درس العقلانية العلمية
- التأطير الإشكالي
- موقف ألبرت أينشتاين - العقلانية الخلاقة
- موقف هانز رايشنباخ - الموقف الاختباري
- موقف غاستون باشلار - العقلانية المطبقة
- خلاثة تركيبية
التأطير الإشكالي لدرس العقلانية العلمية:
مما لا شك فيه أن للعقل دور محوري في العلم، وفي بناء المعرفة العلمية، وفي صياغة نظريات علمية تهدف إلى تقديم تفسيرات عامة عن الطبيعة وعن ظواهرا وعن القوانين التي تحكمها. إلا أن أهمية وحدود العقل في العلم ليست بالبسيطة والواضحة دائما، وخاصة حين يطرح إشكال الأولوية والأسبقية بين العقل والتجربة، وبين البناء العقلي والنظري والواقع التجريبي، لذلك كان من اللازم تسليط الضوء على دور وأهمية وحدود العقل في العلم، من خلال تسليط الضوء على مفهوم العقلانية العلمية. من هنا يحق لنا أن نتساءل:
أي دور للعقل في العلم؟ هل يتخذ العقل دور المبادرة والأولوية في بناء المعرفة العلمية وفي صياغة النظريات العلمية، أم أن المبادرة والأولوية تبقى للتجربة وللاختبار التجريبي؟ وهل يمكن للعقل أن يبني معرفة علمية دونما حاجة إلى التجربة وإلى الاختبار التجريبي؟ ألا يمكن القول أن بناء المعرفة العلمية لا يتحقق إلا من خلال الحوار الجدلي بين مبادئ العقل ومعطيات الواقع؟
موقف العقلانية الخلاقة : موقف ألبرت آينشتاين
انتقد العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين أنصار النزعات الاختبارية، الذين اعتبروا التجربة منطلق ونهاية معارفنا حول الواقع، معتبرا هذا القول ضربا في دور وأهمية العقل في العلم. وعلى خلاف التجريبين يؤكد ألبرت أينشتاين أن العقل هو صاحب المبادرة والريادة في بناء المعرفة العلمية، فالعقل قادر على بناء معرفة علمية بظواهر الطبيعة من خلال الاستنباط المنطقي.
ويظهر انتصار ألبرت أينشتاين للعقل في انتصاره للرياضيات، فهو يؤكد أن الرياضيات تمنحنا مفتاح فهم الطبيعة. كما يؤكد أن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة وإنما في العقل. ومنه نستنتج أن عقلانية أينشتاين عقلانية مبدعة، عقلانية تؤمن بقدرة العقل على فك ألغاز الطبيعة، وعلى صياغة نظريات علمية لا يمكن للتجربة أن تصوغها.
هكذا يتضح لنا أن الأولوية والأسبقية في العلم، تبقى لصالح العقل الرياضي، وللتأطيرات النظرية، أما التجربة فيجب أن تطابق نتائج النظرية
أهمية الموقف
يجد موقف ألبرت أينشتاين أهميته في التحولات الجذرية التي طالت العلم مع مطلع القرن العشرين. فالعلم في هذه اللحظة، لم يعد يتعامل مع ظواهر بسيطة، يمكن إخضاعها للتجربة، وإنما مع ظواهر ذات الطابع الميكروسكوبي يصعب ملاحظتها بالعين المجردة، ومع ظواهر ماكروفيزيائية يصعب التجريب عليها مثل الظواهر الفلكية.
للإغناء: يقول روني طوم:
"إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما... ولا يمكن له لكي يكون علميا وذا مغزى أن يستغني عن التفكير"
لكن ألا يمكن أن يؤدي إغفال التجربة والواقع التجريبي إلى إنتاج معرفة مثالية متعالية عن الواقع المادي؟
الموقف الاختباري: موقف هانز رايشنباخ
يرفض أعلام الوضعية المنطقية،القول بأولوية العقل على التجربة، كما ترفض أي تعال عن الواقع. ومن ضمن هؤلاء نجد الفيلسوف وعالم المنطق والفيزياء الألماني، هانز رايشنباخ، والذي يرفض استعمال مفهوم "العقلانية العلمية" في مجال العلوم التجريبية. فالعقلانية -في نظره- مذهب مثالي مجرد، يعتبر العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، في حين أن التجربة وفق منظور رايشنباخ تعتبر مصدر كل معرفة. لكن إبعاد مصطلح العقلانية العلمية من طرف رايشنباخ لا يعني إبعادا العقل عن العلم، لأن العلم من منظور رايشنباخ يقتضي "استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة"، اي استخدام العقل من خلال القيام بالممارسة التجريبية لا منفصلا عنها، وهذا ما يسميه هانز رايشنباخ ب"المعقولية العلمية". وبالتالي فالاعتماد على العقل فقط بعيدا عن التجربة والملاحظة لا يؤسس معرفة علمية، بقدر ما ينتج معرفة مثالية.
أهمية الموقف:
يجد موقف رايشنباخ، وموقف الاختباريين عموما، أهميته حين يتعلق الأمر بالعلوم التجريبية، فهذه الأخيرة تستند بشكل أساسي على التجربة، لأنها تدرس وقائع مادية يمكن إخضاعها للتجربة.
للاغناء: يقول كلود برنارد:
"ليست النظرية عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف التجربة"
لكن ألا يمكن التجربة تظل عمياء بدون عقل يوجهها وبدون تأطيرات نظرية تنظم اشتغالها؟
موقف العقلانية المطبقة: موقف غاستون باشلار
على خلاف العقلانية المثالية التي ترفض الإقرار بأهمية التجربة ودورها الحاسم في العلم، وعلى خلاف الاختبارية التي ترى أن للعقل دورا ثانويا فقط، يؤكد باشلار على أن كلا من العقل والتجربة في حاجة إلى بعضهما البعض، وأن المعرفة العلمية وخاصة في الفيزياء المعاصرة لا يمكن أن تتم إذا تم الاستغناء عن أحد الطرفين، وهذا ما يؤكده قوله: " لا توجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختبارية عمياء"، ومضمون هذا القول، أن العقلانية في حاجة إلى العودة إلى الواقع، وإلا كانت عقلانية فارغة، وأن الاختبارية يجب أن توجه عبر العقل ومبادئه، وإلا كانت اختبارية عمياء.
في ذات السياق يؤكد باشلار على ضرورة إجراء حوار دقيق ووثيق بين كل من مبادئ العقل ومعطيات الواقع التجريبي، في بناء المعرفة العلمية، وهو الحوار الذي كان غائبا قديما بين العقلانيين والتجريبيين. كما أن باشلار يؤكد أن عالِم الفيزياء المعاصر يحتاج ليقين مزدوج: اليقين الأول هو يقين بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلي، فيكون بذلك مستحقا لاسم الواقع العلمي؛ أما اليقين الثاني فهو يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة.
من هنا يتبين كيف أن غاستون باشلار ينتقد الفلسفة الوضعية كنزعة تجريبية وينتقد الفلسفات العقلانية في تنوعها واختلاف توجهاتها الفلسفية والعلمية على السواء، ويدعوا إلى اعتماد التجربة والعقل معا، وعقد حوار جدلي بينهما.
أهمية الموقف:
يجد موقف غاستون باشلار أهميته، في أهمية كل من العقل والتجربة، فلا يمكن أن ننفي لا أهمية العقل ولا أهمية التجربة في بناء المعرفة العلمية، خاصة وأن ميادين العلم مختلفة ومتعددة، كما أن الظواهر التي يدرسها العلم ليس من نفس الطبيعة، وهو ما يستوجب تعدد المقاربات والمناهج.
يقول إيمانويل كانط :
"على عقلنا أن يتوجه نحو الطبيعة ماسكا بإحدى يديه مبادئه وبيده الأخرى التجربة".
خلاصة تركيبية
حاصل القول أن العقل يبقى عمادا من أعمدة العلم، فهو الذي يمنح المعرفة العلمية وما تتضمنه من نظريات معقوليتها، وترابطها، وتماسكها المنطقي, والاقرار بأهمية العقل، هو إقرار بأهمية الأبنية النظرية، والأنساق الرياضية، وهو أيضا إقرار بأهمية الخيال والتفكير. لكن العقل العلمي لا يمكنه الاستغناء عن التجربة، كما لا يمكنه الانفصال عن الواقع، الذي يلعب دورا أساسيا في العلم، فهو الذي يغني المعرفة العلمية بالحجج والأدلة الواقعية. أما الاختلاف الحاصل بين العلماء والإبستمولوجيين بخصوص الأولوية أهي للعقل والتأطيرات النظرية أم للتجربة والواقع المادي، فمرده خصوصية الوقائع المدروسة، فدراسة واقعة مادية يمكن اخضاعها للمنهج التجريبي ويمكن ملاحظتها بشكل مباشر، ليس كدراسة واقعة لا يمكن ملاحظتها مباشرة، ولا يمكن إخضاعها للمنهج التجريبي، كالظواهر الميكروفيزيائية متناهية الصغر، و الظواهر الماكروفيزياءية متناهية الكبر. وإذا كنا نعتمد في دراسة الأولى على الاختبار التجريبي بشكل أساسي، ففي دراسة الثانية يستحيل ذلك، ويتوجب علينا اعتماد العقل والخيال والاستنباط المنطقي بشكل أساسي. ويمكن أن نختم حديثنا عن العقلانية العلمية، بالتشبيه الذي أقامه فرانسيس بيكون، في حديثه عن الفيلسوف الحق، ونستثمره في الحديث عن العالم الحق. فقد شبه فرانسيس بيكون العقلانيين المتعالين عن الواقع بالعناكب، لأن العناكب تبني بيوتها اعتمادا فقط على مادة تستخلصها من ذاتها. بينما شبه الاختباريين بالنمل، لأن النمل يعتمد فقط على ما هو خارجي. أما الفيلسوف الحق، فشبه عمله بعمل النحل، الذي لا يعتمد فقط على قدراته الطبيعية، وإنما يعتمد على قدراتها الخاصة وأيضا على ما هو خارجي..
0 تعليقات