محاور الدرس:
- تأطير إشكالي بخصوص قيمة الحقيقة
- الموقف الأول: قيمة الحقيقة في ذاتها (موقف إيمانويل كانط)
- الموقف الثاني: قيمة الحقيقة في المنفعة التي تقدمها (موقف وليام جيمس وفريدريك نيتشه)
- خلاصة تركيبية
تأطير إشكالي: (الحقيقة بوصفها قيمة)
إذا
كانت القيمة هي كل ما يرغب فيه الإنسان ويفضله، ويتخذه مثلا أعلى يسعى نحوه عن قصد
أو عن غير قصد، سواء على المستوى الفكري النظري، أو الممارسة العملية، أو على
مستوى السلوك الأخلاقي، فمن الذي يمنح الحقيقة قيمة ويجعلها شيئا مرغوبا فيه من
طرف الجميع ؟ هل لكونها مطلوبة لذاتها أم
لكونها وسيلة لتحقيق غايات عملية أي ما يخدم الحياة الإنسانية؟ بمعنى آخر، كيف
تتحدد الحقيقة بالنظر إليها كقيمة ؟ هل تتحقق بما هو أخلاقي أم بما هو عملي؟
الموقف الأول: قيمة الحقيقة في ذاته (إيمانويل كانط)
تعريف
الفيلسوف: إيمانويل كانط (1724-1804) فيلسوف ألماني، رائد الفلسفة النقدية، اشتهر
بالثلاثية النقدية: "نقد العقل العملي"، "نقد العقل الخالص"،
" نقد ملكة الحكم".
تأطير
الموقف: يتأطر موقف كانط ضمن الكتابات الفلسفية الأخلاقية في القرن الثامن عشر
والتي حاولت تأسيس قاعدة للسلوك الإنساني عمادها الإرادة الخيرة، والواجب الأخلاقي...
موقف
الفيلسوف: اعتبر
كانط أن الحقيقة كقيمة هي غاية في ذاتها، وهذه الغاية تكمن في قول الصدق لذاته لا لأغراض عملية
نفعية، لان قول الصدق هو واجب أخلاقي، أو كما يقول كانط: "قول الحقيقة واجب
أخلاقي". وفي محل آخر يقول: "إن
قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات". ويقدم
كانط مثالا ليستدل على أنه لا وجود لحالات استثنائية يجوز فيها الكذب، مثال شخص
يكذب على مجرمين سألاه عما ذا كان صديقه الذي يتعقبونه مختبئا في منزله، فإذا كذب
يكون قد ارتكب جرما في حق الإنسانية، وبهذا يتحمل مسؤولية فعله الإجرامي، يقول
كانط لنفترض أن هذا الصديق تسلل خلسة ودون علمك وهرب إلى الخارج، ولم تحصل
الجريمة، لكن بالصدفة صادفه المجرمون في الشارع وقتلوه في هذه الحالة تكون قد
ساهمت بشكل غير مباشر في موته، وتصبح متهما أنت أيضا.
خلاصة
قول كانط حول الحقيقة كقيمة أخلاقية، أن من أوجب واجبات الإنسان، أن يتحلى بالصدق
في تصريحاته وأقواله التي لا مناص له من
الإدلاء بها، وإن أضر صدقه به هو أو بغيره، وبالتالي تكون قيمة الحقيقة في ذاتها،
لا في تحقيق غايات خارجية من ورائها.
قيمة
الموقف: يتأسس موقف كانط على اساس أخلاقي، ما يمنحه قيمة أخلاقية، ولا يمكن إلا
التأكيد على ضرورة الحقيقة كواجب من الواجبات الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها
المرء. كما أن الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة يجعلها تتنزه عن كل منفعة ومصلحة ذاتية قد تجعلها مجرد وسيلة لا أكثر.
سؤال
(نقد وانفتاح): لكن ألا يمكن القول بأن تصور كانط للحقيقة يعتبر تصورا مثاليا
متعاليا عن الواقع؟ ألا يمكن القول بأن الحقيقة يمكن أن تجد قيمتها من حيث المنفعة
التي تحققها، وبالتالي تكون الحقيقة مجرد وسيلة؟
الموقف الثاني: قيمة الحقيقة في المنفعة التي تقدمها
1 - موقف وليام جيمس
تعريف
الفيلسوف: وليام جيمس (1842-1910) فيلسوف أمريكي معاصر: من مؤلفاته البراغماتية La Pragmatisme.
تأطير
الموقف: يدخل موقف وليام جيمس ضمن موقف الفلسفة البراغماتية التي تربط الحقيقة
بحاجات الفرد البشري، وبالنتائج المترتبة عنها:
موقف وليام جيمس: يؤكد
وليام جميس الفيلسوف الأمريكي، في كتابه البراغماتية La pragmatisme ، على أن الحقيقة لا تكتسي
قيمة إلا إذا حققت منفعة سواء على المستوى الفكري أو العملي، فهي إذن مجرد
وسيلة تتحقق من ورائها أغراض عملية وليست
غاية في ذاتها، ذلك أن امتلاك الإنسان لأفكار صحيحة، يعنى امتلاكه لأدوات ثمينة
تسمح له بالقيام بأعمال ذات مردودية وإنتاج خصب، فوجوب اكتساب الحقائق إذن، يستمد
مبرره من النتائج الممتازة التي يجنيها الإنسان. بهذا القول تصبح الحقيقة كواجب
أخلاقي ينشد لذاته هو مجرد تصور لفظي فارغ
من كل معنى، بينما تتيح التجربة للصدق فرصة التمتع بما في الواقع من حيوية وثراء.
2 - موقف فريديريك نيتشه
تعريف
الفيلسوف: فريدريك نيتشه (1844-1900) فيلسوف ألماني، من فلاسفة القرن التاسع عشر،
عرف بنقده لمجموعة من المرتكزات الفلسفية كالعقل والحقيقة. من مؤلفاته:
"العلم المرح"، "جينالوجيا المعرفة"...
تأطير
الموقف: يدخل موقف نيتشه ضمن المواقف التي انتقدت مفهوم الحقيقة، والتي قاربت
مفهوم الحقيقة في ارتباطه برغبات الإنسان.
موقف فريديرك نيتشه: نفس
التصور يؤكده الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، حيث ذهب إلى ربط الحقيقة بالعالم
الأرض، وبحاجيات الإنسان الحيوية، ورفض كل تصور فلسفي يتعالى بالحقيقة عن مجالها
الطبيعي والإنساني، لأن الحقيقة في نظره، ما هي في واقع الأمر إلا إضفاء صورة الإنسان
ورغباته على الأشياء، أي طبع الصور الإنسانية على العالم الخارجي، بحيث يصير
العالم برمته مجالا مكبرا لغايات الإنسان وأمانيه، فجوهر الحقيقة ليس في كون شيء
من الأشياء حقا، وإنما أن يعتقد الإنسان أنه حق. فالنفع إذن، هو المعيار الفاصل
بين كون الأشياء حقا أو غير حق، والنفع هو الحياة، لذا لا يمكن تصور حقيقة خارج
الحياة لأن ذلك يعتبر وهما.
قيمة
الموقفين: إن ما يمنح موقف كل من وليام جيمس ونيتشه أهميته، أو لنقل ما يمنح
الأطروحة القائلة بتجلي قيمة الحقيقة في المنفعة التي تقدمها قيمتها، هو ربط
الحقيقة بالمجال الحياتي للإنسان، وتسليط الضوء عليها من زاوية نفعيتها.
حدود
الموقفين: لعل أبرز ما يمكن أن ينتقد فيه التصور البراغماتي للحقيقة هو كونه تصورا يضرب في إطلاقية
الحقيقة، ويجعلها مرتبطة بالمنفعة والمصلحة التي تقدمها، وبالتالي تصبح الحقيقة
نسبية.
خلاصة تركيبية
لا
يمكن أن نختم مقاربتنا لإشكال الحقيقة كقيمة، إلا بالتأكيد على أهمية الحقيقة
كقيمة ابستمولوجيا وكقيمة أخلاقية أيضا، سواء ارتبطت بالمجال المعرفي الصرف، أو
ارتبطت بالمجال الإجتماعي أو السياسي أو الثقافي. إلا أن مقاربة أساس قيمة الحقيقة
يختلف من تصور لآخر، ومن فيلسوف لآخر، ويمكن أن نلخص الإختلاف بالقول بأن هناك من
تطرق إلى الحقيقة انطلاقا مما يجب أن يكون (كانط ) وجعلها غاية في ذاته لا ترتبط
بأي منفعة أو مصلحة ذاتية، وهنا من تطرق إليها انطلاقا مما هو كائن (وليام جيمس
ونيتشه) وجعلها ترتبط بالمجال الطبيعي.
0 تعليقات