- المجزوءة: مجزوءة المعرفة
- المفهوم: مفهوم مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
المحور الثاني: التفسير والفهم في العلوم الإنسانية
الإشكال المحوري:
هل يمكن تفسير الظاهرة الإنسانية أم يتوجب فهمها؟ بتعبير آخر، هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية اعتماد التفسير بما هو كشف للأسباب الثابتة المتحكمة في الظاهرة، أم أنه يتوجب اعتماد الفهم بما هو تأويل وإدراك للدلالات والمقاصد؟
الموقف الأول: يمكن تفسير الظاهرة الإنسانية
يرى مجموعة من علماء الإنسان أن الظاهرة الإنسانية تشبه الظاهرة الطبيعية، فهي الأخرى خاضعة لقوانين ثابتة، وبالتالي يمكن تفسيرها كما تفسر الظاهرة الطبيعية، وذلك من خلال كشفها الأسباب الثابتة المتحكمة فيها، وأيضا التنبؤ بها. ومن بين الذين تبنوا هذا الموقف نجد عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت، وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم.
ويمكن في هذا السياق أن نقدم مثال الظاهرة التي قام إميل دوركايم بدراستها دراسة تفسيرية، وعمل على كشف الأسباب الثابتة المتحكمة فيها وهي ظاهرة الانتحار. فظاهرة الانتحار ترتبط بأسباب محددة يمكن كشفها من خلال منهج الإحصاء. ومن بين الأسباب المتحكمة في ظاهرة الانتحار يذكر إميل دوركايم عدم اندماج الفرد في المجتمع، وحتى عندما يكون اندماج الفرد قويا، والمثال على ذلك انتحار النساء بعد فقدانهن لأزواجهن...
إضافة إلى ذلك يمكن القول، أن تفسير الظاهرة الإنسانية أمر ممكن من خلال اعتماد التقنيات الحديثة والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
الموقف الثاني: ضرورة اعتماد الفهم في دراسة الظاهرة الإنسانية.
على خلاف الاتجاه الوضعي في العلوم الانسانية، يرى مجموعة من الفلاسفة وعلماء الإنسان أن الظاهرة الإنسان تفهم ولا تفسر. ومن بين هؤلاء نذكر فيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي (1833-1911م).
موقف فلهلم ديلتاي:
أقام فيلهلم ديلتاي تمييزا بين علوم الطبيعة من جهة، وما يسميه به علوم الروح من جهة أخرى على مستوى الموضوع: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الحية، واختلاف الموضوع يفترض اختلافا في المنهج. يقول ديلتاي في هذا السياق: “إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الظواهر الإنسانية”. فإذا كان بإمكاننا دراسة الظاهرة الطبيعية دراسة تفسيرية، فإنه لا يمكن ذلك مع الظاهرة الإنسانية، بل ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل. لكن على ماذا يقوم المنهج التفهمي؟ يقوم المنهج التفهمي_التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل، والتي تتحدد بالقيم التي توجهها، ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات عبر التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في ذات الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها.
خلاصة تركيبية للمحور:
لقد اختلف علماء الإنسان والإبستمولوجيين حول طبيعة المنهج الذي يمكن اعتماده في دراسة الظاهرة الإنسانية، وإن كان هذا المنهج هو منهج التفسير أم منهج الفهم. فقد أكد البعض على إمكانية التفسير، مبررين ذلك بعدم وجود اختلاف بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، وبالتالي إمكانية دراستها دراسة تفسيرية كما تدرس الظواهر الطبيعية. بينما ذهب البعض الآخر إلى القول بعدم إمكانية اعتماد التفسير، نظرا لاختلاف الإنسان عن الأشياء، وبالتالي وجب اعتماد الفهم فقط بما هو تأويل وفهم للدلالات والمقاصد… ويمكن أن نختم قولنا بموقف الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس والذي أكد أن العلوم الإنسانية تقف موقفا محرجا؛ فالعلوم الإنسانية –كما يقول- “تجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، كما لو كانت عاجزة عن السير في اتجاه التفسير أو في اتجاه التنبؤ”. فالعلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، كما أن تنبؤها ليس يقينيا.
0 تعليقات