آليات إنتاج السخرية في المجموعة القصصية" مرافئ الوجع" للكاتب الحسن أيت العامل.
المباريك النكادي، أستاذ وطالب باحث بسلك الماستر.
إن السخرية باعتبارها آلية من آليات النقد والتقويم، تعمل على تفكيك بنيات نصية مستوحاة من عمق الذاكرة المجتمعية، فالخطاب الساخر عادة ما يكون يتأسس على علامات سيميائية تدفع القارئ إلى كشف المضمر في النصوص الإبداعية، ويشير عبد النبي ذاكر إلى أن "السخرية لا تعني مجرد الاستهزاء والانتقاص من اللامرغوب فيه المبتذل، إنها بديل أخلاقي وإيديولوجي للاَّ أخلاقي الرديء"(العين الساخرة ص 13) أما سعيد علوش فقد عد السخرية منهجا جدليا يعتمد على البعد المعرفي (المرجع السابق). كما أن السخرية "مفهوم غير مستقر مطاط وغامض، فهو لا يعني اليوم ما كان يعنيه في القرون السالفة." (محمد العمري، البلاغة الجديدة التخييل والتداول ص 84)
انطلاقا من هذه الإشارات، المتعلقة بالسخرية من الناحية المفهومية، نشير إلى إن النص الإبداعي يسائل ذاكرة المتلقي، ويختبر كفاءاته التحليلية، التواصلية، والمعرفية، التي بموجبها يكون النص موضع مساءلة قراءة ونقدا، فالخطاب الساخر منفلت عن كل تحديد يحصره في زاوية التلقي المحدود، كونه منفتح ومتجدد.
مسارات السخرية في "مرافئ الوجع"
اتخذت مسارات السخرية في المجموعة القصصية أبعادا عميقة، ترمي، في نظرنا، إلى استنطاق المسكوت عنه، وتقويم أفكار ومعتقدات متجذرة في الذاكرة الجمعية، إذ حاول الكاتب توريط شخصياته في سجالات تفضح كينونتها وموقعها داخل البنية الاجتماعية والثقافية التي تنتمي إليها، بل وجعل منها شخصيات كونية تمردت عن بساطها الجغرافي باحثة عن موقع جديد في الترسمة الكونية للوجود الإنساني.
"مرافئ الوجع" منجز سردي متفرد من حيث تناسق مكوناته السردية وتداخلها، إذ تشكل نسقا ثقافيا أسس لعوالم سردية تخييلية منفتحة، كما يعد من بين الأعمال السردية الرائدة، التي أنتجها الكاتب المغربي حسن العامل، الأخير شق طريق الكتابة السردية الإبداعية ويبحث لنفسه عن موقع ضمن ببليوغرافية السرد المغربي والكوني.
تتعدد تمظهرات السخرية في المجموعة القصصية بتعدد آليات إنتاجها، فالسارد فيها متعدد ولا نجد له أثرا يورطه في أحداث النص، بل يعمل على توريط شخصيات أخرى ليظهر في صورة المتملص من وقائع الأحداث ومآلها، لكننا نجده، أحيانا، يرتدي جبة المسخور منه، وهذا ملمح فني تتسم به هذه المجموعة القصصية، وسنكشف، في مقالنا هذا، عن آليات اشتغال السخرية في النص، ودلالاتها الفنية والاستيطيقة.
إن الكشف عن تجليات السخرية في النصوص والخطابات يتسم بنوع من الصعوبة، ويتطلب إلماما، مقبولا، بسياق إنتاج النص الخارجي والداخلي، قصد فك شفراته والكشف عن معانيه المُضمرة، وفي هذا السياق نشير إلى أن موقع القارئ ضمن الفعل الساخر جزء لا يتجزأ من الصورة العامة لإنتاج المعنى.
آليات إنتاج السخرية في "مرافئ الوجع" من خلال قصتَي: "الكوجيطو" و"عايشة قنديشة"
أولا: الكوجيطو
الوصف:
يظهر الوصف في المجموعة القصصية باعتباره نواة منسجمة تنصهر فيها جل الآليات، إذ تجاوز الكاتب التوظيف التقليدي والنمطي لهذه الآلية، وحاول أن يجعل من الوصف أداة إخبارية تكشف عن تناقضات المجتمع والتمزق الذي يعتري البنية الاجتماعية، فهو يصف الذات البشرية كونها تركيبة درامية تشتغل بمنطق المواربة، جاعلا من الوصف زاوية يضمر من خلالها المواقف الساخرة، التي تكشف موقف الشخصيات إزاء وضع اجتماعي معين.
بالرجوع إلى المتن السردي، نستحضر، داخل المجموعة القصصية "قصة الكوجيطو" (المجموعة القصصية ص 129) التي حضر فيها الوصف بشكل متفرد، ويعزى ذلك إلى رغبة الكاتب في تشكيل نسق فلسفي يجد جذوره مبثوثة في الوعي الجمعي، فخلق بذلك صورة ساخرة تنزع إلى الكشف عن الفهم المختلف لمفهوم "الشك" عند ديكارت، فأيقظه من قبره ليحدثه عن الارتباك الذي خلفه "الشك" في البنية الثقافية والاجتماعية.
ويحضر الوصف في قصة "عايشة قنديشة" (المجموعة القصصية ص 172) باعتباره آلية ذات حمولة تاريخية يحضر فيها التخييل بوصفه "مادة تاريخية متشكلة بواسطة السرد" (التخييل التاريخي، عبد الله إبراهيم ص5) إذ يتمظهر الوصف الساخر، في القصة، باستحضار الذاكرة الشعبية والمخيال الثقافي السائد، آنذاك، حول شخصية "عايشة قنديشة" كاشفا التصورات الذهنية للعامة إزاء هذه الشخصية، إذ اقتبس الكاتب مادته الوصفية من التاريخ ومزجها بمختلف سياقات النص، فالوصف في هذه القصة ارتقى إلى مستوى البلاغة، لأن الواصف يرمي إلى نقل تفاعل الذاكرة الجمعية مع "أسطورة عايشة قنديشة" التي يعرفها الصغار والكبار. إن ما جعل الوصف آلية ساخرة في القصة هو رغبة "عايشة قنديشة" في الزواج بالسارد "الضمني"، وهذا ما أضفى على الوصف طابعا ساخرا ينزع إلى الكشف عن الفوضى التي يعيشها مع تعاسة حظه، مُصورا مشهدا اجتماعيا تغيرت فيه موازن الحياة.
آلية الحوار:
الحوار في قصة "الكوجيطو"
يعد الحوار من آليات الكشف عن حقائق الشخصيات وعلاقاتها بعوالم السرد، وعبره تعرفنا شخصيات القصة وانطباعاتها إزاء مفهوم "الشك"، إذ كان ديكارت في حوار مع الموتى الذين أسعدهم تواجده بجانبهم، ووجد القارئ نفسه أمام حوار جدلي خاض فيه الموتى، معتمدين حمولة فلسفية معرفية تهدف إقناع المتلقي ونقله من وضعية اليقين إلى وضعية الشك، تشكيك في حوار الموتى، تشكيك في طبيعة الوجود الإنساني، وتشكيك في اشتغال الذاكرة الإنسانية بعد الموت، وبذلك، نقلنا الكاتب من عالم السخرية البسيطة إلى عالم السخرية الواعية، التي تؤسس لفهم معرفي يهدف إلى إثارة قضايا فلسفية إنسانية.
الحوار في قصة "عايشة قنديشة"
تتميز هذه القصة بهيمنة "الميتا حوار" كون الشخصيات خاضت حوارا مع كائن خرافي له امتداد في المخيال الشعبي المغربي، إذ تعرفنا، بواسطة الحوار، أن أسطورة "عايشة قنديشة" لها الرغبة في الزواج وبناء أسرة شأنها شأن جميع النساء، مما يوحي إلى أن الكاتب يرغب في إعطاء شرعية إنسانية لهذ الشخصية الخرافية، بالرغم من اختلاف الروايات المقدمة في هذا الباب من قبل المؤرخين. وبذلك، فالحوار أسس لخطاب ساخر نلمسه في أقوال الشخصيات وردود أفعالها إزاء بعضها البعض.
التناص وإنتاج السخرية في "مرافئ الوجع"
وتعتبر جوليا كريستفا "التناص" أحد مميزات النص الأساسية، والتي تحيل على نصوص أخرى سابقة أو معاصرة لها. والتناص " تعالق وتداخل بين نصيين أو بين مجموعة من النصوص، عن طريق الاستشهاد أو السرقة أو التلميح" (أحمد الشايب، الضحك في الأدب الأندلسي ص 207) يؤدي وظيفته الساخرة، حين يراهن السارد على استقطاب صورة ساخرة من خطاب أخر.
التناص الساخر في قصة الكوجيطو
تتعدد تجليات التناص في هذه القصة، نظرا لكونها ذات طابع فلسفي ومعرفي، ويتبين ذلك من خلال العنوان الذي اختاره الكاتب للقصة، باعتباره عتبة مهمة في وضع خيط ناظم بين العنوان والنص، إلا أن المفارقة التي سيكتشفها القارئ هي براعة الكاتب في تنزيل مفهوم فلسفي وازن إلى مرتبة السرد، فقربنا من الكوجيطو الديكارتي بطريقة ساخرة تنزع إلى تداول المعرفة عبر تجريدها من التعقيد المفهومي، وبذلك، يمكن أن نقول إن ما أشرنا إليه هو تناص مع الفلسفة ومع الكوجيطو الديكارتي.
هذا بالإضافة إلى وجود عبارات تتقاطع مع مجالات أخرى كالدين والتاريخ، إلا أن المثير في هذا التوظيف هو التكثيف المحكم للأحداث، وتقديمها في قالب ساخر يجعل القارئ في تفاعل مستمر مع أحداث القصة، متتبعا مفهوم الكوجيطو ومدركا مجالات تداوله.
التناص الساخر في قصة "عايشة قنديشة"
إن أول ما يثير دهشة القارئ هو تسمية "عايشة قنديشة" باعتبار هذا الاسم فيه تناص مع المخيال الشعبي والثقافي المغربي، كونه، كذلك، يثير السخرية لدى بعض القراء الذين لهم دراية مسبقة بهذه الشخصية، لكن السارد كسر أفق انتظار القارئ فجعل من عايشة قنديشة شخصية لها وجود واقعي، كونها ترغب في الزواج، وبعد ذلك التكاثر، وقابل هذه الرغبة اندفاع السارد نحو عايشة قنديشة راغبا، هو الآخر، في الزواج بها، وهذا ما أضفى على النص طابعا ساخرا يرمي إلى تكسير ما هو معتاد، وإعادة بناء تفاصيل الحياة الاجتماعية بواسطة السخرية الهادفة.
وظف الكاتب على لسان السارد وشخصيات القصة عبارات تتقاطع في مضمونها مع مجالات متعددة لاسيما الدين، ويتمظهر ذلك في توظيف آيات قرآنية في شكل أقوال صادرة عن شخصيات القصة، كما أن القصة تتضمن أسماء شخصيات أخرى نجد لها امتداد في الثقافة الشعبية المغربية منها اسم "حمُّو" الوارد في القصة.
استثمارا للمعطيات السابقة، نقول إن المجموعة القصصية "مرافئ الوجع" للكاتب المغربي الحسن أيت العامل، عمل قصصي رائد ومنجز سردي متفرد، تمكن من خلاله الكاتب تصوير وضع اجتماعي ووعي ثقافي ينزع إلى الفوضى والارتباك، فكان طموح الكاتب ترتيب هذه الفوضى، وضبط هذا الارتباك، وهذا ما تأتى للكاتب الحسن أيت العامل، على اعتبار أن هذا العمل متفرد من حيث المادة السردية، نظرا لكونه نقل واقعا اجتماعيا مبتورا في حاجة إلى من ينظمه ويضمد جراحه.
0 تعليقات