لا شك ان
الفكر الشرقي القديم هو تلك الفلسفات التي قدمتها امم الهند والصين وبلاد فارس
وواد الرافدين وواد النيل ، وبلاد العرب بامتدادها الجغرافي من المحيط الى الخليج
خلال حقبة التاريخ القديم. فالفكر الشرقي القديم موغل في القدم حتى العصر البدائي، ولا نستطيع وبتأريخ فاصل لبدايته، حيث ان معظم الحضارات الشرقية توغل حتى سبعة
الاف سنة قبل الميلاد ، متلما هو الحال في حضارة واد الرافدين وحضارة واد النيل .
فما هي سمات هذا الفكر ؟
بالغوص
في سمات الفكر الشرقي القديم نجد انه يمثل مصدرا لجميع اتجاهات الفكر في العالم
الراهن، وانه يميل الى البساطة واللجوء الى التفسيرات الخرافية، اد يتضمن التفكير
القديم تلاث موضوعات رئيسية وهي؛ طبيعة الكون، وظيفة الدولة، وقيم الحياة. كما ان
هذا التفكير يختلط فيه الفكر التأملي بالتفاسير والمعتقدات الدينية. حيث يتمسك بالتراث
والاحترام العميق لكل ما هو قديم . فضلا عن كونه يحتوي على منظومة متكاملة من
المعرفة، تشمل جل نظريات المعرفة وعلم النفس والاخلاق والميتافيزيقيا. وبالتالي
هذا المعطى هو الذي سيجعلنا ننتقل بالحديث الى اتباث معرفة الشرقين للفلسفة من
خلال استحضار نماذج من الفكر الشرقي القديم .
يتمثل
اتباث الشرقين القدماء للفلسفة من خلال العديد من المعطيات ، اولا السبق التاريخي
؛ حيت ان الحضارات الشرقية اسبق من الحضارة اليونانية. وان كثير من مؤرخي الفلسفة
اكدوا على ان الفلسفة جاءت من الهند اي (الشرق). وهذا نلمسه في كثير من الافكار
الفلسفية اليونانية التي هي ذات ملامح شرقية، ناهيك على اعتراف بعض فلاسفة اليونان
بدراستهم في الشرق كأفلاطون وارسطو. و تأثر الغنوصية اليونانية الممثلة بأفلاطون و
فورفوريوس بالغنوصية الهندية في نظريات الفيض والتناسخ. ادا ليس الراجح ان الفلسفة
معجزة يونانية، وانها ليست لها صلة بما قبلها كما كان يردد بعض المؤرخين الغربيين،
حيث يقولو ان الفلسفة بصورتها المعروفة نشأة في بلاد اليونان التي نبعت منها
الحضارة الغربية، وذلك لكي يثبتوا تفوق
العقل الغربي تبريرا للاستعمار الذي استعبد معظم العالم الشرقي في القرنين التاسع
عشر والعشرين ، لذلك فهم يسمون الفلسفة بالمعجزة اليونانية لأنها نشأة فجأة وبصورة
كاملة تقريبا، اد لم يسبقها مقدمات تمهد لظهورها، فيستدلون على ذلك بالمقارنة بين
اوائل الفلسفة اليونانية والفكر الديني الشرقي، وبدلك ينكرون على الشرق معرفة
الفلسفة ذاتيا، وفي دعائهم هذا يتناسون عدة امور منها هذه المسببات التي دكرنا
سالفا.
ومن نماذج
الفكر الفلسفي الشرقي القديم نأخذ اولا الفكر الذي احتضنه واد النيل اي في مصر القدمية ، والذي
يتمحور حول ثلاث قضايا اساسية اولها "طبيعة الكون" ؛ فقد ارتبط الاهتمام
الفلسفي بالمسألة الكونية، والذي يتجلى في طبيعة الارض المصرية، فخصوبة التربة التي وفرها نهر النيل جعلت المصري
القديم يشعر ان ارضه هي الارض الوحيدة التي لها في الدنيا شأن. فجعل الشمس ( اتون)
هي الاله الاعلى، ونسب اليها اصل الكون. اما القضية الثانية فهي "وضيفة الدولة"؛ والتي تتجسد في
الملك الاله ، ووظيفة الملك هنا ليست سياسية فقط ، بل وظيفة الهية ( تدبير، وحكم ،
وحياة وموت) . علاوة على ذلك نجد ان الانسان المصري فرق بين الانسان والمجتمع،
والنبات والحيوان والكون والتي وتعود جميعها الى جوهر واحد هو الاله. اما القضية الثالثة
فهي "قيمة الحياة"؛ حيث نجد ان القيم الاخلاقية عند المصري القديم قد
تمحورت حول مبادئ السلوك المتعلق بآداب المائدة ، والمبادئ السلوكية التي ترضي
الالهة ، اي القيم التي تنشد خلاص الروح والموت وخلودها، وبقاء الالهة. وللإشارة فالمصريون
القدماء كانوا اول من ابرز فكرة الضمير الاخلاقي ، اد رأوا ان قيمة الاخلاق في
الانسان ليست في خوفه من العقاب او الطمع في التواب، وانما في استجابة لضمير اخلاقي.
كما ان المصريون هم اول من اكتشف النظام في الطبيعة، وان هذا النظام يرجع الى وجود
اله خالق وعادل. كذلك عبر المصريون عن فكرة خلود الروح والبعث وحساب الانسان
عن اعماله الدنيوية بالميزان وما يترتب على ذلك من جزاء، اي تواب وعقاب . وقد
اهتدوا المصريون القدماء الى فكرة التوحيد على يد الملك المصري اخناتون الذي جاء طول حياته لنشر الديانة
التوحيدية.
اما إذا ذهبنا الى وادي الرافدين، سنجد بان هذه الحضارة بدورها عرفت فكر فلسفي ، تبلور في
تلاث مراحل؛ المرحلة الاولى شملت (الكون والدولة) ، حيث ان الانسان البابلي القديم
جعل الكون يتمحور حول الانسان ، اد ان جملة الظواهر الكونية غير منفصلة عن حياة
الانسان ، فالنظام الكوني اشبه بالدولة ، وكل مكوناته وظواهره تمتل وظائف الدولة .
اما المرحلة الثانية هي (الدولة الكونية) ؛ فالكون عند البابليين يظم كل ما في
الوجود كالإنسان والحيوان والنبات والجماد والافكار المجردة ايضا مثل فكرة العدالة
والحرية، ويقود الدولة الكونية زعامة الهية ، حيث ان هذا الكون مقسم الى قوى وظواهر
سياسية كل منها يحكمها اله، حيث ان جميع الالهة تقوم بتدبير شؤون الكون كلها. المرحلة الثالثة شملت الكون ونظام الحياة، وفي
هذه المرحلة سنتحدث عن قضيتين اساسيتين الاولى وهي اصل معالم الكون الرئيسية، والثانية
كيفية تأسيس نظام العالم. فبالنسبة للقضية الاولى نجد ان الاسطورة ترجح
ان الماء هو اصل الكون ومادته، وان هذه المادة تتألف من تلاث عناصر متداخلة، (
المياه العذبة ، مياه البحر، والسحاب والضباب). اما القضية الثانية فان اساس النظام الكوني هو نتيجة صراع بين
مبدئين هما القوة الدافعة الى الحركة والقوة الدافعة الى السكون. وبالتالي فان الفكر
الفلسفي في واد الرافدين قد تأثر بالبيئة التي يعيشها الانسان البابلي القديم، حيث
ان هذا الاخير قد اكتشف ان قوته تافهة امام قوة الطبيعة، لان وضع نهرين "دجلة"
و"الفرات" والظروف الطبيعية في
العراق قاسية. وتعد الحضارة البابلية اكثر الحضارات اثرا في الحضارة الانسانية ،
باعتبارها قدمت لنا شخصيات بارزة مثل حمورابي صاحب القوانين المشهورة ، وايضا" نبوخذ نصر" وهو اشهر الملوك البابليين
واكبر محارب لليهود ومخرجهم من ارض المسيح ( ارض فلسطين).
و ادا
عرجنا نحو الفكر الفلسفي الهندي القديم سنجد بانه
يشمل مجموعة من القضايا التي كانت صلب اهتمامه وهي اولا "الانسان
الكامل" ،"التصوف" ، "وحدة الوجود"، "التناسخ"
، و"البطولة الدينية". ومن الآراء الفلسفية والدينية التي جسدتها هذه
الحضارة نجد "البوذية" التي نشأة عن تعاليم بودا؛ والتي ترى ان حياة
الانسان في الدنيا شر والم وان التخلص من الشر يكون بالاندماج في الوحدة الشاملة
والعودة الى الذات الاسمى عن طريق الزهد ومحاربة الرغبات والشهوات، فهي طبعا فلسفة
يغلب عليها التشاؤم وتؤكد على وحدت الوجود وتقول بفكرة التناسخ، فقد اقام بودا تعاليمه
على اساس ان الحياة نوع من الالم والالم راجع الى الشهوة والحكمة تكون في قمع
الشهوات.
ثم بانتقالنا
الى الفكر الفلسفي الفارسي نجد انه قد احتضن "الزرادشتية" ، "المانوية"
، و"المزدكية" فماذا نقصد بكل واحد منهما؛ الزرادشتية سميت بهذه التسمية
نسبة الى زراد يشت وهو من اشهر فلاسفة الفرس، وتتلخص آرائه الفلسفية في تقسيم
الوجود الى قسمين؛ روحاني وجسماني ، الامر الذي اعطى لهذه الفلسفة صفة التفاؤل، لأنها
تؤمن بأن النصر لمبدأ الخير . اما المانوية فسمية بهذه التسمية نسبة الى "ماني
بن فاتك"، ومذهبه في الوجود هو نفسه الذي تحدث عنه زراد يشت ، لكنه يضيف بان
النور هو العظيم الاول، باعتباره له صفة الازلية . اما المزدكية فسميت بهذا الاسم
نسبت الى "مزدك الفاريسي" الذي را ان العالم يتكون من اصول ثلاثة؛ وهي
الماء والنار والارض ، فهو يرى انه اذا اختلطت هذه الاصول بنسب متساوية يتكون
الخير ، وادا اختلطت بنسب غير متساوية يتكون الشر.
واخيرا
نتعرف على الفكر الفلسفي الصيني القديم الذي شمل ؛ المبادئ الاخلاقية الكونفشيوسية
والتي تتمثل اولا في الفضيلة باعتبارها اداة لراحة الضمير ، تانيا الايمان بوجود
اله واحد، ثالتا الاعتدال هو مقياس الاخلاق ، رابعا الحكمة هي معرفة الناس
ومحبتهم، وخامسا مقياس الحكومة الصالحة ان يكون الحاكم فاضلا. وقد سميت
الكونفوشيوسية بهذا الاسم نسبة الى كونفوشيوس وهو من اشهر فلاسفة الصين ، حيث تطلق
على مجموع الآراء الفلسفية والمبادئ الاخلاقية التي نشأة عن تعاليم كونفوشيوس ،
والتي تتلخص في قول ان الشخص من خلال تطويره لجوانبه الداخلية يمكن ان يصبح عظيما
في سلوكه الشخصي وفي علاقته مع الاخرين
وبذلك يعم الخير في المجتمع.
من هذا
المنطلق يمكننا القول بان الحضارات الشرقية بلغت درجة عالية من التقدم في جميع
المجالات ، وما تزال اثارها الباقية شاهدة بتفوقها . كذلك الفكر الفلسفي الشرقي
كان مجزئ الى نوعين؛ فكر اسطوري معروف للعامة، وفكر تأملي سيري للكهنة ، حيث كان
الكهنة يورثون افكارهم التأملية لأبنائهم فقط.
وخلاصة القول يتضح لنا ان الانسان مند ان وجد وهو يتطلع بفكره وروحه نحو
خالقه ، وادا اختلفت اسالبه في التعبير فهو لم يفشل ابدا في سر الوجود ووحدانية
الخالق وحكمة الحياة وسيادة الفضيلة والقيم الانسانية السامية ، وهذا ما اكدته
الديانات الالهية طوال التاريخ الانساني. كما تبين لنا ان لكل حضارة على حدى فكرا
فلسفيا جعلنا ننفي الفكرة القائلة بان الفلسفة معجزة يونانية ،باعتبار جل افكار
فلاسفة اليونان هي مستوحاة من رحم الفكر الشرقي القديم، وهذا ان دل فإنما يدل على
دور حكمة الشرق في بزوغ فجر الفلسفة.
المراجع:
- قصة الحضارة
لويل ديو رنت
- مصر الفرعونية ، احمد فخري
- مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، طه باقر
- الفكر الشرقي القديم ، جون كولر
- ما قبل الفلسفة، فرانكفورت ورفاقه
- تاريخ بابل واشور
- الحضارات القديمة ، دياكوف
0 تعليقات