- التاطير الإشكالي للمحور
- أولا: تحليل نص عبد الرحمان بن خلدون
- ثانيا: مناقشة نص عبد الرحمان بن خلدون
- خلاصة تركيبية للمحور
التأطير الإشكالي للمحور
عرف أرسطو الإنسان في كتابه السياسة بكونه حيوانا مدنيا، ومن بين ما يعنيه ذلك أن الإنسان كائن اجتماعي. ولم يكن هذا التعريف اعتباطيا، بل له ما يبرره، فالإنسان، وكما يمكن أن يلاحظ أي منا، لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، ولا تستقيم وتكتمل حياته إلى داخل المجتمع. فالمجتمع يوفر للفرد ما لا توفره له العزلة. هكذا، لن يبقى الإنسان في تعريفه كائنا عاقلا وناطقا فقط، بل سيصير أيضا كائنا اجتماعيا. لكن، هناك ما يطرح نفسه للتساؤل والنقاش الفلسفيين بخصوص قضية المجتمع، وبخصوص كون الإنسان كائنا اجتماعيا، وهو طبيعة وأساس هذا الاجتماع، فمن جهة يظهر أن الأساس طبيعي فطري، أي أن الإنسان يميل إلى الاجتماع بطبعه، لكنه، من جهة أخرى، يظهر أنه مرتبط بما هو ثقافي فقط، ولا يمكن الحديث عن اجتماع بالفطرة وبالطبيعة. هذه المفارقة تجرنا إلى مساءلة قضية المجتمع وتقودنا إلى طرح إشكالات وتساؤلات يمكن صياغتها كالآتي:
- ما أساس الاجتماع البشري؟
- هل أساس الاجتماع البشري هو طبع الإنسان وفطرته أم أن أساسه مجرد الاتفاق والتعاقد؟ بتعبير آخر، هل الإنسان حين ينزع إلى الاجتماع، يقوم بذلك انطلاقا من طبيعته أم أنه يقوم به بشكل اتفاقي وتعاقدي؟
- وهل أساس هذا الاجتماع هو الضرورة أم الإرادة والاختيار؟
أولا: تحليل نص ابن خلدون
1 - تعريف ابن خلدون
هو عبد الرحمان بن خلدون، مفكر ومؤرخ عربي، ولد بتونس، عاش بين سنتي 732هـ و808هـ، الموافق لسنتي 1332 و1406م، اهتم بقضايا التاريخ والمجتمع، من مؤلفته: كتاب المقدمة وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر
2 - تحليل النص تحليلا تركيبيا
يوكد ابن خلدون في نصه على أطروحة مضمونها أن الاجتماع الإنساني ضروري، ومضمون هذا القول، أن الإنسان لا يجتمع مع بني جنسه بمحض إرادته، ووفق اختياره، وإنما يقوم بذلك بمنطق الضرورة. ولتوضيح هذا القول وهذا الموقف، انطلق ابن خلدون من الاستشهاد بقول الحكماء، أي فلاسفة اليونان وخاصة أفلاطون وأرسطو، الذين عبروا عن قوله أن الاجتماع الإنساني ضروري بقولهم: "الإنسان مدني بالطبع". ودلالة المدنية هنا هي "أن الإنسان كائن اجتماعي وسياسي". لذلك، يرى ابن خلدون أن هذا الاجتماع أمر لابد منه وهو ما اصطلح عليه الحكماء بالمدينة وعرفه ابن خلدون بالعمران.
وفي السياق نفسه، سياق تأكيد موقفه وتوضيحه، انطلق ابن خلدون من طبيعة الإنسان وصورته التي صوره الله عليها. فالإنسان قاصر عن تحصيل حاجته من الغذاء إذا لم يستعن بأفراد بني جنسه. هنا يقدم ابن خلدون مثالا، وذلك ليؤكد أن الإنسان لابد له من الآخر، وبالتالي لابد من الاجتماع، وهذا المثال هو مثال الحنطة. فالحنطة والتي هي نوع من الحبوب، تستلزم كثيرا من الطحن والعجن والطبخ والمواعين والآلات والحدادة والنجارة، ولن يتأتى ذلك إلا بالتعاون والاجتماع.
إضافة إلى ذلك، فقد انطلق ابن خلدون في تدعيم موقفه، وأطروحته، من عقد مقارنة بين الإنسان والحيوان، فالحيوانات تتفوق على الإنسان من حيث قدرتها على الدفاع عن نفسها دون حاجة إلى الاستعانة بأبناء نوعها، وقد أورد ابن خلدون أمثلة كثيرة عن تلك الحيوانات، كمثال الفرس والحمار والأسد والفيل... فكلها حيوانات قادرة على الدفاع عن نفسها بنفسها. لكن الإنسان، لا يستطيع ذلك، ولذلك فهو في حاجة إلى بني جنسه من البشر. وإذا كان الحيوان متميزا بعضو يمكنه من حماية نفسه من عادية غيره، فالإنسان يتميز بالفكر واليد، ولذلك يستطيع أن يصنع ما يمكنه من الدفاع عن نفسه. مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة التي تمتاز بها بعض الحيوانات.
زد على ذلك، وارتباطا بما سبق، أنه لولا هذا الاجتماع والتعاون لما تمت حياة الإنسان ولعاجله الهلاك والموت. وهذا ما جعل ابن خلدون يخلص في الأخير إلى أن الاجتماع الإنساني ضروري ولابد منه.
إذن، فابن خلدون يجعل من أساس الاجتماع البشري أساسا طبيعيا ضروريا، تفريضه ضروروات عدة كضرورة حفظ البقاء، وتفرضه طبيعة الانسان التي تختلف طبيعة الحيوان. لكن، ألا يمكن القول أن أساس الاجتماع الإنساني أساس تعاقدي اتفاقي؟
ثانيا: مناقشة مضمون نص ابن خلدون
قبل عرض موقف النص ومضمونه على محكمة النقد والسؤال الفلسفية، يمكن أن نؤكد أنه موقف قيم، خاصة من الناحية الحجاجية. فقد استطاع النص تبيان ما يجعل الاجتماع البشري اجتماعا ضروريا، والمتمثل أساسا في نقص الانسان وضعفه، وحاجته إلى بني جنسه من البشر. زد على ذلك أنه موقف يؤسس لأخلاق التضامن والتعاون، ويقر بحاجة الذات غلى الآخر. وهذا الموقف هو نفسه موقف مجموعة من الفلاسفة نذكر بشكل الفيلسوف اليوناني أرسطو والذي قال في كتابه السياسية أن "الإنسان حيوان مدني بطبعه، وإن لم يكن كذلك، اعتبر أسمى من البشر (إلها) أو عد رجلا سافلا (حيوانا)". ومضمون هذا القول أن الإنسان كائن سياسي واجتماعي، وأن ما يجعله كذلك هو طبيعته، وإن الذي لا يكون عضوا داخل المجتمع وداخل الدولة، فيعتبر إما إلها أسمى من البشر أو هو رجل سافل.
لكن ، يمكن أن نؤكد بحجة أخرى، ومن منطلق آخر، أن الاجتماع الإنساني لم يكن طبيعيا ولا ضروريا، ويمكن أن نستحضر في هذا الصدد المواقف التعاقدية التي أقرت بأن الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع والسياسة كان عبر تعاقد اجتماعي. فقد كان الإنسان يعيش حالة سماها فلاسفة التعاقد (جون لوك، باروخ اسبينوزا، طوماس هوبز ، جان جاك روسو) بحالة الطبيعية، وهي حالة يختلف بخصوصها فلاسفة التعاقد، فهناك من يرى أن حالة حرب، وهناك من يرى أنها حالة حرية أمن، وهناك من يرى أن حالة الشهوات. وعلى العموم، فهم يتفقون في كون الإنسان قد انتقل من تلك الحالة التي هي حالة الطبيعة إلى حالة المدنية والاجتماع عبر عقد اجتماعي، الذي هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وأخلاقي يقوم على اتفاق الأفراد فيما بينهم لتدبير الشأن العام بواسطة المؤسسات والقوانين. ولتوضيح ضرورة الإنتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية نستحضر قول واحد من فلاسفة التعاقد الاجتماعي وهو الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. فقد ذهب هذا الأخير في كتابه العقد الاجتماعي، إلى أن أساس المجتمع هو اتفاق وتعاقد بين الناس، هو ما يصطلح عليه عادة بالعقد الاجتماعي. واقد انتقال الانسان إلى حالة المدنية لأن الأفراد في حالة الطبيعية كانت تغلب عليهم الأنانية، ولم يكونوا ليحصلوا الكثير من المزايا إلا بالانتقال إلى حالة المدنية. يقول روسو في هذا الصدد: "إنه وإن يكن قد حرم، في هذه الحال (حال المدنية) مزايا كثيرة استمدها من الطبيعة، فلقد اكتسب بدلا منها مزايا أخرى كبيرة: لقد انجلت قواه العقلية ونمت، وتسعت أفكاره، ونبلت عواطفه، وسمت نفسه كلها حتى إنه كان يجب عليه أن يبارك، بلا انقطاعـ الساعة السعيدة التي انتزعته منه تلك الحياة إلى الأبد، والتي جعلت منه كائنا ذكيا، ورجلا، بعد أن كان حيوانا بليدا محدود الفهم"
خلاصة تركيبية للمحور:
إن المتأمل في كل ما سبق، لا يمكن إلا أن يخلص إلى أن الإنسان كائن اجتماعي، سواء كان يميل إلى الاجتماع بطبيعته وفطرته كما ذهب إلى ذلك عبد الرحمان بن خلدون، والفيلسوف اليوناني أرسطو، أو بإرادته واختياره وانطلاقا من الاتفاق والتعاقد كما ذهب إلى ذلك فلاسفة التعاقد الاجتماعي. ومنه يمكن أن نؤكد على ضرورة المجتمع وأهميته، فهو بمثابة الحضن الذي يجد فيه الفرد الحماية والرعاية والأمن، وانطلاقا من هذا القول وجب التأكيد على ضرورة تأسيس المجتمع على أسس أخلاقية تضمن العيش المشترك وأسس سياسية تساهم في حفظ المصالح العامة وتدبير الأزمات والخلافات بين الأفراد.
0 تعليقات