- مفهوم البنية عند لوسيان غولدمان
- بقلم: عبد الغني عمراني
تندرج أطروحات البنيوية التكوينية ضمن سياق سوسيولوجيا الأدب، و رائدها الناقد لوسيان غولدمان تلميذ الفيلسوف جورج لوكاتش، حيث استنبط بعض مبادئه الفلسفية و طورها مضيفا اليها كثيرا من المفاهيم الجديدة التي كان لها دور كبير في تطوير مجال علم اجتماع الأدب و اخراجه من نزعة المضمون التي كانت طاغية على تفسيراته.
و الواقع أن خلفيات غولدمان الفلسفية و المنهجية لا تكتفي بلوكاتش فقط، و انما تتعدد هذه الخلفيات لتشمل مرجعيات مختلفة تضم فلسفات مثالية و نفسية و ماركسية و حقول معرفية أخرى ...
و لكن يبقى الاتجاه المثالي هو التوجه المسيطر على تفكيره الذي استمده من فلسفة هيجل المثالية و من أطروحات ماركس الشاب و تصور لوكاتش النقدي ...
يتجلى هذا التصور في البحث عن بنية منسجمة و متكاملة للعمل الأدبي؛ أي ايجاد نسق منتظم دال يضمها. الا أن مفهوم البنية هذا لا يجب أن يحيلنا الى مفهوم البنية الشكلاني _ و ان كان هو مرحلة من مراحل تحليل غولدمان _ بل ان هذا المنظور للبنية يجعل منها بنية وظيفية دينامية. و هذا التفسير أقرب الى مفهوم البنية عند عالم التربية الفرنسي جان بياجيه الذي يوظف مفهومه للبنية في مجال علم نفس التربية و دراساته البنيوية لدينامية الجماعات، و تفسيره هذا لمفهوم البنية يخرجها نسبيا من وظيفتها الشكلية الى وظيفة ديناميكية.
لا تكتفي بنية غولدمان بنفسها منعزلة عن ما يحيط بها، بل هي بنية تحيل على سياقها الاجتماعي و التاريخي الذي تتواجد فيه، يأتي هذا التصور ضمن المرحلة الثانية في التحليل الغولدماني للنص الأدبي، فبعد مرحلة"الفهم" التي تحاول استخراج البنية الشكلية للنص، ينتقل غولدمان الى مرحلة"تفسير" هذه البنية عن طريق ربطها بمحيطها الاجتماعي؛ فتصبح بذلك (بنية دالة) تحيل على ( رؤيةللعالم) تماثلها أو تناظرها. و هكذا فان هذه البنية المتولدة عن النص تحيل على بنيات اجتماعية و اقتصادية و سياسية و ثقافية منسجمة و متجانسة ، و قد تكون هذه الرؤية طبقة أو فئة اجتماعية معينة ( مهنية_ دينية_ حزبية...)
ان المبدع في نظر غولدمان_ و بالتالي انتاجه الابداعي _ هو جزء من بنية اجتماعية أعم يمثل نظرتها الى العالم. و هذا التمثيل لا يكون دوما واعيا بل يكون في كثير منه تصويرا لاواعيا _ حسب التصور الفرويدي _ لانتماء المبدع الاجتماعي و الايديولوجي، و من جهة نظر السلوكيين قد يكون الانتماء الى تيار الجماعة الجارف لا اراديا. و هكذا يصبح الكاتب مثقفا عضويا مع بعض التحريف لهذا المصطلح الغرامشي؛ لأن مفهوم المثقف العضوي عند المفكر الايطالي اختيار واع حيث يختار المثقف أن يكون عضوا فاعلا في اطار مجتمعه.
ان العمل الأدبي في نظر غولدمان هو نتاج دائرة مغلقة مصدرها المجتمع ( المبدع جزء من المجتمع) و غايتها هذا المجتمع (ابراز رؤيته للعالم)، و هذه العملية تتم ضمن بنية ضامة تجمع هذا العمل بمحيطه ، و علاقة هذا العمل بالمحيط أو المرجعية الاجتماعية ليست علاقة ثابت بمتغير، بل هي علاقة ثابت بثابت يقابله، و هي علاقة حتمية و ضرورية في أي نوع من أنواع الأدب سواء أكان كلاسيكيا ( دراسة غولدمان لأعمال راسين و بسكال) أو حداثيا ( دراسته لأعمال آلان روب غرييه)، و هي علاقة بين بنية داخلية( العمل الأدبي)، و بنية خارجية ( المجتمع) في اطار بنية أعم شاملة تجمع بينهما.
ان غولمان في تنازع منهجه بين ماهو داخلي و ما هو خارجي هو محاولة منه الى استيعاب جميع مكونات العملية الابداعية التي كانت تهتم الدراسات السابقة بجانب واحد منها دون الجوانب الأخرى، و قد كان منهج الواقعية الاشتراكية دائما عرضة للاتهام باهمال الجانب الشكلي لصالح جانب المضمون؛ فدراستنا للأدب باعتباره تصويرا للمجتمع ليس مبررا لتجاهل بنيته الفنية و بنائه الهيكلي فهو_ أولا و قبل كل شئ_ " نسق متلاحم لموقف تاريخي يتجاوزه" . الا أن غولدمان _رغم اهتمامه بمستويي العمل الأدبي_ لا يظهر كيف تبرز البنية الاجتماعية من خلال البنية اللغوية (السردية و التركيبة) كلا واحدا لا كما يتصورهما طرفين منعزلين، حيث أغفل _ على حد تعبير بيير زيما _ السياق السردي و التركيبي لبنية النص الاجتماعية؛ اذ يظهر من تحليلاته في مرحلة التفسير أن تحليله يصبح انطباعيا ذوقيا متجاهلا ما توصلت اليه دراسته في مرحلة الفهم و ضرورة توظيفها من أجل اظهار الايديولوجية الاجتماعية التي لا يمكن استنباطها الا من البنية اللغوية للعمل الأدبي.
هذا الخلل في التصور الغولدماني ناتج عن الخلفية المنهجية التي اعتمدها خاصة المذهب المثالي الهيجلي الذي يعتمد منطق التماثل و التناظر بين العمل الأدبي و العالم الخارجي؛ فهو مثلا لا يلتفت الى تناقضات المجتمع و لا الى تناقضات الأفراد داخل طبقة اجتماعية واحدة ؛ اذ ان العمل الأدبي ليس تعبيرا عن " نسق متلاحم لموقف تاريخي" منسجم، بل هو تصوير قد يكون متجاوزا و مناقضا لرؤية المجتمع، أو منتقدا لما يتبناه هذا المجتمع من سلوكيات منحطة كم هو الأمر في المجتمع البورجوازي الرأسمالي الذي يعاني من سيطرة ثقافة السوق و قيم التبادل والتشيئ عند أدورنو و مدرسة فرانكفوت النقدية.
0 تعليقات