الحب أعزك الله أوله هزل وآخره جد" ابن حزم/ طوق الحمامة
د. زهير الخويلدي / كاتب فلسفي
الشباب مريض بالحب هذه الأيام والسبب
هو انتصار فلسفة الجسد على فلسفة الروح وتغلب حب الدنيا على التحضير للآخرة وتفضيل
المراهقين الحركة والإيقاع والاستهلاك وقتل الوقت على البذل والجد وطلب العلم والإعداد
للمستقبل عن طريق الاهتمام بالرياضة والفنون والمطالعة والاستفادة من خبرات الذين سبقوهم
في الحياة. شبابنا اليوم ليس له دين سوى الحب والاهتمام بالرغبة العاطفية والمتعة الحسية
والسعادة المادية وتناسوا أن الدين الحقيقي هو دين العقل وأن رغبة الإنسان في الوجود
الأرقى لا تضاهيها أية رغبة وأن السعادة القصوى ليس في استكمال الملذات بل في تحقيق
الذات.
البعض من علماء الاجتماع وعلماء النفس
لا يلومون شبابنا لأنه ضحية الدعاية والإشهار والدمغجة
والبروباغاندا ولأنه يعيش عصر الصورة
والثورة الرقمية والإنترنت والهاتف المحمول فماذا يا تراه فاعل مع وجود كل هذه الآلات
ويعاني الفراغ الروحي وانسداد الآفاق وتخلف نظم التعليم وندرة مواطن التشغيل وغياب
التأطير والإرشاد نحو المقاصد الإنسانية النبيلة.
الشباب يريد صور وبطاقات وباقات ورود
ويستهلك صور وتهاني وكلام جميل ، انه ينهض على الصور وينام على الصور، فكيف لا يقبل
على الورود ولا يرسل بطاقات تهاني في عيد الشباب والفرح والبهجة ولا يحول وجوده نفسه
إلى صور معدة للإرسال وقابلة للاستهلاك وكيف لا يطلب من الآخر أن يبرز له من خلال المرئيات
من أجل الفرجة والمشاهدة والانفراج والشهادة.
شبابنا يحب هذه الأيام بعمق وهو يريد
أن يحتفل بعيد الحب بقوة ويرفض كل القيود والموانع التي يمكن أن تفرض عليه سواء بسم
القومية أو الدين أو عادات المجتمع وتقاليده، فهي في نظره تدخل ضمن أساطير الأولين
وضمن الخرافات والأوهام التي ينبغي رميها في زبالة التاريخ. الحب في حد ذاتها ليس عيب
لكونه عاطفة نبيلة يعبر بها الانسان عما يجيش في فؤاده من مشاعر جياشة تجاه طرفه الآخر
ولكن المشكل في السياق التاريخي والثقافي الذي يحتفل فيه شبابنا بالحب يوم في كل سنة،
انه سياق معولم يعبر عن هيمنة نموذج ثقافي معين على الثقافات الأخرى وشبابنا عندما
يشارك هذه الثقافة في الاحتفال بعيد الحب إنما يكرس هذه الهيمنة ويجعلها أمرا مطلوبا
ومشروعا.
البعض من الهوويين يعتبرون الاحتفال
بعيد الحب ترسيخ التبعية للغرب وتأكيد حالة الاغتراب والضياع الحضاري التي تعاني منها
شعوبنا وهو تجسيم لحالة المحاكاة والتقليد السائدة اليوم ولكن البعض الآخر يرى في ذلك
نوع من التقدم والتعبير عن مواكبة العصر ومعانقة روح الحداثة والتمدن وينظرون الى ضرورة
الاحتفال بهذا العيد لأن الحب قيمة إنسانية كبرى يجب أن نشعر بها تجاه الأخر وتجاه
الوطن والله والوالدين وجميع الناس وتجاه الحياة بصفة عامة أي يجب أن نحب لكي نحيا
ويجب أن نحيا ككائنات محبة ودون حب لا توجد حياة أو دون حب توجد حياة فاقدة للمعنى
فالحب هو معنى وجود الانسان في العالم. ليس العيب في أن يكون هناك عيد للحب بل العيب
هو ألا يكون الى حد الآن عندنا عيد للحب لأننا حضارة دنيا ودين حضارة وهوية متفتحة
ولغة شعرية وعاطفية جياشة.
الإعلان عن تخصيص يوم 14 فيفري من
كل عام للاحتفال بعيد الحب من طرف جميع دول العلم واستعمال قصة يلتقي فيها الديني بالخيالي
والأسطوري هو إجراء إيديولوجي غربي بامتياز يكرس انتصار العولمة الاختراقية الظالمة
على العالمية العادلة المنشودة ويترجم رغبة الحضارة الغربية المنبنية على تحالف يميني
بين المسيحية المحرفة واليهودية المتصهينة – والمسيحية الوطنية الشرقية واليهودية الأصلية
براء منهما- في أن تفرض نموذجها الثقافي على المجتمعات والدول الأخرى بالقوة والدعاية
والإعلام والإشهار واستعمال حيل السياسة والاقتصاد والفن.
لا يخفى على أحد أن حضارة اقرأ قد
عظمت الحب وقدسته منذ ينابيعها الأولى وخاصة في الفترة العربية قبل مجيء الإسلام حيث
شهدت مؤسسة الشعر بروز ثنائيات رهيبة في عالم العشق والجمال والوفاء والإخلاص للقيم
العذرية مثل كثير وعزة وجميل وبثينة ومجنون ليلي ووصل الأمر بالعرب الى درجة التقديس
والأسطرة عندما نصب تمثالين لعشيقين هما أساف ونائلة وتحولا الى الهين يعبد العرب الروحين
الخالصتين الحالتين فيهما. وقد تواصل الأمر على نفس المنوال بعد ذلك وانعقدت أواصر
التواشج بين الحب والإيمان والأخوة التي كانت تجمع المؤمنين في الجماعة الأولى وانتصر
حبهم لله ولرسالتهم ولنبيهم ولبعضهم البعض ثم تحولت هذه المشاعر الصادقة نحو الآخر
والعالم فانتشرت قيم الصداقة والاثيار وحسن الضيافة والكرم وبرزت على السطح مجددا أدبيات
عن الغزل وإرادة الحياة في فترات الازدهار والرخاء المادي وتغنى العرب مبكرا بالمرأة
وجمال الطبيعة والقمر والصحراء والبحر والليل واشتهر بشار ابن برد وأبو نواس وعمر ابن
أبي ربيعة والأخطل وبرزت زرياب في الموسيقى والغناء والموشحات الأندلسية وكل أجناس
الأشعار والسرديات الدافئة والرقيقة في ألف ليلة وليلة أو في الأغاني والطبقات بل إن
الأمر قد إلى حد الاعتلاء بقيمة الحب نحو صارية التصوف ودارت قصائد المتصوفة وعباراتهم
وشطحاتهم حول الحب البشري لله والحب الإلهي للبشر وبرز ابن الفارض والحلاج ورابعة العدوية
ككاهنة للحب المقدس الروحاني بعد أن سئمت من حب الدنيا وحياة المتعة الجسدانية الفانية
وكانت لهم تجارب وجدانية راقية في مجال العاطفة القرآنية والإحساس الوجودي النبيل بحيث
أطلقوا العنان لأصدق المشاعر الانسانية لكي تعبر عن نفسها في مهرجان وجودي منقطع النظر
يعبر عن بلوغهم درجة الكونية ومعانقتهم للمطلق في حلة الخصوصية.
ان المطلوب اليوم هو نزع الأسطرة عن
ما يروج وما يشاع في الإعلام والدعاية عن عيد الحب الذي أراد الغرب من العالم أن يحتفل
به معه وهذه الإرادة فيها الكثير من حب الهيمنة والرغبة في السيطرة الساعية الى الظفر
بقلوب الفئة الشابة وغسل العقول مبكرا، وان ما ينبغي القيام به هو تقليب الأمور على
جميع جوانبها وفهم ما يحدث حتى لا ننخدع وتنطلي علينا الحيل لأنه توجد سلطة وراء كل
معرفة وتوجد رهبة وراء كل رغبة فمثل ما تكون للثقافات الأخرى مناسبات وأعياد للفرح
بالحياة لنا أيضا مناسبات وأعياد للإقبال على الوجود مثلهم وقد كان معمول بها في الماضي
ومثلما يطلب منا أن نشاركهم نطلب منه أيضا وبكل لطف أن يشاركننا خصوصياتنا في تدبر
عواطفنا ومشاعرنا والتعبير عنها جماليا ولا يكون ذلك بالعودة الى الماضي بل بإعادة
خلقها في المستقبل على نحو مختلف. فمتى نرى شبابنا يحتفل بعيد الحب بالمعنى الكوني
للكلمة في ديارنا دون أي تصادم مع الميراث ودون هستيريا جنونية؟
0 تعليقات