د. زهير الخويلدي/ كاتب فلسفي
استهلال:" يبدو من الصعب جدا أن نحدد الوجهة داخل تعقد فلسفة اللغة بل إننا لسنا متأكدين من إمكانية ترجمة المشاكل التي تظهر في حقل معين لمعالجتها في حقل آخر"[1]
من البديهي أن يبدأ كل الأطفال في التكلم واستعمال
ألسنتهم بشكل فطري دون أن يحتاجوا إلى تعلم ذلك ، فاللغة تنتمي إلى المجتمع
والجميع يمارس الكلام وينتج الخطاب في كل يوم دون أن يفكروا في ذلك. غير أن
الفلاسفة لم يبخلوا بالتساؤل علاقة الكلمات بالأفكار وصلة الكلام بالعالم وعن شروط
الاستعمال السليم.
إذا كانت اللغة هي أحد أهم مفاتيح فهم العالم وتحقيق
التواصل البشري وفضاء التفكير الإنساني فإن المنهج الفلسفي هو الأقدر على فهم هذه
الظاهرة الرمزية وفك أسرارها وتحديد طبيعتها والتعرف على مكوناتها.
لقد شكلت فلسفة اللغة حضورا مميزا وانفجارا ملحوظا على
الساحة الفلسفية في القرن العشرين بالرغم من أن الاهتمام الفلسفي باللغة وجد منذ
القدم في محاورة الكراتيل لأفلاطون وفي العبارة لأرسطو وبحوث لوك التجريبية مرورا
بالتأملات حول أصل اللغات وتاريخها مع روسو وطبيعة الكلمات في القرن 18.
لقد تم التعامل مع فلسفة
اللغة على أنها فصل من فصول الفلسفة القديمة والحديثة إلى جانب المواضيع الأخرى وهيمن
طويلا تصور عام يختزل الكلام في الألفاظ ويرجع الكلمات نفسها إلى تمثلات رمزية
تتطابق مع الأشياء التي تحوز عليها الذات من خلال نظام التسمية وعملية التفكير
وتمتلكها بشكل قبلي.
لم يتم الاعتراف بالكلام من حيث هو بعد إشكالي من مشاكل
الفلسفة التي تتناول الحقيقة والمعرفة إلا حينما تم اكتشاف البعد التركيبي المعقد
للنحو والبعد التداولي للعبارات اللفظية وتم الانتباه إلى أهمية البد الدلالي في
علاقة بمعنى العالم التجريبي ودراسة الخطابة من جهة كونها تقنية للإقناع بواسطة
الخطاب.
في هذا الإطار تم التمييز في العلامة اللسانية بين البعد
الدلالي والبعد التركيبي والبعد التداولي ولم يعد الكلام موجودا إلا في صيغة عدد
كبير ومختلف ومتنوع من اللغات المتكلمة والتي تحولت إلى الخطاب.
بأي معنى تمثل اللغة ميزة إنسانية؟ وما الفرق بين لغة
الحيوان ولغة البشر؟ ما أصل اللغات؟ وهل الصلة بين الأسماء والأشياء بالطبع أو
بالمواضعة؟ ومتى تم الانتقال من تناول فلسفي للغة إلى تناول علمي لها؟ وماذا أضافت
الألسنية إلى المباحث اللغوية؟ وما المقصود بالاعتباط اللغوي؟ وأي دور أنطولوجي
للغة؟ وماهي شروط إمكان اللغة الكلية والنحو الكلي؟ وكيف تتحدد الدلالة؟ هل من
خلال الإحالة أم القصدية؟ وما المقصود بالنزعة الاسمية والماصدق؟ وما العلاقة بين
العقل واللغة؟ وما تبعات النسبية اللغوية؟ ومتى يتم التخلص من التكلف اللغوي؟ هل بإتباع
جملة من القواعد أم من خلال ألعاب الكلام وأفعال الخطاب؟ وعن أي منعطف لغوي يتحدث
المؤرخون؟ وماهي مصادره وتبعاته؟ ولماذا العودة إلى اللغة العادية؟ وفيما تتمثل
نظرية ألعاب الكلام؟ ولماذا تم نحت نظرية أفعال الخطاب؟ وكييف يتحول القول إلى
فعل؟
ما يتم المراهنة عليه هنا هو الانتقال من التناول
التحليلي الذاتي للكلام الذي يدرس الفوارق بين العلامات والرموز ضمن الأنساق
والمرجعيات إلى البعد التفاعلي الذي يهتم بالاضطرابات ويقضي على التشوهات ويعبد
الطريق نحو التعلم والثقافة والتواصل والتذاوت والتناص ويتيح التخاطب المفيد
والحوار المتبادل.
1 - التناول الفلسفي للغة
" إن استقامة الاسم هي ما يشير إليه الشيء كما هو في حد ذاته"[2]
لقد اهتم الفلاسفة الإغريق كثيرا بمصادر الكلام ولذلك
تمت تسميتهم بمحبي القول وعشاق الكلمة ولكنهم فكروا في طبيعة اللغة وأصولها وفي
علاقاتها مع الحق والخير والنافع وعدوها خاصية إنسانية أساسية.
لقد تساءل أفلاطون في محاورة الكراتيل عن أصل وجود اللغة
عند الإنسان ومصدر منح تسمية للأشياء وعلاقة الكلام بالعالم وطرق استعماله وتمثلت
الإجابة في أن معرفة الأسماء تعني معرفة
طبيعة الأشياء وأن الحوار الهادف عن طريق اللغة العقلانية بين الكائنات العاقلة هو
الأرضية التأسيسية للقول الفلسفي.
لقد خصص أفلاطون محاورة كاملة بعنوان الكراتيل تبحث في
فرضية أن يكون الكلام مجرد مواضعة واصطلاح واتفاق بين الناس أو أنه توجد علاقة
مباشرة وضرورية بين اللغة والعالم الذي يحيط بالمرء.
يستعرض أفلاطون في هذه المحاورة أطروحتين للنقاش: الأولى
ترى بأن كل شيء يحوز على تسمية مناسبة وأن الأسماء هي أسماء صحيحة مناسبة بالطبع
للأشياء فلكل شيء الاسم الذي يواتيه بالطبع والضرورة وبالتالي توجد تسمية صحيحة
بشكل طبيعي ومتلائمة بصورة ضرورية مع كل موجود. الأطروحة الثانية تخالف الأولى يمثلها
هرموجين وترى بأن الطبيعة ليس لها أي شيء مع صحة الأسماء وأن الكلام مجرد اتفاق
بين الناس ومجرد مواضعات ومصطلحات أسندوها للأشياء وتواضعوا عليها بحكم العادة
والاستعمال والتداول والتجربة اليومية والأعراف وتحولت إلى قاعدة وقانون معروف.
بهذا المعنى يكون الإشكال على النحو التالي: هل الأشياء تحوز على أسماء بالطبع أم
بالمواضعة أو بالاتفاق؟ وما معنى اسم صحيح بالطبع والضرورة بالنسبة لشيء واسم
مسنود إلى شيء بصورة اعتباطية وجائزة؟
يبدو أن منح اسم إلى شيء عند أفلاطون هو فعل يحوز على
منزلة أنطولوجية تتمثل في القول المرء ماهو الشيء وما طبيعة وجوده ويحيل إلى أشكال
وجود ذلك الشيء وبذلك فإن معرفة الاسم هي معرفة الأشياء.
إن نظام التسمية لا يصلح فقط في تطوير الخطاب وترشيد
الكلام وإنما يمنح مفتاح الدلالة العميقة للأشياء
وبالتالي توجد حكمة مخفية في الكلمات يمكن الكشف عنها عندما يحاول الفكر
البحث في قدرتها على كشف ماهو كائن وتعرية العالم وقول حقيقة الظواهر التي تبدو
للمرء من الكون والإصغاء إلى أسراره.
كما أن الاهتمام بحسن القول من خلال إتقان صناعة الكلام وإجادة
أسلوب التسمية هو كفاءة في التعامل مع اللغة ومهارة في الخطابة والبيان والفصاحة وإمكانية
الصعود نحو الماهية وقدرة على بلوغ عالم المثل ولكن كيف تمثل اللغة عند أفلاطون
جسر للوصل بين العالم العقلي الروحي والعالم المادي المحسوس؟
توجد طريقتين في النظر إلى حقيقة الواقع: إما إدراك
العالم الحسي من وجهة نظر التغير والحركة في الزمان والمكان أين تأتي الأشياء إلى
الوجود وتظهر وتنسحب وتتلاشى عن الأنظار وتعود إلى العدم، وإما إدراك العالم
العقلي من وجهة نظر الثبات والبقاء والخلود على مستوى الخصائص العقلية والمثل
المطلقة التي تشكل ماهية الأشياء أين تمثل الحقائق مصدر القيمة وأصل الوجود وأساس
المعرفة اليقينية.
إن الكلام عند أفلاطون هو وسيط بين العالم الفكري
والعالم الحسي بما أن الاسم يدل على الفكرة وهذه الأخيرة تشير إلى الشيء وهذا
الأخير يمكن تسميته باللفظ واللفظ يحمل دلالة عن الفكرة التي تعبر عنها.
إن الأسماء تنطبق على مواضيع خاصة ومختلفة وأشياء جزئية
ومتنوعة ولكن الكلام ينتمي إلى نظام التعميم ويعبر نحو الكلية ولا يكتفي بالتخصيص
والطابع الجزئي للأشياء التي يتحدث عنها ويشير إليها. إن الفكر يستعمل المقولات
ويجرد الخصائص عندما يقوم بتسمية أشياء ويجمعها في مفاهيم وتصورات والاسم لا يفيد
الشيء الذي يقع تحت طائلة الحواس فحسب وإنما يذهب مباشرة إلى فكرة الشيء ومعناه.
هكذا تتعارض الأطروحة المثالية الأنطولوجية لدى أفلاطون
مع الأطروحة السفسطائية لدى هرميجون التي تكتفي بالقول بأن الكلام هو مواضعة
إنسانية ومجرد اصطلاح واتفاق حول ترابط اعتباطية بين الأسماء والأشياء وبين
الدلالات والأفكار يظل متوقفا على نظرة الإنسان وميولاته وانفعالاته وآرائه.
خلاف لذلك يرى
أفلاطون بأنه لو افترضنا بأن الإنسان هو الذي يمنح قيمة ومعنى للأشياء عن طريق
التسمية والكلام فإنه لن يكون هناك حقيقة وخطأ حول هذه الأشياء وليس هناك شيء يوصف
بأنه صادق ولا نستطيع أن نفرق بين الصغير والكبير ولن نتفق على استعمال اللغة في
الحوار والاتصال والإخبار.
على هذا الأساس ينقد أفلاطون أطروحة هرموجين ويرى بأن
الاسم ليس محاكاة الشيء في ما يوجد فيه من محسوس بل في ما يحوز عليه من معقول ويبرهن
على ذلك بأن الصرخة والمناداة والاقحام والقرقعة وتقليد الأصوات هي محاكاة للحركات
الطبيعية ولا ينظر إليها من حيث هي كلام ولغة وحوار وخطاب.
يولد الكلام الحقيقي عند أفلاطون عندما يتم التخلي عن
المادة الخام من التصويت والمحاكاة التامة للأشياء ويتم الإصغاء إلى حركة الفكر ومتابعة
نوابض النفس الواعية والإنصات إلى دقات العقل اليقظ والبصيرة، تظل اللغة صلصة
الفكر وتبقى المواضعة تلعب دورا في تشكيل الأسماء ويبدو من الحكمة معرفة الأشياء
بذاتها قبل البحث في دلالات الأسماء التي تشير إليها وذلك من أجل التخلص من أحكامنا
الخاطئة حولها.
لقد واجه
أفلاطون أيضا السوفسطائي واستعمالاته المريبة للخطاب وبين أن علم الخطابة من حيث
هي صناعة الكلام وفن القول ليس لها من هدف سوى إقناع المتلقي وليس التأثير عليه
وتحصيل مال منه. لقد تناول ذلك في محاورة الغورجياس أين اتهم محاوريه من السفسطائيين
باعتبار الحق باطلا والباطل حقا وكشف عن وظيفة الخطابة في الإقناع عن طريق
الاهتمام بالمظهر والمحتمل وليس الاهتمام بالحقيقة. في حين أن السوفسطائي يستعمل
الخطاب للكذب والتشويه والتلفيق والتغليط بلا قواعد ودون احترام للحقائق. لقد حصل
كاليكلاس على تجربة سياسية هائلة عن طريق التأثير في الجمهور بواسطة الخطابة وكان
ذلك على حساب الأخلاق ودون مراعاة الشيم الخلقية للمدينة وارتكب فضاعات غير معقولة
وتخلص من كل التزام بالعدالة والحقيقة. بيد أن أفلاطون لم يترك الخطابة بشكل تام
بل طالب بتخليصها من الاستعمالات السيئة ووقوعها في المغالطات من طرف السوفسطائيين
وانحدارها نحو الكذب على الجمهور وتمت إثارة تعاطفه وشفقته مثلما يفعل الشعراء في
القصائد الملحمية والتراجيدية عندما يقعون في التمثيل والمسخ.
لقد انبنت السفسطة على توظيف الكلام في احتقار الحقيقة
والسخرية من العقل وإقناع العامة بالأوهام بينما تشكلت الخطابة في الأساس من حيث
المبدأ في اتجاه الجمهور لكي يصدقوا ويقبلوا قيم السلطة في المدينة. بعد ذلك جاء الدور على أرسطو، 384 قبل الميلاد-322 قبل
الميلاد، لكي يتم اعتباره أول فيلسوف قام بصياغة فن القول وجعله وسيلة للإقناع
والتأثير في المخاطب وانتبه إلى قدرة المتكلم وأهمية الاستخدام البلاغي للكلام في
الأمكنة العامة ويقوم بتأسيس علم الخطابة الذي يختلف عن الشعر والسفسطة والجدل.
لقد سمح كتاب الخطابة بقياس السلطة التي يمارسها الخطيب
عن طريق الكلام وتضمن كذلك الحجج المنطقية التي تساعد على إنتاج أقوال مقنعة وقام
بتعميم هذا الفن على الجميع ورفض احتكاره من طرف قلة من المختصين وكان المراد من
ذلك تمكين غالبية الناس من الدفاع عن أطروحاتهم وتبليغ أفكارهم.
في الواقع وقف أرسطو ضد أفلاطون فيما يتعلق بالجدل
والخطابة ، فإذا كان أفلاطون يرى في الجدل منهجا فلسفيا ونظر إليه على أنه فن
للتقدم في المعرفة عن طريق طرح الأسئلة وتقديم والأجوبة ويساعد على التسمية بواسطة
القسمة فإن أرسطو ينفي عنه الصفة العلمية لاستخدامها لحجج واهية وقناعات ذاتية
ويجعله صالحا في امتحان الآراء الظنية وفي فتح الطريق الفكري نحو الأسس الأولى
والمبادئ المطلقة.
من المعلوم أن أرسطو قد درّس حينما كان شابا الخطابة في
الأكاديمية الأفلاطونية وأقر بالعلاقة المتينة بين الجدل والخطابة وواجه
السفسطائيين ولكنه عمل بعد ذلك على الاستقلالية فن الخطابة وأسس المعهد وقدم أربع
حجج مرافعة على المنفعة التي تحصل عن حسن إتقان هذا الفن وتتمثل في إمكانية
استعمال الخطابة في الدفاع عن الحق والعدل من جهة أولى وفي إقناع الجمهور الواسع
بوجهة نظر معينة حول مسألة هامة من جهة ثانية وفي البرهنة عن مواقف متعارضة ودحض
المقولات التي يعتمد عليها الخصوم من جهة ثالثة وفي استعمال الكلمة العلنية بأسلوب
سلمي بدل عن القوة والأسلوب العنيف من جهة رابعة. كما نبّه
أرسطو من سوء استعمال الكلام والاستخدام غير المشروع للأقوال وما يترتب عنه من
الكثير من المخاطر والكوارث وأن حسن استعمال الكلام واستخدام الأقوال بشكل مشروع
يؤدي إلى الفضيلة والخير.
لقد قسم أرسطو الأقوال العمومية التي ترنو إلى التأثير
والإقناع إلى ثلاثة أنواع:
1-
الأقوال التداولية التي ترتكز على التعقل والتروي
والتمييز والتدبير وتميز بين النافع والضار.
2-
الأقوال البيانية التي تشتغل على الإبانة والإظهار
والكشف وتميز بين الحسن والقبيح.
3-
الأقوال الحكمية التي تصدر مجموعة من القرارات والمواقف
حول العادل والظالم.
لقد كان المعيار الذي اعتمده أرسطو في هذا التقسيم بين
الأنواع هو الدور المعطى للمتلقي وليس للخطيب، وقد ترك فرصة للحكم من جهتين:اتخاذ
القرار حول المستقبل وإبداء الرأي حول حالة في الزمن الحاضر. في الواقع إن الوظائف والغايات التي تؤديها هذه الأقوال
مختلفة ومتنوعة ومتميزة عن بعضها البعض ويستند المنهج العقلاني على الحجة العقلية
في البداية وعلى طبيعة القائل ثانيا وحالة المتلقي النفسية ثالثا.
لقد أدخل أرسطو إلى فن الخطابة مادة منطقية وكان له
الفضل والسبق في بناء نظرية متماسكة في الحجاج وتقسيمها إلى نمطين من الاستدلال:
القياس الاستنباطي الذي يشتغل على مقدمات احتمالية ويصوغ ظنون ومؤشرات تحت مسمى
براهين وحجج، أما الاستنتاج الاستقرائي فيعتمد على الحكم والأمثلة المضروبة في
الماضي ويصوغ وقائع وحكايات مليئة بالاستعارات والأساطير بغية التأثير الشفوي في
المستمعين.
الأقوال التي يلقيها الخطباء مرتبطة بالعوامل الشخصية أي
بطبع الخطيب وبالحالة النفسية للمستمع ولذلك يحاول الخطيب أن يلتزم بجملة من
القواعد والآداب وأن يكون في حالة نفسية جيدة ليكسب ثقة الجمهور ولكن يجد ربه أن
يتوخى الحذر وأن ينتقي عباراته وأن يحلي كلامه بمذاق الفضيلة ويكون لطيفا جذابا.
من جهة مقابلة يقوم الخطيب بدراسة المتلقي بغية التعرف
على الأحوال النفسية للمستمعين ولكي يتكيف معهم ويبلغ الكايروس الملائم أي الفرصة
الخطابية الجيدة التي تنتج التفاعل المثمر بين الباث والمتلقي. لقد رشح أرسطو أربع عشر انفعالا تشير كلها إلى الباثوس
البشري وتمثل انفعالات المتلقي أهمها الغضب والفرح والمحبة والكراهية والضمان
والحزن والرجاء والشفقة والخوف والثقة والحقد واللطف والضغينة. لقد أشار إلى أهمية التغييرات التي تحدثها الانفعالات
التي يوقظها الخطيب في السامع وتساعده على الحكم والى الوسائل التي يستعملها في
الخطابة لكي يتفق مع نفسية المتلقي وقناعاته المنحدرة من ثقافته وقيمه العميقة
وحذر من تكرار القوالب الجاهزة والمفردات التقنية الصعبة للإفهام والتوضيح
والإقناع والتقريظ.
من هذا المنطلق يتحرى الخطيب في طبيعة كلامه ونفسية
المتلقي ويحرص أن يكون مهذبا وغير متكلف وطبيعيا في تصرفاته ويظهر صدقه وجديته لكي
يكسب ود الجمهور وثقتهم ويبشر بفعل الخير والتناغم. لا يكون الخطيب مختصا في علم
من العلوم الإنسانية بل هو القادر على التعبير عن قضايا هامة لمجتمعه ومشاكل
المدينة التي ينتمي إليها والمتمكن من التنبيه إلى تقلبات الوضعيات الخاصة التي
تهدد بالمجتمع.
لقد ميز أرسطو بين الأماكن النوعية الخاصة التي تتراوح
بين الحرب والسلم وبين السعادة واللذة وبين الفضيلة والتشريع والأماكن العامة
المشتركة التي تجمع بين الممكن والمستحيل وبين الراهن والمتوقع. إن الخطيب الحقيق هو القادر على استعمال الكلام
بغية ممارسة التوجيه والنصح والإرشاد لكل الناس في الفضاء العمومي ومعالجة مختلف
الاهتمامات والتحريض على نبذ العنف وإيثار التعاون وإتيان الفضائل. إن التناول الذي أجراه أرسطو على الخطاب هو من
العمق والثراء بحيث كانت له الريادة بالمقارنة مع غيره وانتظرت البشرية ميلاد العلوم الإنسانية في
نسختها الاجتماعية والنفسية واللغوية لكي تعرف قيمته.
على خلاف ذلك عارض الرواقيون منطق المحولات وأسسوا منطقا
للقضايا لا يستند إلى الأحكام القطعية وإنما يعتمد على الجمل الشرطية والأحكام
النسبية وأنشئوا علاقات بين الأحكام تعتمد على التضمين المادي وتنفتح على الحالات
الخاصة ولا تقتصر على البناء الصوري والتماسك المنطقي وانطلقوا من نظرة العالم تعتبره مجموعة من الأجسام المادية وتنفي
وجود الحقيقي وتعتبره مجرد كلمة وتعتمد على العلم بالجزئيات وإدراك العام بالمعرفة
الحسية وتعول على مقولات الكائن والكيف والحالة والوضع3[3].
لكن لماذا وقع الفكر الفلسفي الوسيط في صراع الكليات ؟
وكيف سعت الاسمية إلى مقارعة الواقعية؟ وماهي الظروف التي تشكلت فيها علوم اللغة
بمختلف فروعها التوليدية والتحويلية والبنيوية والعرفانية؟
2 - التناول العلمي للظاهرة اللسانية
"إن الشيء الطبيعي عند الإنسان ليس اللّسان الشفوي بل ملكة إنشاء اللغة أي نظام من الإشارات المتميزة يرتبط بأفكار متميزة"[4]
إذا كان غيوم أوكهام5[5]
قد أعلن أن المفاهيم والكلمات لا توجد إلا في الذهن البشري وليس في العالم الذي
يحيا فيه الإنسان وأسهم في قيام النزعة
الاسمية وأوجد نظرية في العلامة تقول بأن كل ماهو موجود هو شيء جزئي وأن المفهوم
هو علامة طبيعية تتولد من تفاعل نفسي مع انطباع يتسبب فيه شيء خارجي، فإن دونس
سكوت6[6]
استثمر مرجعياته الميتافيزيقية والتيولوجية من أجل إيجاد نظرية في التمييزات شملت
ميادين ثلاثة وهي التمييز الواقعي والتمييز العقلي والتمييز الصوري الذي يحدث داخل
بنية الأشياء ذاتها دون فصل واقعي وتام بين المادة والصورة ونقد النزعة الاسمية
ودافع بشراسة على التوجه الواقعي ويقر بهذا المعنى بإمكانية بلوغ الهوية على مستوى
واقعي وتمييز صوري على مستوى الأشياء المادية.
على خلاف ذلك يعارض غيوم أوكهام فكرة التمييز الصوري
ويرى أنه في الواقع لا يوجد سوى شيء واحد يشار إليه باسمين مختلفين أو أن الشيئين
هما منفصلين سواء بشكل طبيعي أو بفضل القدرة الإلهية.
غير أن دونس سكوت يطبق هذا التمييز الصوري بين الطبيعة
المشتركة أي الإنسانية والفروق الفردية أي الأشخاص بذاتها. في حين أن هذه الأطروحة
تم رفضها من طرف أوكهام الذي يرفض وجود الطبيعة المشتركة ويعارض منزلة واقعية
للكلي حتى وان ضم مجموعة من الأشياء بالنظر إلى أن الكلي هو مجرد علامة دالة على
عدة المواضيع ويقبل بأن يُحَال إلى عدة كيفيات عندما يتم استعماله في قضية معينة.
على أثر ذلك ظهرت مدرسة البورت رويال بجنوب كارولينا
ممثلة في بيير نيكول وأنطوان أرنولد7[7]ولقد
أقرت بأن العلامة تمثل فكرة الشيء الممثل والشيء ذاته وبحثت عن نحو عام يجمع كل
اللغات وأرجعت طريقة الإنسان في التفكير إلى جملة من المبادئ المنطقية التي تتخذ
صيغة الأشكال في اللغات المعروفة8[8]. بيد أن
المُنظّر الكبير للتنوع الألسني ورؤية العالم9[9]هو
فولهام فون همبدولت 1767-1835عندما أعلن من جامعة برلين أن اللغة هي عنصر من
العناصر التي تساعد على الوصف الفيزيائي والفكري لمجموعة بشرية وبأن اللغات تنقل
رؤية العالم التي تخص كل مجموعة بشرية وأنها أيضا تتضمن خاصية عرفانية. من هذا
المنطلق" تعبر خاصية وتكوين لغة معينة عن حياة المتكلمين بها الداخلية وعن
المعرفة التي قاموا بالتحوز عليها وينبغي أن تختلف اللغات عن بعضها البعض بنفس
القدر الذي يختلف فيه من يتكلم هذه اللغات بحيث لا تصبح الأصوات كلمات إلا بعدما
يضاف المعنى إليها ، والمعنى هو الذي يجسد الفكرة في مجتمع ما"10[10].
لقد كان لهمبدولت السبق والريادة في القول بأن اللغة
ليست جملة من المفردات والجمل المقترنة بالمعاني والدلالات فحسب وإنما أيضا نسق
منظم تحكمه قوانين دقيقة ونظام يخلق استخدامات لانهائية من الجمل عبر أدوات نهائية
من القواعد النحوية وفي تفريقه بين شكل خارجي للكلام وشكل داخلي يمثل الأسلوب الذي
تتم به ترميز العلاقات بين مكونات الجمل ويقوم بتنويع الطرق التي تختلف بها
اللغات.هكذا تساعد اللغة على تكريم البشرية وتعليم الفضيلة والحقيقة واحترام الفرد
لذاته وتلزمه تغيير العالم من حوله وذلك عندما يستخدم قدرته على استقبال كتلة
المادة الهائلة المقدمة له ويحقق التلاؤم والتفاعل والانسجام.
لقد مهدت مثل هذه الأعمال النظرية والورشات التطبيقية
الطريق لكي تتشكل الألسنية بوصفها علم مع فرديناند دي سوسير 1857 -1913 الذي أعاد
تعيين المهمة التي يؤديها الألسني في وصف حالة اللغة في لحظة معينة من أجل فهم نسق
العلامات والرموز الذي تتكون منه وحدد بالتالي كل لغة بوصفها نسق11[11].
لقد نقل دي سوسير المباحث اللغوية من قسم
الدراسات التاريخية إلى قسم الدراسات الوصفية وتعامل مع اللغة بوصفها ظاهرة
اجتماعية ونتج هذا التحول بعد دراسته المعمقة للغة السنسكريتية وتترتب عنه جعله
اللسانيات فرعا من فروع علم أشمل يهتم بالإشارات ويتناول بالتحليل الأصوات ويسمى
علم السيميائيات. لقد قدم دي سوسير نظرية علمية متكاملة حول اللغة ضمت مجموعة من
العناصر والمبادئ والوظائف وتقوم بتقسيم الظاهرة اللسانية إلى ثلاث أقسام هي اللغة
والكلام واللسان وتعمل على تمييزها عن بقية الظواهر وتجذير التمييز بغية بلوغ
ماوراء اللغة من حيث هي النقطة المشتركة التي تتخطى جميع اللغات. إن اللغة هي نسق
من العلامات المستعملة من مجموعة من أجل التواصل، بينما الكلام هو ملكة عامة
للقدرة على التعبير عن طريق العلامات وهي ليست خاصة باللغات الطبيعية بل تميز صورة
التواصل الإنساني، في حين أن اللسان هو الاستعمال المتعين للعلامات الألسنية في
سياق محدد ومن طرف الشخص المتكلم. كما يميز دي سوسير بين بعدين من الظاهرة
الألسنية: بعد دياكروني diachronique يتمثل في تطور العلامات مع الزمن وبعد
سانكروني synchronique يعتمد على الصلة بين
العلامات في لحظة معطاة ، ولقد أظهر براعته في الكشف عن قيمة البعد الثاني في
دراسة اللغة من حيث هي نسق وارتباط دلالة العلامات ببنية المجموع الذي تتكون منه
اللغة.
كما قام دي سوسير بالتمييز في العلامة بين الدال signifiéوالمدلول
signifiant وبين أن العلاقة بينهما هي إلزامية ومشروعة
وتقتضي احترام البعد المؤسساتي ولكن كشف عن الطابع الاعتباطي القائم بينهما.
يشير الدال إلى المفهوم من حيث هو التمثل الذهني للشيء
بينما المدلول هو صورة صوتية للمفردة، ولذلك تبني كل لغة معجمها بواسطة عدد محدود
من الصوتيات التي تتميز بالمدلولات وليس بالطابع الخاص بها.
إن الفكرة المركزية التي أتى بها دي سوسير تتمثل في كون
اللغة نسق مغلق من العلامات تتحدد كل عناصرها من خلال ترابطها مع بعضها وكل علامة
تعرف بالمقارنة مع العلامات الأخرى بواسطة الاختلاف المحض وليس بواسطة المميزات
التي تخصها ، ويقوم الكلام بقطع المدلول من كتلة الأصوات والدال من كتلة المفاهيم
ولذلك كانت الصلة بينهما اعتباطية وليست ضرورية ولا تخضع لأي تبرير قبلي.
كما يتشكل الخطاب من سلسلة متعاقبة من العلامات وتعرف
الوحدة الألسنية بالجمع بين العلامات وتكوين عبارة وكل علامة تنتمي إلى عبارة
تستمد قيمتها من التعارض مع العلامة السابقة والعلامة اللاحقة لها.
والحق أن النظرية الألسنية لدي سوسير تضمنت نزعة اسمية
واضحة المعالم وساهمت في قيام المدرسة البنيوية مع جاكبسون12[12]
وفلسفة الاختلاف مع دريدا13[13]على
الرغم من غياب مفهوم البنية وحضور النسق. لقد فتح علم الصوتيات14[14]
الذي تأسس مع رومان جاكوبسون الطريق نحو التحليل البنيوي للغات ومجمل النصوص
الشعرية والأساطير واستثمار التبادل في مستوى الرموز بين المتخاطبين لتحقيق
التواصل بين البشر. في نفس الاتجاه رأى أندري مارتينه15[15]
أن الكلام يسمح بالتواصل إذا استخدم وفق سانركرونية ديناميكية وجعل وظيفة الكلام تحرص
على ربط صلة بالغير وآلية اللغات تشتغل بمواضعات في الصوت والإحساس، وكشف عن
التمفصل المزدوج في الأصوات والألفاظ وإمكانية قول الكثير باستعمال القليل16[16].
لقد ترتب عن هذه المقاربة العلمية للغة التخلي عن فرضية اللغة الأم وعن البحث في
الجذور الميتافيزيقية للغات والاكتفاء بتصنيف العائلات الألسنية الكبرى وضبط
العناصر النحوية العامة والجذور المشتركة والتركيز على آليات اشتغالها وطرق
استعمالها في قول العالم وفي التعبير عن وجود الذات ومشاعرها. في هذا السياق نصح
إميل بنفنيست بأن يعيش المرء الكلام وحافظ على كون اللغة نسق من العلامات ولكنه ميّز
بين النطق والمنطوق بها ونزل الإنساني في قلب الكلام ورأى أن
الكلام لا يتحقق سوى من خلال الأقوال والخطب الفردية بالنظر إلى أن فعل القول هو
دائما فعل فردي ويكون أنا من يقول أنا ، واعتبر اللغة قادرة على تأويل كل شيء ،
فهي تؤول علامات المجتمع وتشكل التاريخ والذات ورأى بأن التجربة اللغوية تسلم
بالصلة الضرورية بين الدال والمدلول وبأن الإنسان لا يقدر على مغادرة اللغة17[17].
على خلاف ذلك يجد رولند بارت18[18]
متعته عند قراءة الكتب19[19]
ويعر النص في الصورة ويطور نظريته عن طريق استقاء أمثلة من الحياة اليومية
والمشاهد المرئية ويطلب من القارئ البحث عن النص المختبئ في الصورة ويعلن موت
المؤلف وقيام النص وتأطير القارئ بتوجيهه ضمن رؤية سيميائية خطابية للصورة. في
الواقع تبحث النظرية الألسنية عن المعنى المختبئ بصورة ضمنية وتلاحق الدلالات
بالإحالة والتعيين والعودة إلى المرجع والسياق ولكنها تبني المعنى من خلال
التفاعلات بين المكونات الرمزية والإشارات. علاوة على ذلك ساهم نعوم شموسكي 20[20]في
هذا التوجه الألسني الجديد بتأسيس تيار الألسنيات الصورية وأعاد من جديد بعث الحلم
الذي راود الإنسانية ببلوغ نحو كوني من خلال ما طرحه من أفكار ديكارتية عن الكفاءة
اللغوية والنحو التوليدي والألسنية العرفانية وإقراره بوجود بنية منطقية للنظرية
الألسنية21[21] وتركيزه على وظيفية الكلام وآمن بقدرة المرء على أن يتكلم مثل
الحاسوب وبأن يتفادى الأخطاء اللغوية عند احترامه الجانب التركيبي والبنيوي وطبق
الصور المنطقية ومارس اللغة كتجلي للعقل الحسابي22[22].
جملة القول أن المنظور الألسني لا ينفي عن اللغة أن تكون
رؤية للعالم وشرط للتواصل البيذاتي ولكنه يكثف اهتمامه بالبنيات التركيبية التي لا
تقبل المقايسة وبالمهام الوظيفية والآليات التكوينية التي يشتغل وفقها الكلام
وينتهي إلى القول بالنسبية الألسنية ويعتمد على المثلث السيمائي الذي يساعد على فك
شيفرة النص وتفسير رموزه وتأويل استعاراته ومراكمة خبرة تداولية في القراءة
والاطلاع والفهم للمكتوب23[23].
غير أن السؤال الذي يمكن طرحه حول هذا الفيض المعرفي المتدفق الذي تمخض عن ميلاد
الألسنية وتراكم نظرياته هو الشروط التي ساعدت على الانتقال من التناول العلمي
للسان إلى التناول الفلسفي. يمكن في الأخير الإشارة إلى العمل الذي قام به أمبرتو إيكو24[24]
حول السيمائية والقارئ في الحكاية وتقصيه عن القارئ النموذجي ومحاولته الرد على
قضية موت المؤلف وميلاد النص وقام بتأريخ العلامة وتحليل مفهومها وحاول وضع حدود للتأويل
بين السميائية والتفكيكية وخوضه التاريخي في لانهائية القوائم من هوميروس الى جويس
وبحثه التنظيري وعمله التطبيقي عن آليات الكتاب السردية وتوقيعه لمفهوم الأثر
المفتوح وممارسة ذلك في رواية الوردة التي تحولت إلى فيلم سينمائي وقيامه بنزهات
في عالم السرد وإحداثه تقابل مبتكر في المعجمية بين الموسوعة والقاموس وتطرقه إلى
الأنظمة السيميائية وعلم الدلالة والاستعارة والرمز والسنن وانتقاله السريع بين
الجماليات والأدب والذكاء الاصطناعي والهرمينوطيقا. فماهي العوامل التي ساهمت في حصول منعرج لغوي
ضمن الدراسات الألسنية أدت إلى تشكل مباحث غير معهودة في الميدان الفلسفي على غرار
فلسفة اللغة وفلسفة الفعل والفلسفة التحليلية وفلسفة الذهن؟
3- تداعيات المنعطف اللغوي
"إذا أخذنا تعبير فلسفة اللغة في مفهومه المحدد فإنه يشير إلى... هذا التيار الفكري في فجر القرن العشرين المنصرم من خلال انقلاب في النظر أطلق عليه المنعطف اللغوي والذي كان مطلوبا منه المساهمة في التجديد العميق في مفهوم الفلسفة وفي ممارستها معا"[25]
لقد تغيرت الوضعية الفلسفية بشكل جذري في القرن العشرين
عندما حدث المنعطف اللغوي وتم تبجيل منهج التحليل والكلام العادي ومراجعة المسلمات
التي استندت إليها الفلسفة الكلاسيكية وأُخِذ بعين الاعتبار التعقيد التركيبي
والدلالي والتداولي للعبارات وتصويب النظر نحو منهج جديد يرفع اللغة إلى مرتبة
الفكر.
لقد أضحت المشاكل الفلسفة الأساسية تطرح للمعالجة عن
طريق تحليل آثار اللغة التي وقعت صياغتها بها ولم تعد الفلسفة تهتم بالمشاكل
المتصلة بالحقيقة بل تجري عملياتها على الرموز وغير منفصلة عن اللغة.
تنطلق الفلسفة التحليلية من معرفة الأسس التي تضمن
المعارف العلمية وتمنح علوم الطبيعة الدقة واليقين من خلال البرهنة الرياضية
والتوضيح المنطقي ولكي تقوم بمهمتها على أحسن وجه طالبت بإعادة تأسيس علم العدد
وعلم الهندسة بعد التطور الهائل الذي حصل لهما وحاجتهما لتنظيم العدة المنهجية
والمفهومية.
لقد بحث كل من فريجه 1848 -1925 ورسل 1870-1972 عن تأسيس
مشروع منطقي يرتكز على طموح نظري لقوانين منطقية كلية قادرة على تخطى نقائص اللغات
الطبيعية والتباسات النزعة النفسية26[26].
لذا تنطلق الفلسفة التحليلية من المعتقد المشترك الذي يقر بتطابق الأسماء مع
الموجودات الواقعية بحث تعكس البنية النحوية للجمل الإطار المنطقي للعالم وتعترف
بأن الكلام يقع في الخلط وينتج أوهام ويحجب الحقيقة وتحرص على عرضها على التحليل
بطريقة جيدة وإصلاحه ودراسة دلالة الألفاظ والجمل
وتقطيع العبارات المركبة إلى عبارات بسيطة والتحقق من مدى مطابقتها بشكل
مقبول مع العناصر الواقعية.
لقد حولت التحليل إلى طريقة توضيحية للمشاكل الفلسفية
تعمل على تنقية الأوهام المبتذلة للكلام. غير أن العقد الخامس من القرن العشرين
كشف لنا عن عدم كفاية النزعة المنطقية وتطلب منعطفا لغويا جديدا حصل مع كل من
ليدفيغ فتغنشتاين 1889-1951 وجان أوستين1911-1960 وانصب حول التنصيص على ثراء
اللغات الطبيعية وعدم الحاجة إلى اختزالها في قواعد منطقية وتمخض بقيام فلسفة
اللغة العادية.
لم يؤدي تطور العلوم وارتفاعها في المستوى المعرفي
والدقة المنهجية إلى إهمال مشكل تأسيس الحقائق العلمية والاهتمام البراغماتي
المبسط بالنظريات العلمية من جهة الفائدة التجارية منها وتطبيقاتها التقنية وإنما
أتاح إمكانية فهم المسارات المتبعة من العلماء في إثبات موضوعية و يقينية المعارف
التي يبدعوها. فهل قدر المعرفة الإنسانية أن تكون بعد المنعطف اللغوي غير دقيقة
ونسبية ؟ وكيف يمكن الحصول على معرفة بالعالم الخارجي باستعمال نسق من العلامات
والرموز وجهاز لغوي ينكر إمكانية بلوغه للحقيقة؟
لو كانت المعرفة متوقفة على قيام الذات بتمثل الموضوع
فإن التطابق بين الموضوع والتمثل هو الذي يؤسس حقيقة المعرفة وان فهم الفعالية
العلمية يتطلب نقد العقل بالمعنى الكانطي والتأليف بين المقولات القبلية عند الذهن
والمعطيات الحسية المتأتية من التجربة أي بين التصورات والمدركات ولا يمكن معرفة
الأشياء في حد ذاتها وإنما الاقتصار على تمثلات الذات عن الأشياء وتتحول المثالية
إلى نزعة نفسانية تختزل مجموع المعارف التي يدركها الإنسان إلى جملة الخصائص
النفسية وعدد من المعطيات الذاتية.
لقد وقع اعتبار المفاهيم والأحكام والاستدلالات التي
يستعملها الفكر في مقاربته للعالم مجرد وقائع نفسية ومضامين للوعي بينما تم منح
النظريات العلمية أسس منطقية ورياضية وإسنادها بقوانين نفسية للدماغ.
بيد أن النزعة النفسية تضيع الجهود الفلسفية المبذولة من
أجل تأسيس الحقيقة وتقع في الريبية وتنفي تماما إمكانية بلوغ العقل الإنساني
المعرفة المطلقة واليقينية وتقر في المقابل بالإدراك الظاهري والجزئي لها.
في هذا السياق انخرط غوتلوب فريجه 1848-1925 في البحث عن
لغة موضوعية وحاول أن يبدأ كل شيء من جديد ولذلك اعتبر هذا الرياضي والمنطقي
ديكارت الفلسفة المعاصرة واحتلت مؤلفاته مكانة بارزة في تاريخ الفكر في القرن
العشرين لما أعلنته من مشاكل أساسية طالت البحث في أسس الحقيقة27[27].
لقد تسارع تاريخ المنطق في القرن العشرين بعد الاسهامات التي قدمها أرسطو
والمناطقة الوسيطيين وتم إخضاع منطق المحمولات والقضايا بتطويرات جديدة ولم يعد
المنطق المعاصر خاضعا للقواعد الأساسية الكلاسيكية بل ظهر المنطق الرمزي والمنطق
ثنائية التكافؤ وثلاثي التكافؤ والمنطق التعددي والتحويلي.
لقد نقد فريجه بشدة النزعة النفسانية وواجه مشكل واقعية
العداد والأفكار وانتقل من القول بموضوعية الفكر إلى موضوعية اللغة ومن ربط صدق
القضايا المنطقية وامتلاكها للمعنى باتفاقها مع عالم التجربة.
لقد دافع فريجه عن تصور واقعي للمعرفة يكون للأفكار
بمقتضاها وجودا موضوعيا خارجيا ويتميز بالاستقلالية عن الفكر الفردي للذات التي
يفكر فيها و لا يكون الفكر تمثلا للوعي الذاتي للموضوع.
بعد ذلك عرف فريجه انفتاحا فكريا توجه بالاهتمام بظاهرة
اللغة حيث افترض وجود فهارس ألسنية وذخائر لغوية توافق التمثلات الذهنية تمثل
دلائل فكرية وترمز هي في حد ذاتها إلى الأشياء المادية. في الواقع الكلمات تمثل
رموزا للأشياء لأنها تعتبر رموزا للأفكار التي تمثل هي بدورها رموزا للأشياء.غير
أن هذا التصور يبدو غير مقبول من طرف فريجه لأن عناصر اللغة ليست رموزا عن الأشياء
بل عناصر تركيبية وتعبيرات مركبة ولأن دلالة الكلمة تظل في متناول الكل ولا يمكن
أن تفهم كتمثل ذاتي وخاص.
بعد ذلك اضطر فريجه في كتاب "المعنى والمرجع" إلى
التمييز بين معنى العلامةsinn الذي
يمثل مفهوما موضوعياVorstellung
والتمثل الذاتي الذي يرافق استعمال الفكر ويشكل
مرجعهBedeutung والعلامة التي تدل عليه وتعيّنه. لقد رفض مصطلح التمثل واستبدله بمصطلح الدلالة ودافع على
أن فكرة الدلالة كونية وموضوعية وهذا ما يقتضي أن يتطابق الفكر بصورة فعلية مع
الكيان الفكري الواقعي.
غير أن اللغة تحتفظ بصعوبة أخرى حول معرفة مدى مطابقة
البنية النحوية للعبارات مع البنية الواقعية التي تتعلق بما يكون ويحدد الأشياء
كما هي موجودة في العالم. فتنوع اللغات الطبيعية ساهم في نحت كثرة نحوية متنافرة
وأفضى إلى القول بأن تركيب اللغة ليس له مشروعية علمية ولا يصادر بتطابقه مع العالم.
بينما العلم منذ كوندياك 1715-1780 لغة رشيقة بينما
اللغات البشرية هي علوم زائفة مرتبكة وخاطئة على الرغم من أن طريقتنا في التفكير
والاستدلال تتعلق وترتبط باللغة الطبيعية التي نجريها عن طريقها.
على هذا النحو طالب فريجه بضرورة ابتكار لغة مطهرة خالية
من الشوائب من أجل التفكير بشكل جيد في الحقيقة واقترح إقامة لغة أخرى اصطناعية
وصارمة. فهو لم يقتصر على تمثيل منطق مجرد بواسطة صيغ بل التعبير عن محتوى بواسطة
الرموز المكتوبة والرسوم البيانية والأوراق المسطرة بشكل واضح.
هذه اللغة التي نحتها فريجه ليست إلا لغة طبيعية مطهرة
بواسطة القوانين المنطقية الكونية والموضوعية ولقد سعى إلى تأسيس الرياضيات على
قوانين المنطق بتنقية القوانين المنطقية من التباسات اللغة الطبيعية.
لقد تحرك مشروع فريجه ضمن النزعة المنطقية ولقد ساهم
كتابه حول "القوانين الأساسية في علم العدد" في بلورة هذا المشروع
الفلسفي وتأسيس المنطق الرمزي وإحداث انقلاب معرفي شامل في فلسفة اللغة.
لقد ظل عمله فكرة رائدة وسبقا فلسفيا واندلعت حوله
نقاشات كثيرة ومفيدة في العقود الأولى من القرن العشرين مع الوضعية المنطقية
الجديدة عند رسل ووايتهايد وفتغنشتاين وكذلك فنومينولوجيا هوسرل.
لقد اشترك كل من رسل وفتغنشتاين في تحليل الكلام وانفرد
رسل مع رفيقه مور بإجراء نقاش سريع للحجج التي قدمها فريجه وأيد موضوعية الدلالات
والقوانين المنطقية وانخرط في المشروع المنطقي.
لقد كان هدف رسل منذ بداياته فهم العالم على حد الإمكان
والانفصال عن كل معرفة تستند إلى رأي ليس له أساس وتأثر بأفلاطون وفرنسيس برادلي
في كتاب المظهر والواقعة وأظهر تصورا مثاليا شديد الجلاء ولكنه بعد ذلك غيّر
اتجاهه تحت تأثير كل من فريجه ومور والتزم بالمشروع المنطقي لفلسفة الرياضيات.
ألف كتاب مهم بمساعدة وايتهيد هو مبادئ الرياضيات واهتم
بالابستيمولوجيا بشكل عام وبنظرية المعرفة واستخدم المنطق من حيث هو آلة للتفلسف
ووسيلة لتوضيح المشاكل الأساسية وبناء نظرية في المعرفة واعتقد أن الفلسفة بأسرها
منطق وأنه المنهج العلمي في الفلسفة يصلح ليكون أداة التفكير الفلسفي الجديد28[28].
لقد درس رسل نظرية فريجه وكشف عن الشذوذ الذي تعاني منه والتشنج وقد عير عنه وفق
مفارقة منطقية تسمى مفارقة الكذاب الذي أخذها من إقليدس وتفترض كذب جميع الناس
وبالتالي كل من يقول الحقيقة فهو كاذب وكل من يكذب فهو على حق ، ولكنه في مقال
التعيين الذي ألفه سنة 1905 يقترح حلا لهذه المفارقة يرتكز على نظرية الأنماط وذلك
بالتمييز بين عدة مستويات منطقية وبغية تفادي انتماء عدد من العناصر وعدم إحالتها
على بعضها البعض ولذلك ميز بين الإثبات والموضع الذي كان قد تم فيه.
لقد اقترح رسل مصلح ماوراء الكلام Metalangage لكي يتيح بلورة دائمة ومتماسكة للغة المنطقية التي قام فرجيه
بالتعبير عنها صوريا ، وبهذا إن مابعد الكلام قد اتخذ الكلام موضوعا له وصارا
كلاما صوريا.
لقد تمثل مشروع رسل في تعويض اللغة الطبيعية بواسطة
الكلام المنطقي والحقيقي وتفادي الوقوع في المفارقات والمغالطات الناتجة عن وصف
العلاقات المنطقية بواسطة العبارات المأخوذة من اللغة الطبيعية وذلك عن طريق بناء
ما بعد الكلام أو عبر اختراع كلام متعالي عقلاني ومنطقي بصورة تامة ومكتملة. لقد ظهر أمام رسل مشكل جديدا عند نقده اللغة الطبيعية
بصورة عقلانية ولما أوجد تطابق بين العبارات اللغوية والدلالات الموضوعية وانتهى
به الأمر إلى الإقرار بوجود كائنات مثالية بدل العبارات اللغوية. نحن نعتقد بصورة
عادية في وجود كيانات واقعية أكثر من اعتقادنا في وجود أسماء تساعدنا على تعيينها.
لقد تعلقت همة رايل 1900-1976 ببرنامج توضيح الكلام وقد
وفر عرضا كلاسيكيا لهذا الإصلاح لأوهام الكلام في كتابه العبارات المضللة بشكل
نسقي 1932، ونبه إلى أن الموضوع النحو للجملة يمكن ألا يكون موضوعا منطقيا يحيل
إلى موجود واقعي، وبهذا المعنى لا تتطابق مع الكيانات الموجودة بشكل حقيقي كل
الأسماء وعبارات اللغة الطبيعية ، ونفس الأمر كل العبارات المنطقية والرياضية29[29]
، فماذا يوجد حقيقة؟
إن تحليل الكلام يكشف العقد الكامنة بين نحو اللغة
الطبيعية والبنية المنطقية للحقيقة ، ويساعد ذلك المنهج على تحديد الكيانات
الموجودة بشكل واقعي والوعي بالتلازم بين نظرية المعرفة والأنطولوجيا عند رسل.
غير أن الأنطولوجيا عند رسل هي أن تكون الأشياء موجودة
وليست القسم من الفلسفة الذي يدرس الوجود من حيث هو موجود بل تتساءل فقط حول
الحقائق المثالية التي تفيد الكيانات الرياضية والمنطقية والمثل التي نفكر فيها
وتهتم بالموجودات الواقعية التي تتطابق مع جملة من الأسماء والمفردات والعبارات.
لقد قاد المنهج التحليلي الذي اتبعه رسل إلى اقتراح ذرية
منطقية وتصور الحقيقة على أنها متكونة من كائنات فردية ووقائع ذرية ويمكن تجميعها
في قضايا معقدة بالانطلاق من بنيات منطقية يتم استخراجها.
بعد ذلك وجدت فلسفة رسل منزلة كبيرة مع الحلول التي
اقترحها ليدفيغ فتغنشتاين 1889-1951 الذي أيقظت فيه مقابلته لفريجه رغبة البحث في
المشكل الفلسفي حول أساس الرياضيات وجعلته يسجل في جامعة كامبريدج سنة 1911 لكي
يدرس هذا المشكل ويتابع دروس رسل ويتم مشروعه المنطقي في الرسالة المنطقية
الفلسفية التي كانت العمل الوحيد الذي قام بنشره أثناء حياته بين سنة1913-1918.
لقد وضع فتغنشتاين حدا لمشاركته في حلقة فيانا وعمل
مدرسا في جامعة كامبردج منذ 1929 وتأثر بالمناخ الفكري ودشن تغييرا كبيرا في فكره
قاده إلى التخلي عن عدد كبير من أطروحاته التي كان قد أعلن عنها في الرسالة
المنطقية الفلسفية ووضع هذه التصورات الجديدة في "الدفتر الرمادي والدفتر
الأزرق" بين 1933 و1935 وفي "الأبحاث الفلسفية" بين 1936 و1939 أين
شكك في الأولوية التي منحها للكلام المنطقي المثالي وحمله على التخلي عن النزعة
المنطقية نحو الاهتمام بفلسفة الكلام العادي.
يتكون العالم حسب فتغنشتاين من مجموعة من الوقائع التي
يمكن تقسيمها إلى عناصر بسيطة تسمى حالات الأشياء وبالتوازي يتكون الفكر الذي
يرتبط بشكل وثيق باللغة من قضايا معقدة يمكن تحليها وتقسيمها هي بدورها إلى مجموعة
من القضايا البسيطة ، ولقد حامت أطروحته حول وجود شيء مشترك بين بنية الجملة وبنية
الحقيقة التي تقوم الجملة بتعيينها وبالتالي كل توكيد حول العالم هو صورة أو إطار
يمثل العالم والتطابق بين القضية والواقعة يمكن التعبير عنه بواسطة مصطلح الشكل
المنطقي الذي يسمح بعكس بنية الواقعة في بنية القضية وبالتالي تتحول الجملة إلى
بطاقة تتطابق فيها الرموز والمقاييس والمسافات مع وفرة المدن في الحقيقة. هذا
الشكل المشترك بين البطاقة والواقع هو الشكل المنطقي30[30].
لا تتوقف الحقيقة على تمثلها اللساني وإنما توجد عند
فتغنشتاين بنية مشتركة بين الحقيقة وعبارتها اللغوية والجملة التي تقول بأن أرسطو
هو تلميذ أفلاطون تبلور علاقة بين اسمين
تحيل إلى علاقة بين شخصين.
إن الحقيقة هي معكوسة هندسيا في اللغة مثلما تقول بذلك
صورة البطاقة لكن الإسقاط نفسه أو التطابق لا يمكن قوله في أي قول وذلك لأن هاته
المهمة تقتضي أن يكون المرء قادرا على الخروج من اللغة والعالم.
لقد استعاد فتغنشتاين مصطلح مابعد الكلامmeta-langage من حيث هو امكانية للتموضع
الخارجي عن الكلام حينما صرح قوله الشهير : "ما
لا يمكن قوله ينبغي إسكاته" ، ورأى بأن المنهج البديل هو لا يقال شيء أو على
الأقل ما يمكن قوله أي قضايا علوم الطبيعة، وهو أمر لا يستقيم مع الأقوال الفسلفية
ولا يتفق مع العبارات الميتافيزيقية، لا يحمل دلالة في كل مرة يتم تبيانها في بعض
علامات داخل قضايا31[31]
. بهذا المعنى أخضع فتغنشتاين المفاهيم الأساسية
في الفلسفة للتوضيح بواسطة تحليل الكلام ولكنه رفض التأسيس المتعالي للكلام الاصطناعي الذي يظل متطابقا
بشكل كامل مع الواقع واختزل مزاعم الفلسفة نفسها في المعرفة وجعلها تقتصر على أن
تكون مجرد فعالية نقدية للغة وتوضيح منطقي للفكر بقوله في المقالة المنطقية
الفلسفية: "أن الفلسفة هي الصراع ضد فتنة الذهن بواسطة الوسائل التي
لكلامنا".
لقد ربط فتغنشتاين في كتابه "أبحاث فلسفية"
ألعاب الكلام بصور الحياة وأحدث بذلك منعطفا منهجيا وتغييرا في الفلسفة وجعلها
تنفتح على الأحداث وتدرس تجارب يومية كانت تعتبر تافهة وفاقدة للمعنى وتتصف
بالبساطة والعفوية على غرار ثرثرة الأطفال وترجمة لغة في لغة أخرى والألعاب
المسرحية. لم يعد فتغنشتاين يتحرك حول
تحليل القضايا المنطقية الدالة وتركيب خطاب بصفة نهائية بالاعتماد على مكونات
بسيطة معطاة بشكل تام بل أدرج ألعاب الكلام داخل سياق ضمن مناسبات متنوعة ومتعددة32[32].
تكمن أهمية الإضافة الفلسفية التي قدمها فتغنشتاين في
نقده للنزعة المنطقية ومنحه فائدة كبيرة للسياق عند التطرق لمسألة العبارة والتلفظ
وتنصيصه الكبير على الاستعمال في علاقة بالكلام وجعل الكلمات أدوات.
والحق أن مشروع فتغنشتاين ظل غير مكتمل وناقصا من العديد
من الجوانب وبقيت تحوم حوله العديد من نقاط الاشتباه ويتضمن الكثير من الالتباسات
والمفارقات ويتنزل ضمن الجهود التي بذلها كل من فريجه ورسل ووايتهايد حول تأسيس
الرياضيات على قوانين منطقية كونية سواء عبر علم العدد أو علم الهندسة.
لقد عصفت رياح الهندسة اللاإقليدية ببديهيات المنطق
ثنائي التكافؤ وساندها كل من براور1881-1966 وبوانكاريه 1854- 1912 في كتبه العلم
والفرضية وقيمة العلم ومقياس الزمن ووهلبرت1862-1943 بطرحه سنة 1899النسق الفرضي
الاستنتاجي فيما يتعلق بالنزعة المنطقية في كتابه مبادئ الهندسة. لقد أصبح الاستدلال الرياضي يرتكز على الأوليات أي
القضايا التي لم يتم البرهنة عليها ولكن يقع التسليم بصحتها في البداية من أجل
القيام بالاستدلال وقد ترتب عن ذلك تحول اليقين الرياضي إلى يقين صوري وفرضي استنتاجي
واشتغال الرياضيات على الروابط المنطقية والتماسك المنطقي ولم تبحث عن التطابق مع
الواقع وبالتالي استحال مع غودل 1906 -1978 البرهنة على إمكانية تأسيس نسق منطقي
تام وثابت.
لقد تمكن غودل صحبة نافل ونيمان سنة 1931 من صياغة
مبرهنتين حاسمتين تتعلقان بأساس الرياضيات وذلك بمحاولة ارجاعها كل الخصائص
والمبرهنات الرياضية الى قضايا أساسية
تسمى أوليات وجعلها مجموعا استنتاجيا تاما ومتساوقا أي يخلو من أي تناقض
بين عناصره ومكوناته. غير أن غودل برهن على استحالة تحقيق هذا الحلم بالبرهنة على
تعثر عملية الصياغة الصورية وعدم قابلية الأكسمة للاكتمال بقوله: " يمكن
البرهنة بدقة على أنه داخل كل نسق صوري متساوق توجد قيا عدد غي محددة وبالتالي
يتعذر علينا البرهنة على اتساق نسق من داخل النسق". بعبارة أخرى توجد داخل
نسق رياضي أو نسق منطقي تمت صياغته صوريا
وأكسمته جملة من القضايا لا تقبل بأن نتخلص منها مجموعة من الأوليات.
هكذا تبدو الرياضيات علما غير متساوق وغير مكتمل ويعاني
نموذجه العقلاني من الوقوع في الخطأ، وربما الدرس المستفاد من هذه الثورة هو
مراجعة المزاعم العلموية للنزعة المنطقية وذلك للنقائص التي تعاني منها في التطبيق
وللهشاشة النظرية بالنظر إلى عدم توفر الحجج الكافية وعدم اكتمال البرهنة عليها.
انطلق معظم المناطقة من التقابل الكانطي بين القضايا
التحليلية والقضايا التأليفية وبين صدق العقل وصدق الواقع واستثمروا خاصة القضايا
التحليلية القبلية التي لا ترتبط بأي تجربة ويتوصل اليها كل من يعرف اللغة ، ولقد
رأى كارناب 1891-1970أن القضايا التحليلية ضرورية صادقة بمقتضى لغتنا وأكد
على أن المعرفة الإنسانية تنقسم إما قبلية تحليلية مثل الرياضيات والمنطق وإما
بعدية تجريبية مثل الفيزياء33[33]. "هكذا ستتمكن النزعة التجريبية لكارناب
أو التجريبية المنطقية من الحفاظ على فكرة التركيب المنطقي الكلي بوصفه معرفة
قبلية وضرورية، إلى جانب معرفة تجريبية تتميز بقابليتها الكبيرة للخطأ"34[34]. لقد هاجم كواين هذه الثنائية التي ترتكز على عقيدة
التمييز بين التحليلي والتأليفي35[35] ودعا إلى التراجع عن هذا التمييز بين حقائق العقل
وحقائق الواقع لغياب المعيار وتفاديا الوقوع في التعريف الدائري36[36].
لقد أصبحت الفلسفة التحليلية مع كواين تبديدا للغموض وإزالة
لكل أشكال سوء الفهم واستبعاد السياق المبهم ورفع الالتباس ونزعة الأسطرة عن
الدلالة واستبعاد التفسير المفهومي وإعلان فشل النزعة الاستغراقية الشاملة وتدعم
مفهوما علميا للدلالة وفيزياء المعنى يمكن مراقبته وشرحه بعبارات سلوكية.
غني عن البيان أن الطموح الإصلاحي للنظرية قد دفع "كواين
نحو موقف الحد الأدنى الأبستيمولوجي والأنطولوجي، مهما كان القطاع الذي يمارس فيه
تحليله. ومن هنا تعلقه بالسلوكية في شأن نظرية اللغة، والاستغراقية الماصدقية في
خصوص النظرية المنطقية، والنظرية الفيزيائية في ما يتعلق بالعلم."37[37]
لقد أتاح نقد النزعة المنطقية قيام الفلسفة التحليلية
التي طرحت فهما جديدا للغة أثر بشكل كبير على الفلسفة المعاصرة وترتب عنه إعادة
النظر في الحركات التي يقوم بها الفكر في علاقة بالاعتقاد والتصور والفهم ودفع إلى
تطوير جملة من القضايا والمشكلات الأساسية التي تدور حول علاقة الوعي بالمعنى
واليقين بالواقع والقصدية بالسياق والإدراك بالإشارة والدلالة بالمرجع والطابع
الاجتماعي للغة والميزة الفردية للاعتقاد ومدونة الكلام وفك شفرته وتحقيق تواصلية
الفكر والقدرات في التجربة اللغوية نظرا وعملا. في هذا السياق تم إثارة خصائص هذا النمط الجديد من التفلسف، و"ما
يميز الفلسفة التحليلية في مختلف أبعادها عن التيارات الفلسفية الأخرى هو في
المقام الأول القناعة بأن تحليل فلسفي للكلام يمكن أن يقود إلى تفسير فلسفي للفكر،
وفي مقام ثان القناعة بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لبلوغ تفسير شامل"38[38]. فما المقصود
بالفلسفة اللغة المتداولة؟ وكيف أسهمت في تطور فلسفة الفعل وتأثرها بالتصور
البراغماتي؟
تبعات فلسفة
الكلام العادي:
لماذا العودة إلى الكلام العادي وترك اللغة الفلسفية
التي تهتم بالمفاهيم الدقيقة والمصطلحات الواضحة؟
لقد اقترح فتغنشتاين بلورة نحو فلسفي خارج إطار النظرة
المعيارية التي تتحكم في جملة الاستعمالات المشروعة للكلام وتترك الأشياء في
حالاتها ضمن صيغها الطبيعية وحاول إيجاد نحو وصفي يلاحظ الشروط الفعلية لاستعمال
للعبارات اللغوية ويعتبرها ضمن طرق تضامنها مع تجارب البشر في العالم.
لقد عبر مصطلح ألعاب الكلام عن هذا التوجه البراغماتي
الجديد للغة الذي ينفتح على الوصف والانجاز ويرفض التعامل مع الكلام بوصفه وظيفة
ويحيل الدلالة إلى استعمالات القوى الفاعلة في مختلف أحداثها.
يجدر تفضيل واعتبار التآزر بين الدلالة اللغوية ومجموع
التصرفات وجملة الممارسات التي ارتبطت بها وهذا التنصيص على السياق الذي يندرج
ضمنه الكلام الذي يتيح إمكانية خلع استعمال العبارة عن سياقها بشكل نسقي منظم
والاعتراف بتعدد ألعاب الكلام الذي يحيل إلى تماثل الألعاب المتنوعة يفترض أيضا
التوقف عن البحث عن وظيفة واحدة للكلام وعن أساس متعال للغة وهوية أصلية وجوهر
فارق للخطاب.
من جهة أخرى إن الكلام أثناء الألعاب هو فعل القواعد
التي يخضع لها اللاعبون المتكلمون والتي تمثل شروط الاستعمال ووضعيات اللعب وتحدد
طرق الدخول والخروج وأشكال إنتاج المعنى والإحالة والفهم.
تتميز العاب الكلام بأنها ألعاب تجري في الحياة اليومية
بصورة عادية ويتم توجهيها والتحكم فيها بصورة مشتركة وتنغرس في صور الحياة
الطبيعية وتترجم تجربة التكلم مع العالم والقيام بجملة من الأفعال فيه.
يكون الكلام العادي مهما من ناحيتين:" في البداية
لأنه الأساس الذي من خلاله تتكون اللغة التقنية. يبقى الكلام العادي الأساس
المفهومي لكل بحث وكل فعالية للتقديم والتفسير للحدود المختصة. بعد ذلك يمكن
اعتبار الكلام العادي العاكس لتجربة جماعة لغوية بكليتها وقابل لتعليمنا شيء ما عن
العالم"40[40].
لا ينتمي الكلام من الناحية التجريبية إلى إحساسات خاصة
مثل الإحساس بالآلام وإدراك الألوان ولا يعمل على إعادة بناء التجارب اللغوية
المتعالية والأناوحدية التي تضع العالم الحياة المعيشة بين معقفين وإنما يقطع مع
فرضية الكلام الخاص ويعتمد على اللغة المشتركة والكلام المتداول في التجربة
اليومية للناس.
والآية على ذلك أن اقتصار الكلام على اللغة الخاصة وربط
مع الكلمة بالحالات الخاصة التي يعيشها الفرد يفضي إلى فشل التواصل مع الغير لغياب
الضمانات التي توفر الأرضية المشتركة لتقاسم المعنى والتفاهم.
من هذا المنطلق لا يستند لعب الكلام على أساس وانه ليس
معقولا ولا يمكن عقله، انه هناك مثل حياتنا. لقد "فهم الكثيرون أن لودفيغ
فتغنشتاين ، وهو أهم فيلسوف في القرن العشرين، أراد أن يوضح أن الخطاب الذي نتفوه
به هو سلسلة من الألعاب اللغوية غير القابلة للترجمة تبادليا، التي لا يمكن التأكد
منها. ونحن لسنا منخرطين في لعبة كبيرة واحدة، توجد فيها معايير كلية للمعقولية،
ويمكن لكل شخص أن يتعقل كل شيء، بل في سلسلة من الألعاب اللغوية الأصغر لكل منها
معاييرها الداخلية في المعقولية"41[41].
لكن لماذا تم الانتقال في فلسفة اللغة من ألعاب الكلام إلى
أفعال الخطاب؟ ماهي الدواعي والأغراض؟
يعتبر جان
أوستين 1911-1960 الممثل الرئيسي لفلسفة الكلام العادي والذي صعد إلى كرسي الفلسفة
بجامعة أكسفورد بعد طباعة كتاب أن أقول هو أن أفعل سنة 1952 والذي بلور فيه نظرية
أفعال الخطاب.
لقد شكك جون أوستين في الحكم المسبق الذي يختزل العبارات
في إثباتات وتوكيدات فقط تكون صحيحة آو خاطئة والتي تدعي أنها قادرة على وصف
وتعيين حالة من الأشياء وتسجيل حدث من أحداث الواقع.
إن عدد كبير من الجمل التي يقوم المتكلم بتركيبها ليست
لا صحيحة ولا خاطئة ورغم ذلك تنتج معنى وخاصة عندما تقدم الاحترام لغيرك وتبادله
التحية والإعجاب وتوجه له دعوة وهي كلها أفعال خطاب. كما تتعلق هذه الأفعال
القولية بالشكوى والأمر والتمني والطلب وتقتضي استعمال الخطاب في اتجاه العمل ويفصل
بين الجمل التقريرية والجمل الانجازية والتمييز بين العبارات الوصفية والعبارات
الأمرية42[42].
هكذا تكون صياغة قول وتشكيل خطاب بمثابة القيام بفعل
والانخراط في تجربة ميدانية واتمام عمل معين وذلك لأن القول في الملفوظات
الانجازية هو تحريض على الفعل الملموس وطلب للقيام بممارسة ميدانية.
يعترف أوستين بأن الحد الذي يفصل بين الجمل التقريرية
والجمل الانجازية غامض وغير واضح ويعطي مثالا على ذلك يتمثل في الجملة التي تخبرنا
بترك الحصة مفتوحة وهي قول يفيد المعنيين في ذات الوقت. لقد دعم أوستين التطابق بين الكلام والواقعة وظل
وفيا لتصور واقعي للحقيقة يتأسس على الاتفاق بين القضية والفعل الذي تحدثه في
الواقع وأكد كذلك على أهمية العناصر التداولية في الكلام وأفعال الخطاب. لقد صارت
الدلالة مرتبطة بالاستعمال وأضحى المعنى متأثرا بالإطار العام الذي يندرج ضمنه
الخطاب.
هكذا اكتشف أوستين بأن جميع العبارات هي أفعال وجميع
الأفعال يمكن تشكيلها عن طريق الكلمات ورتب أفعال الخطاب في ثلاث مقولات: أفعال
تقريرية تكتفي بقول حدوث شيء معين ووصف ظاهرة وأفعال غير تقريرية تكتمل بقول شيء
معين وأفعال إنجازية تكتمل بفعل أمر معين والقيام بممارسة ما.
أما جون سيرل43[43]
فقد حاول الانتقال من أفعال الخطاب إلى فلسفة الذهن طارحا الأسئلة التالية: بأي
شكل ترتبط الكلمات بالواقع؟ كيف نقوم بالأفعال عبر تلفظنا بالعبارات؟ وبماذا نميز
التأسيس عن التنظيم؟
تشير أطروحة سيرل حول الأفعال اللفظية إلى الإنسان يقوم
بالأفعال عندما يحترم قواعد اللغة التي يتكلمها ويفرق بين القواعد التنظيمية
والقواعد التأسيسية وأن أخذ المعنى على محمل الجد لا يكون إلا بتحليله وفهمه والتمييز
بين القوة اللاذعة والمضمون المقترح وبين الفعل التصادمي والفعل القصدي44[44].
لقد أقر سيرل بأن كل جملة تنقسم إلى ثلاثة مكونات أساسية
هي: المتكلم الذي يقوم بالفعل والمعنى الذي يقصده بقوله والجمهور المتلقي الذي
يتوجه إليه بالكلام في الجانب المقابل، وتفطن إلى أن الجملة تتكون من عدة قواعد
تنظيمية تستوجب على المتكلم أن يحترمها لكي يؤدي عبارات دالة ويقوم بتصرفات ذات
معنى ويقترح سيرل المرور من الكلمة إلى العالم ليس عبر التطابق بين الأفعال اللفظية
والواقع وإنما عن طريق التفريق في التصرفات التي ترافق الكلام بين التصرفات
الوهمية النموذجية الواعدة والتصرفات ذات المعنى وفي الحيل بين الاتجاه الصفري
الملائم وأعمال التخويف من خلال شروط الموافقة45[45].
لقد سبق لجون سيرل أن قام بالتمييز بين فعل مقامي وحاصل
في القول وفعل يتطلب انجاز وتحقيق وبين
أفعال الخطاب المباشرة وأفعال الخطاب غير المباشرة وعمل على تنظيم أفعال الخطاب
وفق أقسام كبرى هي الخطاب التقريري والخطاب التوجيهي والخطاب الواعد والخطاب
التعبيري والخطاب التوكيدي. تكمن طرافة عمله في التوجه من فلسفة اللغة الى فلسفة
الفعل وبعد ذلك الانتقال إلى فلسفة الذهن وتطوير وجهة نظر فلسفية متكاملة تعترض
على النظرة الاختزالية التي وقعت في العلوم العرفانية وتطويرها.
بناء على ذلك اشتغل تحليل المعتقدات والرغبات والمقاصد
التي تخص الأفراد والمجتمعات وحاول البرهنة على أن الوعي والقصدية واللغة هي ملكات
طبيعية موجودة في الدماغ وأن أفعال الخطاب هي تعبير عن حالات قصدية للذهن وأن
النظام هو رغبة وأن الوعد يظل محكوما بالقصد من الفعل البشري. كما أن المعنى
اللغوي يرتكز على خلفية في نفس الوقت بيولوجية واجتماعية وتشتغل ضمن قصد القول
ورفض وجود عناصر متكلة في الوعي كما تقول العلوم العرفانية في مقاربتها الاختزالية
وفتح الدروب نحو تصور جديد للذهن عن طريق تشغيل العلاقة الديناميكية بين الذهن
واللغة من خلال فعل الخطاب.
لقد طرح سيرل الأسئلة التالية : هل هناك أي تسويغ للواقع
الخارجي؟ كيف توجد الأشياء فعلا؟ وكيف يتلاءم الشعور مع العالم؟ كيف
يفكر المرء بأي نوع من التفاعل السببي بينهما؟ وكيف يعمل العقل؟ كيف يخلق العقل
واقعا اجتماعيا موضوعيا؟ وكيف تعمل اللغة ؟،
ومتى يصبح الكلام نوعا من الفعل الإنساني؟
خاتمة :
" كي تولد فلسفة اللغة كما نعرفها اليوم وجب تضافر
ثلاثة شروط: الأول، أن يطرح سؤال اللغة والدلالة مجددا على نحو جذري، والثاني، أن
يطرح في عبارات جديدة أو حسب متطلبات جديدة، والثالث، أن يرتدي طابع الإلحاح المحض
بحيث يحشد مفكرين من آفاق مختلفة حول المشكلة نفسها"46[46]
في الختام لقد جانب الكثير الصواب حينما أدعوا أن فلسفة
اللغة تملك تاريخا خاصا بها خارج إطار السياق العام لتاريخ الفلسفة وعرفت تغيرات
عميقة بعيدا عن التغيرات التي عرفتها جل الأنساق الفلسفية الأخرى.
لقد ارتبطت فلسفة اللغة بتاريخ المنطق وعلوم اللسان وفلسفة
الذهن والفلسفة التحليلية وفلسفة الفعل ولكنها تطورت بصورة ملحوظة مع الوضعية
المنطقية الجديدة وخاصة فلسفة التحليل عند برتراند رسل ونظرية الأوصاف المعروفة
والذرية المنطقية ونقد الميتافيزيقا مع فتغنشتاين وأشكال الحياة وألعاب الكلام
وفلسفة الكلام العادي ، ثم دعمت مع التحليل المفهومي عند ريل ومنطق العبارات في
الميتافيزيقا الوصفية عند ستراوزن ونقده الشهير للتحليل المنطقي للغة وكذلك مع
أوستين في نظريته حول أفعال الخطاب وتمييزه بين التقريري والانجازي ومع كواين في
التحديد الكمي ومعايير الالتزام الأنطولوجي التي اقترحها ومع س. كريبك47[47]
في نظرية الاسم الخاص والعوالم الممكنة وربطه علم الدلالة الصوري بالأنطولوجيا.
لقد جسد المشروع المنطقي التناول الأصيل الذي قام به
التأسيس الفلسفي للحقيقة بالذهاب إلى نقاط أبعد من التقاطعات بين البناءات
المنطقية للتفاصيل والجزئيات من الوقائع والأحداث التي يتكون منها العالم. لقد كشف
كل من فريجه ورسب عن أوهام الكلام الدارج وعن غياب الدقة عند استعمال اللغة
الطبيعية في أهداف علمية وتم التعويل على القوة التوكيدية التي تتميز بها حقيقة
أفكارنا وتساوق القضايا المنطقية.
لقد كان من الأجدى بالنسبة للفلسفة المعاصرة أن تعثر على
منطق متعدد المعاني ومركب الأنساق بدل أن تضيع جهودها في ترميم المنطق الكلاسيكي
وتعمل على إحيائه ضمن دائرة العلاقة والإحالة والتعيين.
لقد تولدت الفلسفة التحليلية في خضم هذه الحركية التي
أوجدها التحليل المنطقي المعاصر حينما أنزل
الدلالة في قلب الفهم وتعمّق في تدبير الأبعاد الثلاثة للكلام أي الأبعاد
التركيبية والدلالية والتداولية وانتهى به الأمر إلى تكوين منهج جديد للتوضيح
والإبانة والكشف والإفصاح عن القضايا والمشكلات الفلسفية.
يوضح جون سيرل مشكل كيفية ارتباط اللغة بالواقع على النحو
التالي:" ترتبط اللغة بالواقع بفضل المعنى ، لكن المعنى هو خاصية تحول
المنطوقات المجردة إلى أفعال تمريرية ، والأفعال التمريرية ذات معنى بدلالة خاصة
جدا للكلمة، وهذا النمط من المعنوية هو الذي يمكن اللغة من الارتباط
بالواقع"48[48].
بعد ذلك قامت فلسفة الكلام العادي بتجديد المنظور
التحليلي عندما ذهبت في اتجاه استخلاص الرهانات السياسية والاجتماعية والأخلاقية
التي يحملها الخطاب والدور الذي يلعبه في مستوى إدراك العالم وانتبهت إلى أن
الخطاب أضحى في قلب المشكلات الفلسفية بحيث تحول إلى نواة الفكر ذاته49[49].
من الضروري أن يتوصل المتحمسون للأولية الأساسية للفلسفة
التحليلية إلى قرار حول النموذج المطلوب الذي يتلاءم مع مفاهيم الدلالة والفهم وأن
يعيد بناء الواقعة الاجتماعية على ضوء نظرية اللغة50[50].
لكن ماهي التبعات التي حصلت على الصعيد الايتيقي بعد المراجعات الجذرية التي قامت
بها فلسفة اللغة؟
الإحالات والهوامش:
كاتب فلسفي
[1] أورو سيلفان، فلسفة اللغة، ترجمة عبد
الحميد جحفة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة أولى، 2009، ص09.
[2]
Voir Platon, Cratyle, édition Flammarion, collection GF, Paris, 1998,
[3]
Jean Brun, les stoïcismes, édition PUF, Paris, 1958. Ecole philosophique
fondée par Zénon de Kition en 301 Av.
J,-C.
[4] دي سوسير فردينان، علم اللغة العام،
ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية، بغداد، العراق، طبعة 1985، ص28.
[5]
Guillaume d’ochham, 1285-1347
[6]
Duns Scot, 1265-1308,
[7]
Antoine Arnauld et Pierre Nicole, la logique ou l’art de penser, 1662,
réédition Gallimard BnF, 2016.
[8]
Martine Pécharman, les mots, les idées, la représentation, genèse de la
définition du signe dans la logique de Port-Royal, Methodos en ligne , N°16,
2016.
[9]
Wilhelm von Humboldt, sur le caractère
national des langues et autres écrits sur le langage, édition seuil, Paris,
2000.
[10]
Voir Wilhelm von Humboldt, sur le
caractère national des langues et autres écrits sur le langage, édition
seuil, Paris, 2000.
[11]
Ferdinand de Saussure, cours de
linguistique générale, 1916, réédition Payot, 2016.
[12]
Roman Jakobson, Essais de linguistique générale, 2t, 1963 et 1973,
réédition, Minuit, Paris, 2003.
[13]
Derrida Jacques, de la grammatologie, édition, Minuit, Paris, 1967.
[14]
Phonologie
[15]
André Martinet, éléments de linguistique générale, édition Armand Colin, Paris,
1960.
[16]
André Martinet, fonction et dynamique des langues, édition Armand Colin, Paris,
1989.
[17]Emile
Benveniste, Problèmes de linguistique générale, édition Gallimard,
Paris, 1966.
[18]
Roland Barthes, système de la mode, éditions du seuil,
Paris, 1967.
[20]
Noam Chomsky, la linguistique cartésienne, édition du seuil, Paris,
1969.
[21]
Noam Chomsky, Réflexion sur le langage, édition Flammarion, Paris, 1997.
[23]
Charles S. Peirce, 1885-1911, Ecrits sur le signe, édition du seuil, 1978.
[24] أمبرتو
إيكو، السيميائية وفلسفة اللغة،1984، ترجمة أحمد الصمعي، المنظمة العربية
للترجمة، بيروت، 2005.
[25] أيريك غريلو، فلسفة اللغة، ترجمة عفيف
عثمان، دار المعارف الحكمية، بيروت ، لبنان، الطبعة الأولى، 2018، ص16.
[27]
Voir Gottlob Frege, idéographie 1879, les
lois fondamentales de l’arithmétique 1903.
[28]
Bertrand Russell, histoires des mes idées philosophiques, 1959, édition
Gallimard, Paris, 1988.
[29]
Ryle, Expressions systematiquement
trompeuses 1932.
[32]
Rossi Jean-Gerard, la philosophie
analytique, édition PUF, Paris, 1989,pp.59-60.
[33]
Rudolf Carnap, la construction logique
du monde, edition Vrin, Paris, 2001.
[38]
Michael Dummett, les origines de la
philosophie analytique, édition Gallimard, Paris, 1991.p13
[39]
Voir Wittgenstein Ludwig , Investigations
philosophiques, 1936-1939, édition Gallimard, Paris, 2001.
[41] جون سيرل، العقل واللغة والمجتمع ، الفلسفة
في العالم الواقعي، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدار
البيضاء، طبعة أولى، 2006، ص14
[42]
Voir Austin John, Quand dire c’est
faire, 1952, édition du seuil, Paris, 1991.
[43]
John Searle, les actes de langage. Essai de philosophie du langage,
1972, réédition Hermann, Paris, 2009.
[44]
John Searle, l’Intentionnalité, édition du Minuit, Paris, 1985.
[47]
Kripke S, la logique du nom propre, édition de Minuit, Paris, 1982.
[50]
Michael Dummett, les origines de la
philosophie analytique, op.cit.p176.
0 تعليقات