المفقود.
4 - الثورة التقنية وإشكال تطبيقات العلم
إن المتأمل للإنسان المعاصر يلاحظ تلك العلاقة الحميمية التي يقيمها
الإنسان مع التقنية. هذه الأخيرة التي انحرفت عن غايتها من مساعدة الإنسان إلى
السيطرة عليه، و استعباده، و سلب حريته، و نزع طابع الإنسانية عنه. التقنية بهذا
المعنى تشكل ماهية الإنسان. لم تكتفي التقنية بكل هذا بل أصبحت تهدد وجوده من خلال
تطبيقات العلم كالإستنساخ، التعديل الجيني، أطفال الأنابيب...التي تكشف عن إمكانية
الإستغناء عن الإنسان ما دامت التقنية تتناسل و تتطور.
يشكل هذا
الشرط مدخلا جوهريا لفهم الفلسفة المعاصرة التي سعت جاهدة لتحليل علاقة الإنسان
بالتقنية و تحريره منها أو تخليقها على الأقل. و لنا في المدرسة النقدية ( مدرسة
فرانكفورت) الدليل على وثاقة الصلة بين هذا الشرط و الفلسفة المعاصرة.
الآن و
بعد تحديدنا للشروط النظرية التأسيسية للفلسفة المعاصرة. فلننظر إذن في طبيعة
العلاقة بين الفلسفة و العلم. فما هي طبيعة العلاقة بين الفلسفة و العلم؟
في طبيعة العلاقة بين الفلسفة والعلم
إن النظر في طبيعة
العلاقة بين الفلسفة و العلم يمكن أن ينحل إلى ثلاث علاقات أساسية لا نستطيع
إنكارها و هي على الشكل التالي:
1 - علاقة الفلسفة بالعلم علاقة انفصال
تتمظهر هذه العلاقة عبر اختلاف هوية و مجال العلم عن
الفلسفة. فإذا كان العلم يهتم بالجواب و الحل، و محدد بموضوع ثابت يرتكز في بحثه
له على الوصف من خلال طرح سؤال العلاقة المؤطر بمنهج دقيق. إذ يكون العلم بذلك
جزئي محدود بموضوعه. فإن الفلسفة على خلاف ذلك
تظهر على أنها مجال للتأمل القائم على السؤال الذي تتناول فيه قضايا شمولية
لا ترتبط بهذا الموضوع أو ذاك. لأن الفلسفة ليس لها موضوع ثابت.
التناول الفلسفي لانفصال العلاقة بين الفلسفة والعلم
أوغسط
كونط
|
الوضعية
المنطقية
|
يذهب "كونط" إلى القول بأن العلاقة بين الفلسفة
و العلم هي علاقة انفصال بموجب القطيعة التاريخية التي تقوم على قانون المراحل
الثلاث. و التي ترى بأن المجتمع و الفكر
يمران بمراحل تطورية من مرحلة لاهوتية إلى اخرى ميتافيزيقية وصولا إلى
المرحلة الوضعية النهائية التي تقطع مع المراحل السابقة عنها.
تقوم المرحلة
الوضعية على تفسير الظواهر بالإعتماد على العلم، بمعنى أن كونط يضع العلم في
درجة أرقى من الفلسفة و النتيجة هو غياب العلاقة لإختلاف مراحل التفسير.
|
تسعى الوضعية
المنطقية إلى تنقية العلم من الميتافيزيقا. لذلك نجدها تميز بين قضايا ذات معنى
و اخرى فارغة من المعنى عبر معيار
التحقق التجريبي. الأولى هي قضايا العلم. وتتوزع بين قضايا تحليلية
(الرياضيات)، و تركيبية (العلوم الطبيعية). و الثانية هي قضايا الميتافيزيقا. و
بذلك فليست هناك علاقة بين الفلسفة و العلم بموجب القطيعة الإيبستيمولوجية التي
تميز بين ما هو علمي وما ليس بعلمي.
|
2 - علاقة الفلسفة بالعلم علاقة اتصال
يستند هذا القول إلى الوظيفة الإيبستيمولوجية للفلسفة
كخطاب نقدي للعلم خصوصا بعد استقلال العلوم عن الفلسفة. فهذا الإنفصال لا ينفي
العلاقة بينهما بل يؤكدها عبر الوظيفة الجديدة للفلسفة.
يمكن أن نلمس هذه العلاقة من خلال الفيزياء المعاصرة.
التي أصبحت فيها معرفتنا بالواقع معرفة احتمالية، افتراضية، قائمة على الخيال.
وكأن العلم يرتمي في أحضان الميتافيزيقا.
التناول الفلسفي لاتصال العلاقة بين الفلسفة والعلم
برتراند
راسل
|
كارل
بوبر
|
يرى راسل أن علاقة
الفلسفة بالعلم قائمة على الإتصال. ما دامت هناك مناطق مجهولة في العلم لا
يستطيع البث فيها. فالعلم محدود بموضوعه و كلما وصل العلم تلك المناطق فإنه
يغادر دائرة العلم إلى الفلسفة. فهذه
الأخيرة تبدأ حين ينتهي العلم إذ تتأمل مجهوله، و بذلك فليس هناك انفصال بينهما.
|
يقر بوبر بالعلاقة
الإتصالية بين الفلسفة و العلم من خلال معيار قابلية التكذيب كتجاوز لمعيار
القابلية للتجريب. الذي ما هو إلا إعلان عن وقف سيرورة تطور العلم. فالعلم إذا
ما أراد أن يتقدم فيجب عليه تجاوز الإطار الضيق للتجربة و الإنفتاح على الإفتراض
و الخيال. و في هذا الإنفتاح ينفتح العلم على الفلسفة.
|
3 - علاقة الفلسفة بالعلم علاقة استغلال
و توجيه:يقوم هذا النوع من العلاقة على أن هناك استغلال متبادل
بين الفلسفة و العلم وفيه يوجه العلم الفلسفة كما توجهه هي الأخرى. ولعل هذا ما
ذهب إليه "ميشيل سير" بقوله أن هناك نقل و تحويل من مجال معرفي إلى مجال
معرفي اخر ، عبر فعلي الإستيراد و التصدير . و عموما يمكن أن نميز في هذه العلاقة
بين وجهين للإستغلال و التوجيه على الشكل التالي:
استغلال
العلم للفلسفة:
|
استغلال
الفلسفة للعلم:
|
-وضع نسق
للعلوم في نظرية للعلم تضم العلوم جميعا. و هو ما يعبر عنه ميشيل سير بالجهوية
العلمية التي تعمل على إدماج العلوم ( مثال: الجمع بين الرياضيات و الفيزياء في
الفيزياء الرياضية)
-توفير الأرضية النظرية للعلم كلما واجه العلم أزمة
و فتح الإمكانات أمامه.
-تحرير العلم من
الضغوط التي تسير به إلى حتفه. (مثل الضغوط المؤسسية)
|
-
استغلال مفاهيم العلم و مناهجه.
-
توجيه العلم للفلسفة من خلال ضرورة نتائجه
-
استفادة الفلسفة من موضوعات العلم المختلفة في تجديد
رؤيتها للعالم.
|
0 تعليقات