الرأي والحقيقة (مفهوم الحقيقة)

فيلوكلوب فبراير 17, 2020 فبراير 17, 2020
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: الرأي والحقيقة (مفهوم الحقيقة)
-A A +A


تقديم بخصوص قضية الحقيقة

لقد شكل مفهوم الحقيقة مفهوما إشكاليا داخل الخطابين الفلسفي والإبستمولوجي، ولعله من أبرز القضايا التي أثيرت حولها الكثير من التساؤلات والإشكالات، فالحديث عن الحقيقة حديث عن همٍّ ومطلبٍ إنسانيين، و يمكن العودة إلى الواقع لمعرفة ما للحقيقة من أهمية وراهنية لا سواء في المجال الإجتماعي أو الديني أو السياسي أو العلمي... لكن تصورنا لدلالة مفهوم الحقيقة ليس واحدا. ولذلك لابد أولا أن نكشف دلالتها.
تدل لفظة الحقيقة من الناحية اللغوية على الحق واليقين والصدق، فهي تأتي في مقابل الكذب والباطل والوهم والمجاز. أما من الناحية الفلسفية، فالحقيقة كمفهوم تشير إلى مطابقة ما في العقل لما في الواقع حسب التجريبيين، وإلى مطابقة العقل لذاته حسب العقلانيين. ويعرفها الفيلسوف الألماني هايدغر بقوله:  "الحقيقي، سواء كان شيئا أو حكما، هو ما يتوافق ويتطابق، الحقيقي والحقيقة، يعنيان هذا التوافق  (التطابق)، وذلك بطريقة مزدوجة: أولا بين الشيء وما نتصوره عنه، ثم كتطابق بين ما يدل عليه الملفوظ وبين الشيء".
إن ما يمكن أن نستنتجه انطلاقا من تعريفنا للحقيقة هو صعوبة الحسم في مدلولها وهذا ما يجعل منها قضية إشكالية بامتياز، ولما لا و كل مجالات المعرفة التاريخية والدينة والإنسانية والعلمية ... تتطرق إلى الحقيقة، من حيث أنها غاية كل معرفة. كل ذلك يدفعا إلى طرح مجموعة من التساؤلات أبرزها:
  • هل الحقيقة معطاة أم مبناة؟ وهل يمكن اعتماد الرأي في بناء الحقيقة؟
  • هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ وهل يمكن القول بحقيقة واحدة أم بحقائق متعددة؟
  • ما معايير الحقيقة؟
  • كيف تتحدد القيمة كقيمة؟

أولا: الرأي والحقيقة

في دلالة مفهومي الرأي والحقيقة

مفهوم الرأي : "حالة ذهنية تتمثل في الإعتقاد بصحة قول معين، مع القبول بإمكان الخطأ أثناء حكمنا هذا." إذن فالرأي جاهز، ومعطى وليس  مبنيا.
مفهوم الحقيقة: "في التعريف الفلسفي التقليدي تعني الحقيقة مطابقة الفكر لذاته أو للواقع أو لهما معا "
الإشكال: ما علاقة الرأي بالحقيقة؟ هل هي علاقة تلازم أم علاقة تعارض؟ وهل يمكن اعتماد الرأي في بناء الحقيقة؟  وهل الحقيقة معطاة أم مبناة؟

الموقف الأول: الرأي القائم على الاحتمال يستحق اسم معرفة


صاحب الموقف:  الفيلسوف والعالم الألماني غوتفريد لايبنـز ، ( 1646-1716) ، من مؤلفاته: "أبحاث جديدة في الفهم الإنساني".
موقف الفيلسوف
يؤكد الفيلسوف الألماني لايبنز، في كتابه "أبحاث جديدة في الفهم البشري"، على أن الرأي القائم على الإحتمال يستحق اسم معرفة. ويقصد بالراي القائم على الإحتمال، الراي الذي يتضمن قدرا من المعقولية والصواب، أي الرأي الذي يكون احتمال صوابه أكثر من احتمال خطأه. ويقدم لايبنز مثالا لمعرفة تتأسس بشكل أساسي على الإحتمال، وهي المعرفة التاريخية، ويرى بأنه إذا تم استبعاد الرأي القائم على الإحتمال فسيؤدي إلى إسقاط هذه المعرفة، فهذه المعرفة لا تقوم على الإطلاق والقطعية بل على العكس من ذلك فهي تقوم على الإحتمال والنسبية. زيادة على ذلك يقدم مثالا لرأي علمي أثبِت صدقه، وهو رأي كوبرنيك القائل بمركزية الشمس. فقد كان وحيدا في رأيه، إلا أن رأيه كان أكثر احتمالا بشكر لا يقبل المقارنة مع رأي باقي النوع البشري، وهو الآن يعتبر من بين الحقائق العلمية التي لا يمكن تكذيبها.
أهمية الموقف:  لا يمكن أن ننفي ما لموقف لايبنز من أهمية، وبه ما للرأي من أهمية، لا سواء في مجال العلوم الإنسانية، ولا سواء في مجال العلوم الطبيعية. فالتاريخ كعلم إنساني يتأسس على الرأي القائم على الإحتمال حقا، وأيضا في العلوم الطبيعية فالرأي يمكن أن يكون طريقا لبوغ الحقيقة إذا كان رأيا يحتمل صدقه.
إحراج: لكن ألا يمكن أن يكون الرأي عائقا ابستمولوجيا أمام محاولة بناء الحقيقة؟


الموقف الثاني: الرأي عائق ابستمولوجي       

يمثل هذا الموقف مجموعة من الفلاسفة والإبستمولوجيين نخص بالذكر غاستون باشلار  . فقد ذهب غاستون باشلار  في "كتابه تكون الفكر العلمي" إلى اعتبار الرأي عائقا يحول دون بناء معرفة علمية حقيقية، ولذلك وجب القطع مع الرأي، لأن الرأي حسب باشلار نوع من التفكير السيء، بل أكثر من ذلك فهو ليس بتفكير على الإطلاق. زد على ذلك أنه لا يقوم إلا بترجمة  الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم فالرأي يحرم نفسه من معرفتها حق المعرفة، لذلك يقول باشلار: "إننا لا نستطيع أ ن نؤسس أي شيء كيفما كان انطلاقا من الرأي، ولذلك يجب القضاء عليه أولا ، إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح...". وبالتالي فالرأي الشخصي حسب باشلار لا يتأسس على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي ، والمعرفة الحقة ، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا، وأنما يقوم على الآراء الذاتية الشخصية النابعة من الوجدان والعاطفة، والمرتبطة بالمنافع البشرية والمصالح الإيديولوجية. بذلك لابد من القضاء على الرأي لغاية تأسيس معرفة علمية موضوعية ويقينية.
قيمة الموقف: لا يمكن أن ننكر ما لموقف من باشلار من أهمية، فهو أولا موقف تعرض لقضية ابستمولوجية بامتياز وهي  قضية الحقيقة وخاصة الحقيقة العلمية، وتناولها من زاوية علاقتها بالراي. وثانيا قام بتبيان عيوب ونواقص الرأي من حيث أنه يتأسس على المنفعة، والمنفعة يمكن أن تحيد بنا عن الحقيقة، وهنا يمكن أن نقدم مثالا لرأي تأسس على أساس نفعي  وإيديولوجيي، وحاد به وبأصحابه عن منطق الحقيقية والعلمية وهو رأي الكنيسة في القرون الوسطى بخصوص مركزية الأرض، فقد كانت الكنيسة تقول بثبات الأرض ومركزيتها، لغاية واحدة، وهي أن لا تتناقض مع ما جاء في الكتاب المقدس، وأن لا تفقد شرعيتها أمام جمهور المؤمنين بمعتقداتها، وهو رأي أثبت خطأه فيما بعد.
إحراج: رغم كل ذلك، ألا يمكن القول بأن إبعاد الرأي قد يؤدي إلى قتل المعرفة القائمة على الاحتمال كالمعرفة التاريخية؟ ويؤدي إلى تقييد الحقيقة؟ وألا يمكن أن يكون الرأي سبيلا إلى البناء النقدي للحقيقة؟

خلاصة تركيبية

إن ما يمكن أن نخلص إليه بخصوص إشكال علاقة الرأي بالحقيقة، وإمكان اعتماد الرأي في بناء الحقيقة، هو أن الرأي يمكن أن يكون طريقا للحقيقة حين يكون الراي قائما على الإحتمال، وحين يكون احتمال صوابه أكثر من احتمال خطأه. إلا أن الرأي ليس دائما اساسا وطريقا للحقيقة، فالراي قد يتأسس على المنفعة والمصلحة والذاتية، ما يجعله يقف كعائق إبستمولوجي أمام الحقيقية والمعرفة، وخاصة المعرفة العلمية التي يأخذ الموضوعية كركيزة من ركائزها. كل هذا يجعل من قضية الحقيقة  قضية إشكالية، فهي تفتحنا على إشكال آخر وهو المتعلق بمعاييرها. فما معايير الحقيقة؟

شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/