- عقل، معقولية، عقلنة / إدغار موران
- ترجمة/ عبد الوهاب البراهمي
نأت الآن إلى الأدوات التي تخوّل لنا معرفة الكون المركّب. من البديهي أنّ هذه الأدوات ذات طبيعة عقلية . غير أنّه، لابدّ، هنا بالذات، من القيام بنقد ذاتي معقّد لمقولة العقل.
يوافق العقل إرادة امتلاك رؤية متناسقة للظواهر والأشياء وللكون. فللعقل بالتأكيد ميزة منطقية . لكننا ، يمكن هنا أيضا أن نميّز بين معقولية وعقلنة.
فالمعقوليةrationalité هي اللّعب، إنّها الحوار المستمر بين الفكر الذي يخلق البنى المنطقية ، والذي يطبّقها على العالم والذي يتحاور مع هذا العالم الواقعي. وحينما لا يتوافق هذا العالم مع نسقنا المنطقي، فعلينا الاعتراف بعدم كفايته، وكونه لا يلتقي إلاّ مع جزء من الواقع. فليس للمعقولية مطلقا وعلى أي نحو كان، الزعم باستيفاء كليّة الواقع في نسق منطقي، غير أنّ لها إرادة التحاور مع ما يقاومها. ومثلما قال شكسبير:"في العالم أشياء أكثر ممّا في فلسفتنا". فالعالم أكثر ثراء ممّا يمكن لبُنى دماغنا تصوّره رغم كونها جدّ متطوّرة.
ما هي العقلنة rationalisation ؟ تستعمل كلمة عقلنة على نحو دقيق في علم الأمراض عند فرويد وكثير من علماء الطب العقلي. وهي تتمثّل في إرادة سجن الواقع في نظام متناسق. فيٌستبعد كلّ ما يتناقض في الواقع مع هذا النظام المتناسق، ويٌنسى ويحفظ جانبا وينظر إليه كوهم أو ظاهر.
نحن ندرك هنا أن معقولية وعقلنة لهما بالتحديد نفس المصدر، غير أنّه بفعل التطوّر يصبح كل منهما عدوّا للآخر. ومن الصعب معرفة اللحظة التي نمرّ فيها من المعقولية إلى العقلنة؛ فليس بينهما حدود ولا يوجد جرس إنذار. وللجميع ميل لا واع إلى أن نستبعد عن أذهاننا كل ما قد يناقضها، في السّياسة كما في الفلسفة. فنذهب إلى التقليل من شأنه أو دفع الحجج المضادّة. ويكون لنا وعي انتقائي بما يفضّل فكرتنا والإهمال عن قصد لما يحقّرها. وغالبا ما تتطوّر العقلنة في الذهن حتى لدى العلماء.
يمثّل الذّهان شكلا تقليديا من عقلنة هاذية. فأنت ترى مثلا شخصا ينظر إليك بغرابة، فقد تعتبره جاسوسا يلاحقك إذا كان لديك شيء من الهوس. وقد تنظر إلى الناس إذن بريبة على أنهم جواسيس في حين يلحظ هؤلاء نظرتك الغريبة وتزداد نظرتهم إليك استغرابا، وقد ترى نفسك على نحو أكثر فأكثر عقلانية أنك محاط بجواسيس.
لا حدود بينّة بين الذّهان والعقلنة والمعقولية. وعلينا الانتباه باستمرار. فقد كان لفلاسفة القرن 18م، باسم العقل، نظرة محدودة العقلانية جدّا لما كانت عليه الأساطير والأديان. فهم لا يدركون عمق وواقع القدرة الدينية والأسطورية لدى الكائن البشري. لينزلقوا لهذا بالذات في العقلنة، أي في تفسير تبسيطي لما عجزت عقولهم عن فهمه. وكان لابد من تطورات جديدة للعقل للبدء في فهم الأسطورة. وكان لابد من أجل هذا أن يصبح العقل النقدي ناقدا لذاته. علينا أن نقاوم باستمرار تعظيم العقل رغم كونه أداتنا الوحيدة لمعرفة صادقة، شريطة أن لا يكون نقديا فحسب، بل ناقدا لذاته أيضا.
أؤكّد أهمية هذا : فقد كان الأنتروبولوجيون الغربيون في بداية القرن، أمثال ليفي بريل في فرنسا، يدرسون المجتمعات التي يعتقدون أنها " بدائية"، والتي نسمّيها اليوم بالأحرى "مجتمعات الصيادين الجامعين "، الذين صنعوا ماقبل التاريخ الإنساني، هذه المجتمعات المكوّنة من بضعة أفراد، شكّلت، طيلة عشرات الآلاف من السنين، على نحو ما الإنسانية. كان ليفي بريل ينظر إلى من يزعم أنهم " بدائيون" استنادا إلى ما كوّنه عقله الغربي المتمركز على ذاته من فكرة عن الحقبة، على كونهم كائنات طفولية ولا عقلانية.
ولم يجل بخاطر ليفي بريل أن يطرح على نفسه سؤال فيجنشتين حينما قرأ قصّة "الغصن الذهبي" لفرازر:" كيف يمكن لكل هؤلاء المتوحّشين الذين يقضون أوقاتهم في القيام بطقوس استرضائية وسحرية، ورسوم، الخ، أن يغفلوا عن صناعة سهام حقيقية وأن تكون لهم أقواس حقيقية واستراتيجيات حقيقية ؟ "ّ1
وبالفعل، فإنّ لهذه المجتمعات المسمّاة بدائية معقولية كبيرة جدّا، مبثوثة فعلا في كل ممارساتها، في معرفتها بالكون، مبثوثة وممزوجة بشيء آخر هو السّحر والدّين والاعتقاد في الأرواح، الخ. ونحن الذين نحيا في ثقافة طوّرت بعض قطاعات المعقولية، مثل الفلسفة أو العلم، نحيا أيضا في غمرة الأساطير والسّحر، وإن من نوع آخر وعلى صورة أخرى. نحن إذن في حاجة إلى معقولية ناقدة لذاتها؛ لمعقولية في علاقة نافعة بالعالم الخبري، فهو العلاج الوحيد للهوس المنطقي.
للإنسان ضربين من الهوس. أحدهما بالطّبع شديد البيان وهو اللاتناسق المطلق، وحاكيات صوتية للكلمات التي ننطقها صدفة . والآخر أقل ظهورا بكثير، إنه هوس التناسق المطلق. ويتمثّل مصدر مجابهة هذا الهوس الثاني في المعقولية الناقدة لذاتها وفي اللجوء إلى التجربة .
ما كان للفلسفة أبدا القدرة على تصوّر هذا التركيب الرائع للكون راهنا، بمثل ما أمكن لنا ملاحظته بفضل الكوانطا، والكواسارس quasars والثقب السوداء بمصدرها العجيب وصيرورتها الغامضة. وما كان لأيّ مفكّر أبدا تخيّل أن تكون باكتيريا ما كائنا بهذا القدر الأقصى من التركيب. نحن بحاجة إلى الحوار المستمرّ مع الاكتشاف. إّن فضيلة العلم التي تمنعه من الغرق في الهوس، هو قدوم معطيات جديدة باستمرار، تحمله على تغيير رؤاه وأفكاره
1--ل. فيجنشتين " ملاحظات حول الغصن الذهبي لفرازر" من بحث في مجلة العلوم الاجتماعية ،16،سبتمبر 1977،ص 35-36
من كتاب :" مدخل إلى الفكر المركّب" ص94- 97 seuil أفريل 2009
0 تعليقات