يقول أفلاطون: "إن الأخلاق هي مربية الإنسانية". وهذا يعني أن الأخلاق تضطلع بمهمة المساهمة في إيقاظ الإحساس بالقيم الأخلاقية لدى الإنسان، وتدفعه إلى أن يسلك سلوكًا أخلاقيًا ينسجم مع معايير المجتمع الذي يعيش فيه، ومن ثم فإن التفكير في مفهوم الأخلاق على أنه اختيار من بين مسائل ذات قيمة يفترض سؤالًا مهمًا هو: هل يقوم الفرد باختيار غير أخلاقي؟ وهل يختار عن قصد البديل الأسوأ بدلًا من البديل الأفضل؟ إن الإجابة عن هذا السؤال، قبل الإجابة عن سؤال المقال الرئيس، تقتضي الإشارة إلى اتجاهين رئيسيين: (بروبيكر، 1967)
الاتجاه الأول:
يرى أنصاره (الوجوديون) أن القيم فردية تمامًا وذاتية خاصة، وأن الفرد يصل إلى اختياره طبقاً لما يبدو له أنه الأفضل، أي على أساس ما يفضله. فحقيقة أن الفرد يختار مهنة الطب بدلًا من التجارة، يدل في ظاهره على نظامه القيمي الشخصي، وعلى هذا الأساس تكون كل أنواع الاختيار أخلاقية. أما فيما يتصل بالاختيارات اللاأخلاقية، كما يرى أنصار هذا الاتجاه، فيمكن معرفتها على أساس معيار خارجي آخر مختلف عن نظام القيم عند الفرد.
الاتجاه الثاني:
يرى أنصاره (المثاليون) أن الفرد يختار دائماً الأفضل بالنسبة له، ولكن ما يعدّه ذا قيمة قد لا يكون كذلك في الحقيقة. ويؤكد فلاسفة هذا الاتجاه على أن الاختيار يكون أخلاقيًا عندما يقوم على الخير في حقيقته. ومن هنا فإن الإنسان يختار ما هو خير في ظاهره ولا يختار طريق الشر عن قصد. فهو يختار دائمًا البديل الذي يعتقد أنه الأفضل، ولذلك يكون فشله الأخلاقي نتيجة نقص في معرفة الخير.
إن هذه الإجابة التي تشكل ثنائية في الرأي حول موضوع الاختيار الأخلاقي تثير مفهومات تربوية عن الحياة الأخلاقية. فحسب الرأي الأول: يجب أن تُنمي التربية الاختيار الفردي الحر الذي توجهه التفضيلات الفردية، لا المعايير الخارجية أو العامة للقيم. كما أن التربية، حسب هذا الرأي، لا بد أن تسعى من أجل عدم إملاء القيم السياسية أو الأخلاقية التي لا تتناسب مع فلسفة الحرية في التربية، لأن أنصار هذا الرأي يؤكدون على منح الحرية للطالب في تقرير كيف وأين ومتى يتعلم المهارات والمعارف التي تساعده على التعلم بدرجة أفضل.
ووفقاً للرأي الثاني: يجب أن تستهدف التربية توصيل المعرفة بما هو خير عن طريق وصف البدائل الممكنة مع تحليل مميزات كل منها. وعلى هذا الأساس فإن معايير الموسيقى الجيدة والأدب الجيد يمكن أن تُستخدم في اختيار المواد في مثل هذه الدراسات بصرف النظر عما إذا كان التلميذ يستمتع بها في البداية أم لا، على أن يقدم التبرير الدقيق لهذه المعايير حتى يستطيع التلميذ أن يفهم صحتها بنفسه. بناءً على وجهتي النظر المتقابلتين يصبح السؤال الآتي مشروعًا: هل الأخلاق في الفعل أم في الفرد؟
إن الإجابة التي قدمها بعض فلاسفة التربية المعاصرة عن هذا السؤال تمثلت بالمقارنة بين الدافع الداخلي والسلوك الخارجي للفرد، وقد وضحا ذلك من خلال التمييز بين مفهومين أساسيين للطبيعة الأخلاقية هـما مفهوم تقليدي وآخر حديث (بدوي، 1976):
أما المفهوم التقليدي للأخلاق، يذهب إلى أن ثمة كيانًا خاصًا أو مبدأ أساسيًا تقوم عليه الأحكام المعيارية كلها، وهذا الكيان أو المبدأ يجعل قوانين الطبيعة بمنزلة قواعد مثالية كاملة يترتب على الأخلاق محاكاتها. وهذا يعني بوجه خاص أن ثمة صفة أخلاقية طبيعية تُلازم الوجود البشري ولا تنفصل عنه، وهي تؤكد على أن يكون السلوك الأخلاقي رجوعًا إلى الطبيعة الإنسانية لتحقيق أغراضها الفطرية.
في حين أن المفهوم الحديث للأخلاق، يرى أن الأخلاق معرفة وسلوك، معرفة عملية ينشدها الناس على نحو يعارض الطبيعة، وسلوك مُشكل يتصوره البشر ويطلبون تحقيقه على نحو أن تكون لحياتهم الإنسانية طبيعة ثانية يختارها الناس لأنفسهم، فيضيفون إلى الطبيعة طبيعة أخلاقية تمثل القيم التي يختارونها، ويرجحون جانبها على جانب التمسك بالمعطيات الفطرية أو الطبيعية الساذجة والعفوية.
ومن ثم، فإن سؤال هل الأخلاق في الفعل أم في الفرد؟ فقد افترض بعض الفلاسفة (سقراط) معتمداً على المفهوم التقليدي للطبيعة الأخلاقية أن الأخلاق ميدانها الأفعال الخاصة، فالإنسان يحب الخير ويكره الشر ويحترم الفضيلة ويبتعد عن الرذيلة، ومن هذا المنطلق تذهب المدرسة السقراطية إلى أن تلك الطبيعة الأخلاقية هي طبيعة الإنسان الذاتية التي تجعل العلم فضيلة في نظر (سقراط وأفلاطون) أو تجعل الفضيلة اختياراً واعياً في نظر (أرسطو). وعليه فإن المشكلات التي تتصل بالجنس والسرقة والقتل تعدّ أعمالاً غير أخلاقية، بينما العفة والقناعة والإخلاص والسمو تعدُّ أعمالًا أخلاقية. ولهذا، فإن تعريف الأخلاق بارتباطها بالعمل القصدي والاختيار من بين قيم بديلة تضع الأخلاق في الفرد لا في العمل أو الفعل ذاته.
من ناحية أخرى يرى "فيليب فينكس" أنه قد يكون هناك ارتباط بين اختيار الفرد وسلوكه الخارجي أو الظاهري، ولكن الناحيتين ليستا متطابقتين بأي حال من الأحوال، والقيم التي تتحكم في الاختيار هي في الغالب مختلفة تمامًا عن تلك القيم التي تُعبّر عن نفسها في العمل. مثال ذلك: الفرد قد يكون مؤدبًا نحو فرد لا لأنه يحترمه (كما يبدو في سلوكه الظاهر)، ولكن لأنه يرغب في أن يكسب حبه الذي يستطيع أن يضفيه عليه، وفي هذه الحالة فإن اختيار الأدب في السلوك قد يكون غير أخلاقي (أناني) بدل أن يكون أخلاقيًا كما يبدو في السلوك الخارجي للفرد (فينكس، 1965).
ولكن المشكلة التي تثيرها هذه الثنائية، تذهب إلى أبعد من المقارنة بين الدافع الداخلي والسلوك الخارجي، فالطبيعة الإنسانية، من وجهة نظر "فينكس"، معقدة لدرجة أن القيم الحقيقية التي تتحكم في الاختيار لا تظهر غالباً للفرد نفسه. ولهذا السبب يؤكد أن كثيرًا من الناس لا يعرفون في كثير من الأحيان دوافعهم الحقيقية ومغزى سلوكهم الفردي الحقيقي شأنهم في ذلك شأن من يلاحظهم عرضيًا من الخارج. وفي مثل هذه الظروف من الجهل بالنفس يشتق قرار الاختبار من القيم الحقيقية لا من القيم الشعورية الظاهرية. مثال ذلك:
الشاب الذي يقرر أن يصبح مدرسًا بدلًا من أن يدخل ميدان التجارة. هذا الشاب قد لا يكون اهتمامه الحقيقي الرغبة في مهنة التدريس بقدر ما يرغب في ممارسة السلطة على الآخرين. وهنا قد لا يكون هذا الشاب على علم بدافعه الحقيقي، غير أنه يقوم باختياره لمهنة التدريس على أنها مهنة نبيلة في حين أن التجارة، من وجهة نظره، عمل أناني. وفي هذه الحالة يؤكد "فينكس" على ضرورة الحكم على أخلاقية القرار على أساس صلتها بالاهتمام القوي لا بالرجوع إلى ما يتحدث عنه الشخص من مثالية مزعومة.
ولهذا السبب نجد بعض الفلاسفة يستبعدون أن تكون للأخلاق صلة بالعمل الخارجي في ذاته، ويرون أنه ليس بالضرورة أن تكون لها (أي الأخلاق) صلة بالقيم التي نتحدث عنها شعورياً عند اتخاذ القرار، ولكن لها صلة بالدوافع الحقيقية التي غالباً ما تكون خفية والتي تحدد الاختيار، على أن تكون أولى صفات العمل الأخلاقي هي روح الانتظام، أي روح الاتفاق مع قواعد موضوعية قبلاً.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام ثنائية أخرى تتصل بالدوافع التي تحدد الاختيار، فهناك الدوافع الشعورية من جهة والدوافع اللاشعورية أو الخفية من جهة ثانية. غير أن بعض الفلاسفة رفض مثل هذه الثنائية واستبعد أن يكون الإنسان أخلاقياً بطبعه أو أن تكون الطبيعة الأخلاقية –كما يقول "روسو"- غريزة إلهية معصومة أو شبه معصومة، ذلك أن الأخلاق، كما يرون، لا توجد في الطبيعة، لا في الطبيعة الكونية الخارجية، ولا في الطبيعة الإنسانية الداخلية الفطرية، وإنما الذي يوجد هو الاستعداد للتخلق، بل الاستعداد للتميز بين قطبي الخير والشر، وهذا الاستعداد هو الذي يفيد منه التخيل والوعي والإدارة بالتربية وبالابتكار وبتضافرهما معاً على خلق عالم يناسب عالم الطبيعة بشكليها الخارجي والنفسي والغريزي.
ويرى "بيري" أن هذا المفهوم بدأ حين فطن الباحثون إلى تمييز الأحكام المعيارية ومنها الأحكام الأخلاقية التي تتناول ما ينبغي أن يكون عن الأحكام الوجودية التي تقتصر على وصف ما هو موجود ومنها الأحكام العلمية الوضعية، ولهذا فإن العلم الوضعي يتطلع إلى معرفة القوانين، وهو يقتصر على أن يشاهد وينقّب ويجّرب ولا يجاوز معطى الطبيعة أو الواقع، بينما تتطلع الأخلاق إلى معرفة المبادئ أو القواعد وهي تضيف إلى ما تشاهد إلزامًا خلقيًا، لأنها دعوة قيمية تتضمن حرية ومسؤولية ودعوة لتحقيق ما ينبغي أن يكون (بيري، 1968).
ولذا، فإنه من أجل تجاوز هذه الثنائية يجب أن تهتم التربية الأخلاقية بالقيم الحقيقية التي تحكم السلوك الحر، لا بمجرد أنماط معينة من السلوك المقبول، ولا يكفي أن نُعلّم الفرد كيف يجب أن يسلك بتدريبه إطاعة ما يسمى بقانون أخلاقي للسلوك، أو بأن نقدم له مجموعة من المثل العليا التي قد ينافق في الحديث عنها ويتخذها وسيلة لتبرير نفسه لنفسه أو للآخرين، بل يجب أن تعمل التربية من أجل نمو الشخصيات الأخلاقية التي تقدر الخير والحق والجمال، والتي يتحدد سلوكها في أساسه من الداخل.
مراجع المقال
- بدوي، عبد الرحمن (1976) الأخلاق النظرية، (ط2) الكويت، وكالة المطبوعات للنشر والتوزيع.
- بروبيكر. س. جون (1967) الفلسفات الحديثة للتربية، ترجمة نعيم الرفاعي، دمشق، المطبعة التعاونية.
- بيري، رالف بارتون (1968) آفاق القيمة (دراسة نقدية للحضارة الإنسانية)، ترجمة عبد المحسن عاطف سلام، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
- فينكس ه فيليب (1965) فلسفة التربية، ترجمة محمد لبيب النجيحي، القاهرة، دار النهضة العربية.
الأستاذ الدكتور صابر جيدوري، استاذ فلسفة التربية في جامعتي دمشق وطيبة في المدينة المنورة سابقا، سوري الجنسية من محافظة درعا، مقيم حاليا في باريس.
0 تعليقات