التأطير الإشكالي
إن اختلاف موضوعات ومجالات الحقيقة، قد يؤدي إلى القول بتعددها، وهذا
ما يفتحنا أمام إشكال من بين الإشكالات
التي تطرحها قضية الحقيقة. وهو الإشكال المرتبط بمعايير الحقيقة، والذي يمكن
صياغته على الشكل التالي: ما معيار الحقيقة؟
هل معيار الحقيقة هو التطابق مع الواقع أم التطابق مع الفكر؟ أم أن معيار
الحقيقة يتجاوز ذلك إلى ما هو مرتبط بحياة والإنسان وبما هو نفعي؟
الموقف الأول: البداهة كمعيار للحقيقة (يمثل هذا الموقف الفيلسوف رونيه ديكارت)
تعريف الفيلسوف: رونيه ديكارت (1596-1650) فيلسوف فرنسي،
يلقب بأب الفلسفة الحديثة، وهو واحد من رواد المذهب العقلاني، من مؤلفاته: "مقال
في المنهج"، "تأملات ميتافزيقية"،
يقول
ديكارت: لأن جميع الأشياء التي نتصورها تصورا واضحا ومتميزا أشياء حقيقية كلها،
وحقيقتها مكفولة بوجود الله، لأنه موجود كامل، ولأن جميع ما فينا صادر عنه، وينتج
من هذا أن أفكارنا وتصوراتنا المتعلقة بكل ما هو واضح ومتميز ، لا يمكن إلا أن
تكون حقيقية، لأنها أشياء واقعية وصادرة عن الله".
يعتبر
الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت من أبرز رواد المذهب العقلاني في المرحلة الحديثة.
وقد أكد على أهمية العقل ودوره المحوري في تحصيل المعرفة. وفيما يتعلق بمعيار
الحقيقة فديكارت ، يؤكد على كون معيار البداهة هو معيار الحقيقة، وأن كل ما هو
بديهي يعتبر حقيقة لا غبار عليها ولا جدال فيها.
ومما يقدمه ديكارت كنموذج للحقائق البديهية التي تفرض نفسها على جميع
العقول، وهو حقيقة التفكير, حيث يقول "أنا أشك-أنل أفكر، وحتى لو شككت في
كوني أشك فأنا أفكر، أنا أفكر إذن أنا موجود، فتفكيري إذن دليل وجودي، هذه حقيقة
بديهية واضحة لا لبس فيها ولا غموض. لكن كيف نتيقن من أن فكرة ما هي فكرة بديهية؟
هنا يؤكد ديكارت على ضرورة الشك، باعتباره الطريق المنهجي لبلوغ الحقائق. ولن يصمد
أمام الشك إلا ما هو بديهي ومتميز.
إذن،
فالبادهة العقلية هي المعيار الأكثر اكتمالا ويقينا، والذي يمكن الإطمئنان إليه
للتميز بي فكرة صحيحة وأخرى خاطئة، ومن ثمة تكون الحقيقة عند ديكارت من طبيعة
عقلية خالصة، ولا حاجة إلى العودة إلى الواقع التجريبي الحسي.
الموقف الثاني: الواقع كمعيار للحقيقة (دافيد هيوم نموذجا)
تعريف
الفيلسوف: دافيد هيوم (1711-1776م) فيلسوف إنجليزي وأحد رواد المذهب تجريبي من
مؤلفاته "رسالة في الطبيعة الإنسانية".
موقف
الفيلسوف: في
كتابه "رسالة في الطبيعة الإنسانية" يتطرق الفيلسوف الإنجليزي دافيد
هيوم إلى معيارين، نتحقق من خلالهما من صدق موضوعات العقل الإنساني . ويقسم تلك
الموضوعات إلى نوعين:
النوع
الأول: علاقات الأفكار فيما بينها، ويشمل هذا النوع علوم الهندسة والجبر والحساب،
أي الرياضيات. وهذا النوع من الموضوعات لا يتم إثبات صدقه عبر الواقع، وإنما عبر
العقل، عن طريق الحدس والبرهان والبداهة. فمثلا كون وتر المثلث يساوي تربيع
الضلعين الآخرين، يتم إثبات صدقه عقليا ومنطقيا، وليس استناد الى العالم الخارجي.
النوع
الثاني: علاقة الأفكار بالواقع، ويشمل هذا النوع موضوعات العالم الخارجي، كالقضايا
الفيزيائية المادية. وهذا النوع لا يتم إثبات صدقه عبر العقل والبداهة، وإنما عبر
الواقع، عن طريق التجربة والعودة إلى الواقع. فقولنا أن الشمس لن تشرق غدا، لن يتم
التحقق منه عبر محاولة تأكيد عدم تناقضه أو حتى تناقضه عبر اعتماد البرهان، لأن
تأكيد ذلك القول يتم عبر الواقع
الموقف الثالث: السلطة كمحدد لمعيار الحقيقة (موقف ميشيل فوكو)
تعريف
الفيلسوف: ميشيل فوكو (1926-1984م) فيلسوف فرنسي معاصر، من مؤلفاته:
"أركيولوجيا المعرفة"،"الكلمات والأشياء"،"تاريخ الجنون".
موقف الفيلسوف: في
تصور آخر، مختلف عما سلف ذكره، يتجاوز
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ثنائية العقل والواقع في بناء الحقيقة، ليربطها
بالمجال السياسي الإجتماعي. فحسب فوكو، كل مجتمع له نظامه الخاص المتعلق بالحقيقة،
وسياسته العامة حول الحقيقة، حيث أن لكل مجتمع الآليات والهيئات التي تمكنه من
التمييز بين المنطوقات الصحيحة و والمنطواقات الخاطئة، وكذلك الطريقة التي نتبين
بها هاته من تلك، وايضا الإجراءات المشار إليها من أجل التوصل إلى الحقيقة ، وكذا
مكانة أولئك الذين توكل إليهم مهمة تحديد ما يمكن اعتباره حقيقيا.
ويرى
فوكو أن الإقتصاد السياسي للحقيقة يتميز بخمس سمات وهي:
- الحقيقة متمركزة في الخطاب العلمي وعلى المؤسسات التي تنتجه
- خضوعها لنوع من التحريض الإقتصادي والسياسي
- الحقيقة موضوع نشر واستهلاك
- الحقيقة يتم إنتاجها ونقلها تحت المراقبة المهيمنة لبعض الأجهزة الساسية أو الإقتصادية الكبرى.
- الحقيقة مَدارُ كل نقاش سياسي وكل صراع اجتماعي.
إذن فمعيار الحقيقة حسب فوكو تتحكم فيه السلطة المهيمنة داخل المجتمع،
والتي تحدد ما هو حقيقي وما هو ليس بحقيقي.
0 تعليقات