كريمة بكراوي : كرونا المستجد والمجتمع المدرسي المغربي

فيلوكلوب أبريل 06, 2020 أبريل 06, 2020
للقراءة
كلمة
0 تعليق
نبذة عن المقال: كريمة بكراوي كرونا المستجد والمجتمع المدرسي المغربي
-A A +A


إن تفشي وباء "فيروس كورونا المستجد" لا يعتبر جائحة عالمية فقط، بل ظاهرة اجتماعية أكثر منها بيولوجية. فهي عابرة للقارات والأعمار والأجناس والثقافات، منتشرة، وإلزامية وقهرية. تفعل فعلها في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية دون تمييز. وتستفز كل باحث لمناولة مختلف الظواهر الاجتماعية بالدراسة.  من هذا المنطلق سأحاول التطرق إلى أثر هذه الظاهرة الشائع تحت مسمى"COVID 19"، من مدخل سوسيولوجي، انطلاقا من المجتمع التربوي بارتباط مع المجتمع العام، وباعتبار الأول صورة مصغرة للثاني. فالمدرسة هي الكفيلة والمنوط بها تنشئة الفرد وفق نظرية "دوركايم" لإنتاج المواطن الصالح والمأمول. فالسؤال المطروح بقوة هو: كيف يتجلى أثر وباء "كورونا المستجد" على المنظومة التربوية؟ بأي كلفة؟ وما النتائج المتوقعة؟
حقيقة كون "كورونا المستجد" جائحة بيولوجية مهددة لحياة الانسان لا جدال فيها، لا يهم البحث في مسبباتها وكيفية انتشارها. مادام الأهم تحقيق البقاء وممارسة الحق في الحياة للجميع، لتختفي نسبيا، مع هذا الرهان مختلف الحسابات السياسية والاقتصادية ويبرز العقل الايتيقي، واستحضار منظومة القيم لدى الجميع. وعليه، بادرت جميع دول العالم لاتخاذ مجموعة من الإجراءات، وإن اختلفت وثيرتها ونوعيتها، للحد من تفشي هذه الظاهرة والغاية واحدة، ألا وهي "الحياة". والمغرب لا يخرج عن الركب، إذ سارع إلى اعتماد مختلف التدابير الوقائية بدأ من اغلاق المدارس إلى التركيز على الحجر الصحي، وشل حركية الاقتصاد، تحقيقا للضبط الاجتماعي ومنه الأمن. فما أثر ذلك على الناشئة، الأسرة، والمنظومة التربوية في حد ذاتها؟
فقرار توقيف عجلة قطاع التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي بتجميد مختلف مؤسساته التعليمية والتكوينية، لم يكن بالهين على جميع الفاعلين في المنظومة وشركائها والمجتمع ككل، لفجائيته. لكنه كان الطريق المختصر لتقليل تكلفة الوباء وسرعة انتشاره، لما يمثله المجتمع المدرسي من كثلة سكانية مهمة مؤثرة على مجموع مكونات المجتمع. فواقع حال منظومتنا التربوية ومسألة محاولة إصلاحها عبر عدة مداخل كان الجانب التواصلي والرقمي الأقل حظا منها، مع عدم التمرس على تدبير الكوارث والأزمات اللامتوقعة، دافعين للارتجال في محاولة لتحقيق الأمن المعرفي/ التعليمي ومنه الأمنين الصحي والاجتماعي. أمر يجعلنا نقر أن هذا الوباء قوة مهيمنة من مسها بسوء واقتربها من دون حيطة وطقوس مسته بالموت، ومن حاول توظيفها واستثمار وجودها وقوتها بالابتعاد عنها وتجاوز، واعتبارها فرصة للانعتاق وعدته بالخير في المستقبل. لقد ضغطت على مختلف مكونات مجتمعنا في مختلف مجالاته كباقي المجتمعات، فعدلت سلوكاتنا الفردية والجماعية قهرا، وخللت منظومة المفاهيم وبنية القيم الاجتماعية. وجعلت كل ممارس في مجال التربية والتكوين وباحث فيه يدرك أننا مجتمع يعيش ازدواجية: التقليدي والحداثي في جميع مناحي الحياة الاجتماعية؛ وأن منظومتنا التربوية قائمة على النموذج "الدوركايمي"، حيث المدرسة هي المؤسسة الاجتماعية المعنية بتنشئة الفرد وإنتاجه مواطنا صالحا منسجما ومنضبطا للنظام الواحد، مقابل تخلي باقي المؤسسات - خاصة الأسرة - عن دورها التربوي والتعليمي، لما عرفه مجتمعنا من خلخلة لبنياته الاقتصادية والاجتماعية وإعادة بناء وتقسيم الأدوار والوظائف. فما نعيشه الآن ليس أزمة مدرسة وتعليم وإنما تدبير إشكالية عامة تتجلى في المساهمة في البقاء ومواكبة ما فرضته "كورونا"، كواقع نحو التطور مع معايشة الوضع والعصر، بما يستدعيه من حاجات علمية معرفية وتكنولوجية وفق المتاح. تجربة لها ما لها من إيجابيات وسلبيات، فما الآثار المترتبة عنها بالنسبة لكل الفاعلين والظاهرة التربوية عامة؟
بالنظر إلى منظومة التربية والتكوين نجد أن هيمنة الوباء جعلتها تنتج ظواهر تربوية جديدة منها: اعتماد تجربة "التعليم عن بعد" كخيار لا محيد عنه رغم أعطابه، وهذا أمر فرض انفتاح مثلث النقل الديداكتيكي على أقطاب أخرى ومعه تغير العقد والدعامات الديداكيتيكيين، ففرض على كل الفاعلين العمل والجد في بناء الفعل التعليمي التعلمي، والانخراط الفعلي لمحور المنظومة التربوية وبنائه ذاتيا، وفي الوقت ذاته تطوع هؤلاء بلهفة. فالكل يحاول بالمتاح، التوصل والكد من أجل إنجاح العملية التعليمية التعلمية. هذا النمط الجديد المولود قيصريا لا يعوض التمدرس الحضوري ولن يغني عنه، لكن بفضل "فيروس كورونا المستجد"، تمكنت الوزارة الوصية ولو قهرا خوض التجربة وتثمينها وفي الوقت ذاته تقيمها حالا ومستقبلا من أجل تطوير المنصات والموارد الرقمية كما وكيفا، مع التركيز على تنمية الكفايات الاستراتيجية والتواصلية بشكل عرضاني لدى مختلف الفاعلين. واستحضار الاستراتيجيات الفردية الخاصة بهم في تخطيطها الاستراتيجي المستقبلي حسب منظور "مشيل كروزي"، مع تحقيق نوع من الملاءمة بين العلاقات الفوقية والتحتية والظاهر منها والخفي.
أما بالنسبة للتلميذة/التلميذ محور المنظومة وسبب تواجدها فهذه الظاهرة الاجتماعية، أرغمته على بناء تعلماته وتنمية موارده المعرفية والمهارية ذاتيا وأداء دوره كفاعل ترك مساحة المستقبل المنقاد. هي مناسبة للتمرس على التخطيط اليومي للعمل المدرسي وباقي الأنشطة الحياتية بإحكام والتفاوض مع مختلف مكونات الأسرة للتوافق حول العيش المشترك داخل البيت، عن وعي أو دونه. فتحرض التجربة الذاتية للمتعلم في الفعل التعليمي التعلمي عبر التواصل الأفقي مع مدرسيه وغيرهم، وأصبحت الفرصة سانحة لتبع نفس الدرس من قبل أساتذة متعددين وغير المزاولين داخل مؤسسة الانتماء ومع جماعة الأقران بواسطة مواقع تواصلية ورقمية متعددة، وذلك في إطار المقارنة والإغناء. وبناء التعلمات عبر البحث عن معلومات من موارد ومصادر أخرى علمية متنوعة. فلم تعد المعلومة هدفا في ذاتها وإنما المعرفة ومهارة توظيفها، وكيفية التفاعل للوصول إليها. بطريقة غير مباشرة سيفكر المتعلم وينتج بوادر لبنات مشروعه الشخصي، ويمارس خياراته الفردية حسب نظرية "F.DUBET"، ويعطي معنى لتجربته الشخصية التي يستكملها وفق المنطِقَيْن: الذاتي والعملي الاستراتيجي واعتماد مبدأ التجريب الذاتي، لبناء التجربة المدرسية، ومنها إعادة تشكل هويته التلميذية.
وهكذا غدا الأستاذة/ الأستاذ مكرها على إنتاج دروسه رقميا وتطوير مهاراته التقنية والتواصلية، لتجويد منتوجه تحت الرقابة الذاتية والغيرية الخاصة بباقي الفاعلين والأسر وزملاء المهنة وكذا الدارسين والباحثين في المجال، والمتعلم(ة) بالدرجة الأولى؛ معتمدا ما يمتلكه من كفايات تواصلية وتكنولوجية وما توفر لديه من وسائل شخصية، مما ينم عن التطوع ماديا وزمانيا. فالحيز الزمني لإعداد وتقديم درس حضوري يتضاعف لإعداده وتصريفه رقميا. كما أن هذا الوضع المستجد مكن هيئة التدريس من التواصل أكثر مع تلامذتها وأسرهم وبذل جهد أكبر لتحقيق الأهداف المسطرة، مع التعرف عن قرب عما يملكه المتعلم من رساميل رمزية، لتوظيفها في تطبيق التدريس الفارقي بإبداع تجنبا للتجاوز والسحق.
فتجربة التدريس عن بعد جعلت المدرسة في قلب المجتمع عبر حضورها وسط الأسرة، مما جعل هذه الأخيرة ملزمة بأداء دورها التربوي التكوين عبر المواكبة ومسايرة أبنائها في تعلمهم وتمهيرهم، مع السهر على حمايتهم وجدانيا ونفسيا وعقليا، وإرشادهم والأخذ بيدهم والإصغاء إليهم أكثر، للتمكن من تحصيل المعرفة المدرسية، وتطوير قدراتهم وفق المطلوب والمنتظر. أمر يتطلب من الأسر استحضار مفهوم الاقتصاد والتدبير على جميع المستويات مع العمل على تطوير مهاراتها التواصلية والمعرفية لأداء دورها على أكمل وجه ممكن. وعليه دبت الحياة والحميمية داخل الأسرة النواة المغربية، ليس طواعية، وإنما للواجب واستحضارا للاستراتيجيات الخاص بها، من أجل تحقيق المصلحة الفضلى لفلذاتها وفي الوقت ذاته للتعاون مع المجال المدرسي وموارده، وإعادة هيكلته وبناء العلاقة مع كل مكوناته.
فظاهرة "كورنا" جعلت من التربية مدينية وشأنا عاما يتفاعل فيه لتخرج بذلك عن مفهومها التقليدي. فانفتح المجال المدرسي في مختلف أبعاده على المحيط الاجتماعي عبر العالم الافتراضي لكن ببصمة قوية واقعيا. فعلا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت المدرسة في قلب الأسر بحيث هذه الأخيرة كانت لا تتخذ أي قرار يهم سواء أطفالها أو راشديها، إلا بالاستشارة والعودة إلى المدرسة، ثم تجووزت بفعل عوامل سوسيواقتصادية وسياسية خاصة لا داعي لذكرها، وأصبحت مهمشة؛ لتعود بقوة الآن داخل كل أسرة وتكونيها رغما عنها تحقيقا للفعل التعليمي عبر تساوق التجربتين: الشخصية والمدرسية، ووفق منطق تكاملي، لتشكيل التجربة الاجتماعية في تجاوز لعقلانية الفاعل المحدودة حسب "مشيل كروزي" نحو الخيار الأمثل بدل الوحيد.
وفق هذا الطرح، لن أقول تجربة "التعليم والتعلم عن بعد "ستنتج الفوارق المعرفية والثقافية بين مرتادي المؤسسات العمومية والخصوصية على حد السواء، وإنما ستعمقها نسبيا أو بالأحرى ستجليها وتكشف عنها الستار. فالفوارق واردة رغم السعي الحثيث نحو تعميم التمدرس، ومحاولة تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية عبر مجموعة من البرامج المعتمدة في إطار مشاريع الإصلاح التربوي بمعية الشركاء؛ لاختلاف ما يرثه متعلم عن آخر من رساميل مادية ورمزية ولغوية، وما تلعبه الاستراتيجيات والخيارات الفردية والأسرية في توجيه وتحديد مستقبل الناشئة التربوي والمهني ومنه الوضع الاجتماعي. وما ظاهرة "كرونا المستجد" في بعدها الثقافي التربوي إلا مجال للمكاشفة وإسقاط الستار عن الواقع المعيش. فهي محطة للتأمل بعد أن خلخلت تمثلات الفاعلين وباقي مكونات المجتمع حول ذواتهم والمنظومة التربوية والفعل التعليمي ومنه المدرسة، خاصة لدى التلميذ والأسر مما يجعلنا نعيد التفكير في الأدوار وتقسيمها المؤسساتي وسبل تحقيق التعلم آنيا والاستثمار في العنصر البشري تشاركيا وعقلانيا وبفعالية.
وخلاصة القول: إن واقع تجنب الجائحة والتعايش معها، من خلال الوعي بمفهوم الأزمة والطوارئ وسبل المعالجة للحفاض على الحياة بانخراط مختلف مكونات المجتمع لكسب الرهان؛ ومنها تدابير قطاع التعليم على علتها، ما هي إلا آلية لتحقيق التوازن والاستقرار الاجتماعي، والاسهام في نجاح الحجر الصحي، كآلية للضبط الاجتماعي والتخفيف من آليات المراقبة والمعاقبة. والتزام شريحة كبيرة من المجتمع بتحقيق مخرجات المنظومة التربوية، مما يتطلب الانخراط الفعلي للسلطة الرابعة والأسر بالدرجة الأولى وباقي الشركاء إلى جانب الناشئة والأساتذة، وإعادة بناء وتنظيم العلاقة بين المدرسة ومحيطها خاصة مؤسسة الأسرة، وإعادة تقسيم الأدوار التربوية باعتبار الفعل التربوي تشاركي خارج أسوار المؤسسة التعليمية. وانتقل من المجال المعيشي إلى الفضاء الافتراضي، في غياب للسلطة بمفهومها الفيبري -نسبة لماكس فيبرMax Weber-، مقابل حضور العقل الأخلاقي في تجاوز لأزمة القيم تحقيقا لمدرسة مواطنة متجددة فعليا. وعليه فظاهرة "كورونا" قلبت موازين مختلف القوى وخلخلت بنية مختلف التنظيمات، لتترك المجال للإبداع والتمرس على معالجة الأزمة. والأكيد أنه سيكون لها بالغ الأثر في إعادة بناء الوعي الجمعي المغربي وهيكلة مختلف البنيات التحتية والفوقية لمجتمعنا وتقسيماته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فهل يمكن للمنظومة التربوية باعتبارها القلب النابض للمجتمع أن تكسب الرهان؟ بأي سبل؟ وأي دور للباحث السوسيولوجي فيها؟
تلكم بعض التساؤلات التي تفرض ذاتها، ليس لإجابة عنها آنيا، وإنما هي أرضية للبحث السوسيولجي.

 كريمة بكراوي 


شارك المقال لتنفع به غيرك

فيلوكلوب

الكاتب فيلوكلوب

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

0 تعليقات

8258052138725998785
https://www.mabahij.net/